بعد تجربة طويلة ومهمة في الكتابة القصصية القصيرة، أثمرت سبعة مجاميع قصصية، صدر بعضها في المغرب والبعض الآخر في المشرق، وهي مجموعات قصصية أخلصت فيها المبدعة المغربية ربيعة ريحان لمدينتها آسفي، ولهموم مجتمعها، والتقطت أدق تفاصيله وقضاياه الشائكة من فقر وبطالة وتهميش وبؤس وعنف وتخلف، وخاصةً هموم نسائه العانسات والمتزوجات والمطلقات وهواجسهن وتطلعاتهن وأحلامهن المجهضة. انتقلت في عام 2013، كغيرها من كتاب القصة أو الشعر، إلى الكتابة الروائية. صدرت حينها روايتها الأولى "طريق الغرام" عن "دار توبقال للنشر" في المغرب، لتشد الانتباه إليها كروائية مبدعة، ورسّخت موقعها في المشهد الروائي المغربي مع روايتها الثانية "الخالة أم هناني" الصادرة عن "دار العين" المصرية عام 2020، وهي الرواية التي حققت انتشاراً مهماً وحفاوةً كبيرةً من قبل النقاد بالرغم من أنها تزامنت مع جائحة كورونا.
في بداية هذا العام، صدرت روايتها الثالثة "بيتنا الكبير" عن الدار المصرية نفسها، وأثبتت من خلالها الكاتبة ربيعة ريحان أن السرد الروائي هو عالمها الأثير، ومجالها الأرحب
في بداية هذا العام، صدرت روايتها الثالثة "بيتنا الكبير" عن الدار المصرية نفسها، وأثبتت من خلالها الكاتبة ربيعة ريحان أن السرد الروائي هو عالمها الأثير، ومجالها الأرحب الذي يمكن من خلاله أن تُعمِل خيالها الواسع وما تحبل به ذاكرتها من قصص وحكايات، وأنه الجنس الإبداعي الذي يسع عوالمها السردية، بل المراحل التاريخية الممتدة منذ فترة الاستعمار إلى الآن، والتي صارت الكاتبة تنبش فيها وتقلبها، إيماناً منها بالدور الكبير الذي على الكاتب القيام به. أولاً من باب الكشف عن العديد من الحقائق ولو روائياً، وثانياً لتوثيق تلك الذاكرة الجماعية، ولفترة مهمة من تاريخ المغرب، والتي أراد لها البعض أن تدخل في دائرة النسيان. ولكن رواية "بيتنا الكبير"، أبت إلا أن تكون نموذجاً للرواية الملحمية التي تعيد فيها ريحان الاعتبار إلى الذاكرة وإلى مغرب السيبة وهدر الحقوق بسبب طغيان المستعمر وأذنابه من "قُيَّادْ" (حُكَّام) وعملاء، استباحوا كرامة الإنسان المغربي، ولكن الجد "كَبُّورْ" انتفض ضد كل هذا الظلم والحيف الذي يطال ضعاف البشر، وتمرد على كل أشكال القمع، وهجر العائلة مفضلاً بناء مملكته الخاصة بعيداً عن الكل، وهي المملكة التي تستعيدها الحفيدة فريدة بكثير من الحب والإعجاب والسخرية أحياناً.
كثافة القصّ وشعرية اللغة
تتميز قصص الكاتبة ربيعة ريحان بكثافة السرد وشعرية اللغة الباذخة، والاهتمام بأدق التفاصيل التي تخلق للقارئ الدهشة والمتعة، بل والسخرية من مواقف وأوضاع اجتماعية برعت في تناولها وفي تقديمها بشكل مختلف عما هو سائد في الكتابة السردية النسائية العربية والمغربية على وجه الخصوص.
منذ مجموعتها القصصية الأولى "ظلال وخلجان"، الصادرة عام 1994، وربيعة ريحان تبهر بكتاباتها، وبعوالمها الحميمية، ولغتها الشفيفة والشاعرية، التي تحلّق بنا في ثنايا الحكي القصصي، إلى درجة أنها لم تخيّب نبوءة الكاتب السوري الكبير حنا مينة، الذي ذكر في تقديمه لمجموعتها الأولى: "لقد وُلدت مع هذه المجموعة قاصّة رائعة في المغرب العربي كله، ومعها سيكون للقصة العربية القصيرة شأن آخر مع قصص المرأة في الوطن العربي بأسره... هذا ليس استشفافاً، إنه اعتراف موضوعي".
إن هذا الاعتراف من روائي عربي كبير قبل نظرائه في بلدها المغرب، وتواتر أعمالها القصصية: "مشارف التيه" 1996، و"مطر المساء" 1999، و"شرخ الكلام" 2002، و"بعض من جنون" 2002، و"أجنحة للحكي" 2006، و"كلام ناقص" 2010، هو ما جعل منها قلماً قصصياً متميزاً في المغرب، وبوّأ تجربتها القصصية مكانةً خاصّةً، وهو ما جعل الناقد المغربي عبد الحميد عقار يصف تجربتها ذات لقاء تكريمي لها في مدينتها آسفي، قائلاً: "تجربة تحيى فيها القصة انتظامها الخاص، ويلمس فيها القارئ وعياً جمالياً متأصلاً يقظاً. تجربة تميزها دقة الإصغاء والمشاهدة، والتقاط ما هو قصصي في اليومي، والشيء الذي له قدرة على خلق الدهشة لدى القارئ".
لم تخيّب نبوءة الكاتب السوري الكبير حنا مينة، الذي ذكر في تقديمه لمجموعتها الأولى: "لقد وُلدت مع هذه المجموعة قاصّة رائعة في المغرب العربي كله، ومعها سيكون للقصة العربية القصيرة شأن آخر مع قصص المرأة في الوطن العربي بأسره..."
إن جمالية القصّ لدى ربيعة ريحان، التي أخلصت للكتابة وتفرغت لها بعد الإقدام على المغادرة الطوعية لمهنة التعليم، تتأسس على جملة من العناصر أولها حبها للسرد والقصّ وبراعتها فيهما، وثانيها بناؤها لعالم قصصي متوازن يجمع بين السرد والحوار والوصف والاسترجاع والمونولوج الداخلي، وثالثاً اعتمادها على لغة شعرية تصويرية جميلة، وقبل هذا كله التفاتها إلى الطبقات المهمشة والمستضعفة ونقلها لقصصهم وحكاياهم البسيطة والمؤلمة من دون مخاثلة، وانتصارها للقيم الإنسانية النبيلة، وقبولها الآخر المختلف من دون إطلاق أحكام أو جعل الكتابة منبراً مقدساً.
لقد تمكنت المبدعة ربيعة ريحان عن حق من ملامسة الكثير من القضايا الاجتماعية والنفسية المتعلقة بالنساء المنزويات في البيوت الضيقة، كما أثارت أسئلةً عميقةً تتعلق بالذاكرة والتاريخ والنضال السياسي والثقافي الذي خبرته من قرب، كما تمكنت من الكتابة عن الرجل وعن أدق أحاسيسه الخاصة، وتحديداً في نصها القصصي "ذكورة" الذي تُرجم إلى أكثر من لغة عالمية، وتم إدراجه في المقررات الدراسية في كبريات الجامعات الأجنبية، ومن يقرأ هذا النص المتوافر إلكترونياً، لا يظن أن كاتبته امرأة تخفّت في جسد سارد ذكر.
"طريق الغرام"... الحب في زمن الإنترنت
مع رواية "طريق الغرام"، دشنت ربيعة ريحان مسيرتها الروائية، مستثمرةً تيمة الحب في زمن الفضاء الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، وستغرف من معين السرد الروائي الذي سيعطيها مساحات أكثر للبوح والتعبير، وبسط شخصياتها ووصف الفضاءات والعوالم التي تغامر باقتحامها بكل صبر وأناة.
لم تعد كثافة القصة، التي مارست إغواءها على الكاتبة لسنوات خلت، تفي بالغرض لديها، ولهذا نجدها تقبل على الرواية، بالرغم من اللجّة والعته والحمّى المحيطة بالمتسابقين والمتلهفين على تدبيجها بغية الظفر بإحدى جوائزها العربية. وتشتغل عليها بصبر كبير وقنوط من تمرد الشخصيات وانفلات الأحداث أحياناً أخرى، ولكنها في النهاية تقدّم عملاً روائياً ممتعاً يُقبل عليه القراء، لجدة مواضيعه وإشكالاته وتنوع أساليبه السردية، وهو ما جعل الناقد المغربي محمد برادة يقول عنه: "لا شك أن ربيعة ريحان، حققت في روايتها الأولى هذه، إنجازاً نصياً يستدعي الاهتمام، لأنها وجدت شكلاً ملائماً يولي الاعتبار لوسائط التواصل الحديثة، ووظفت لغةً ذات مستويات تستجيب لتنوع مقامات السرد والحوار، والتقطت مظاهر دالةً من مدينة آسفي المحافظة وأجواء النفاق العائلي، ولامست عاطفة الحب في علائقها بالكلمات الرومنطيقية والرغبة التي تتغذى بأحلام الجسد والروح".
"الخالة أم هاني"... الكتابة لمقاومة الفقد
لم تكتمل فرحة الكاتبة ربيعة ريحان بعملها الروائي الأول "طريق الغرام"، لأنها وهي في غمرة التوقيعات واللقاءات الاحتفائية بهذا العمل الروائي، ذاقت مرارة الفقد، إذ رزئت في ابنها أيمن، رحمه الله، في 8 تموز/ يوليو عام 2015، وهو في ريعان شبابه، ما جعلها تتوقف عن الكتابة، وتلوذ بالصمت وتعتزل كل الأنشطة. لكن من يعرف ربيعة يؤمن بأن الكتابة قدرها المحتوم، وملاذها الآمن، الذي عادت إليه بعد صبر ومكابدة، فكانت العودة برواية "الخالة أم هاني" الصادرة عام 2020 عن "دار العين" في القاهرة، وهي رواية مهداة إلى روح ابنها أيمن، قاومت من خلالها الكاتبة جسارة الموت وعادت فيها من جديد إلى مسقط رأسها آسفي، وإلى حضن الخالة وعوالم الحكي السفلية لمدينة أُجهضت أحلامها بعد خروج الاستعمار الفرنسي وبداية الحصول على الاستقلال، إذ تقدّم تشريحاً دقيقاً لبنية المجتمع المغربي من خلال سيرة "الخالة أم هاني"، السيدة التي تزوجت خمس مرات وتطلقت خمس مرات، وعانت كثيراً من سلطة هذا المجتمع الذكوري الذي يقدس الرجل، ومن قساوته، والذي يعرّض المرأة للمهانة والإذلال والتحقير ولأبشع أنواع الاستغلال.
كانت العودة برواية "الخالة أم هاني" الصادرة عام 2020 عن "دار العين" في القاهرة، وهي رواية مهداة إلى روح ابنها أيمن، قاومت من خلالها الكاتبة جسارة الموت وعادت فيها من جديد إلى مسقط رأسها آسفي
وعبر حوار بين جيلين مختلفين، جيل الشابة شيماء والخالة أم هاني، الأم الثانية التي ربّتها، تسلط الكاتبة الضوء على أوضاع المرأة في مغرب خمسينيات القرن الماضي، ومعاناتها مع التسلط وجبروت العقلية الذكورية السائدة، كما تنقل تمثلات المجتمع ومواقفه المتضاربة من العديد من القضايا، والتي يدخل فيها الجانب الديني والأخلاقي والعرف والتقاليد، وأبرزها وضعية المرأة المطلقة، والمرأة التي ترفض الزواج بعد تجارب عاثرة، والمرأة التي لم تنجب، والتي تمردت واختارت العيش وحيدةً على أن تظل تحت رحمة رجل لا تحبه ولا يحسن معاملتها كإنسانة.
وعن هذه الرواية واختيارها لجغرافية ثقافية لا تكاد تخلو منها أعمالها، وهي حاضرة آسفي بشكل خاص، ومنطقة عبدة بشكل عام، يقول الناقد المغربي الراحل إبراهيم الحجري إن ربيعة ريحان "تستلهم متخيلها المتنوع من تاريخ المدينة القريب، الذي يبدأ مع نهايات الفترة الاستعمارية، وبداية عهد الاستقلال، ولأن مدينة آسفي محسوبة على المدن المهمشة والبعيدة عن مصادر صناعة القرار، فإن السرد، لم ينشغل بالقضايا الكبرى، مثل السياسة والاقتصاد والعلاقات مع الآخر ‘البَرَّانِي’ (الأجنبي)، بل سلطت الضوء على القضايا المجهرية، والتفاصيل الدقيقة التي قلّما ينتبه إليها الناس والمؤرخون خاصةً -وربما تكون في العادة هي الأهم- وعلى الشخصيات المهمشة التي لم تكن في الواجهة في أي وقت مضى، معيدةً بذلك كتابة تاريخ مختلف ومغاير، ومن منظور أدبي لمدينة لم ترَها كما كانت تحلم، وتتمنى وتريد، شأنها في ذلك شأن بقية المدن المغربية الأخرى".
آسفي مخزون الذاكرة
عن الحضور القوي لمدينة آسفي في أعمالها القصصية والروائية، تقول الكاتبة ربيعة ريحان في تصريح لرصيف22، إن الأمر يعود ربما إلى "اللحظات التي أكون فيها مفعمةً بالحياة في تلك المدينة العتيقة، لحظات استحضار ذاكرتي الطفولية وذاكرة الشباب، تلك الأيام التي عشتها بـ"سحريّة" تامة في الماضي، ليس لأنها سعيدة كلّياً، ولا العكس، لكن الحنين إليها هو الخلفية المحفزة التي تجعل الارتباط بالحاضر ممكناً، وهي طريقة أتمكّن عبرها من العثور على أصوات سردية كثيرة تتسق مع الماضي، لكنها أيضاً تكتب عن الحاضر، وبذلك فأنا لا أستطيع أن أنسى آسفي وهي لن تنساني، بل ستظل مشاريعي كلها حولها، لأنه لا زالت في مخزوني إشارات وتلميحات وتجارب، يتم استدعاؤها أحياناً في رحلات ذهنية جانبية، فأجد أنها قصص وحكايات وسرديات صالحة للكتابة، نستحضر عبرها تاريخها وناسها وكل التقاطعات في حضارتها من أمجاد وانتكاسات وتطلعات ومشاغل، في تنويع أحاول ألا تتكرر معه الأحداث والمصائر والمطروقات، فأنا على حذر من الوقوع في فخ التكرار، وإلى الآن أتصور أنني لم أقع في تلك الورطة بعد".
"بيتنا الكبير" بيت للذاكرة
وكما هو متوقع، ما زالت آسفي وتاريخها وأناسها وحكاياتها حاضرةً في كتابات ربيعة ريحان، ففي روايتها الجديدة "بيتنا الكبير" الصادرة في القاهرة، تمضي الكاتبة في المسار ذاته الذي اختطّته منذ مجاميعها القصية وروايتيها السابقتين، إذ تحضر الحكايات وقصص العائلة الممتدة من الجد إلى الأب والأبناء والأحفاد، كما تحضر مدينة آسفي عاصمة جهة عبدة والمناطق المحاذية لها، وتحديداً نهر تانسيفت الذي يصب في المحيط الأطلسي قرب القلعة القديمة أو ما يُعرف بالصويرة القديمة.
قوة الكلمة المكتوبة لديها أصبحت بمثابة "تمرين على التعايش مع الألم، حتى نستطيع أن نعيش وأن نتسامى من دون أن ننسى
تحضر المنطقة شامخةً بتضاريسها وتاريخها العريق وشخصياتها وأحداثها، التي ما زال التاريخ يذكرها وتعمل الرواية على صياغتها بطريقة خاصة تجمع بين التوثيق والتخييل، وذلك حتى لا يطويها النسيان وتتعرف عليها الأجيال الصاعدة وتستفيد من إيجابياتها ومكاسبها، وتقف على خيبات أناسها وانكساراتهم من مغرب الاستعمار والاستقلال إلى الآن.
في "بيتنا الكبير"، الرواية التي تقع في 304 صفحات من الحجم المتوسط، والتي اختارت لها ربيعة ريحان عنواناً رمزياً ذا إحالة كبيرة إلى المغرب ككل، فبيتنا الكبير ليس إلا المغرب بكل تنوعه وتجذره وجبروت قوّاده وزعمائه في زمن "السِّيبَة"، وصلابة مواطنيه الأصيلين ومقاومتهم لبناء البلد، وفتح آفاق للحرية والحلم والعيش بكرامة للأجيال اللاحقة.
حضور الذاكرة الجمعية والعائلة
وعلى عكس أعمالها السابقة، ففي "بيتنا الكبير" يجتمع كل ما هو مختلف، وتحضر الذاكرة الجمعية والعائلة الممتدة من دون أن يسقط العمل في نمذجة "الرواية العائلية" كما يشتهيها النقاد، كما تحضر السير الذاتية والتاريخ المنسي والتوثيق والتخييل، وتحضر معاناة البطل الجد وغيره من المناضلين الغيورين على الوطن والساعين إلى فرض حق الإنسان في الكرامة والعيش الكريم، وتحضر النساء زوجات الجد الأربعة والعمات وزوجات الأعمام بكل رضوخهن ودونيتهن وشموخهن أحياناً، وذلك عبر الحفيدة فريدة التي تنقل من خلال بناء سردي دائري ملحمة الجد كَبُّورْ وتمرده على الطغيان ودفاعه المستميت عن الرجل المسكين بائع البيض، الذي لم يجد ما يمنحه للجابي المتجبّر لرد غضبه، ما دفع الجد إلى دفع الظلم عن البائع وتلقين الجابي درساً كلّفه النأي والإبعاد عن مدينته إلى عالم وفيافي أخرى، أسس في هضبتها مملكته الخاصة، وتزوج فيها من أربع نساء هن: سلطانة، وسحابة، وحليمة ومحمودة، وهي أسماء عريقة لنساء آسفي، وأنجبن له عائلةً كبيرةً مكونةً من خمسين فرداً) 46 ذكراً وأربع إناث(، هم أعمام وعمات الحفيدة فريدة، التي حاولت نقل هذه الملحمة الأسطورية سينمائياً عبر سيناريو محبوك، خاصةً بعد وفاة الجد الذي ربّاها، بعدما تزوج والدها وتحول البيت الكبير، الذي شهد على أمجاد الجد وبطولاته: أملاكه وأراضيه وخيوله وبنادقه وملابسه وعطوره ونخوته، إلى إرث موزع على الأبناء، الذين لم يرثوا من الجد أي شيء من قيمه الإنسانية النبيلة، وتحولوا إلى مجرد موظفين إداريين أو مشتغلين في أسلاك التعليم، فيما أخفقت الحفيدة في عملها السينمائي، ولجأت في النهاية إلى توثيق هذه الذاكرة روائيّاً عبر سرد لا يخلو من طرافة وتشويق وحزن، لحياتها مع الجد في الهضبة في غياب الأب أحمد الذي ترك أمها عقيدة التي تزوجها إرضاءً للجد، وفضل العيش في المدينة برفقة المرأة التي أحب وأنجب منها خمسة أبناء، وسرد لبطولات الجد كَبُّورْ وتحصينه هضبته ومملكته وأبناءه وأحفاده من بطش العدو، ودفاعه عن وطنه وانخراطه في المقاومة للذود عن حرمة البلد من بطش الاستعمار الغاشم، إذ جاء في الرواية على لسان الساردة في الصفحة 280 أن الجد "أثبت أنه قادر على صياغة الحياة من حوله، بعزيمة لا تلين، ولم يكن أبداً من فصيلة أولئك الذين لا تحفظ الرمال بصمات أقدامهم أكثر من ساعات".
توضح الكاتبة أن في رواياتها الكثير من السيرة الذاتية ولكنها تعمد عن قصد إلى تغيير الأسماء والأشكال والصفات والطباع، وأسماء الأشخاص والأماكن أحياناً، والطبقة الاجتماعية. المغربية ربيعة ريحان في "بيت الرواية الكبير"
"بيتنا الكبير" رواية ملحمية بامتياز، تتكون من 30 فصلاً يتشابك فيها حكي الأجيال مع توثيق الذاكرة التي لا تجهد الكاتبة نفسها في استدعائها، لأنها كما تكشف لرصيف22: "مأخوذة حتى الساعة بذلك الماضي، أنظر كثيراً إلى دواخلي وأغرف منها عند الكتابة، ولقد علمتني الرواية طريقةً جديدةً للبوح، وطرح الأسئلة، والرد عن بعضها أحياناً، والاحتجاج أيضاً. أفعل ذلك لأجل أن أفهم نفسي وأفهم ما حولي، وأعتقد أن الصدق في ذلك، هو ما يقرب العمل إلى القارئ، بالرغم من كل الجهد الذي أبذله للتحايل على تضييع المعالم، وإعادة تشكيل المكان باتجاهات مغايرة للواقع".
ولا غرو إن اختتمت روايتها بقولها: "احترامي لذاتي وأصالتي، هو ألا أطمس ذاكرتي".
الرواية والسيرة الذاتية
توضح الكاتبة أن في رواياتها الكثير من السيرة الذاتية ولكنها تعمد عن قصد إلى تغيير الأسماء والأشكال والصفات والطباع، وأسماء الأشخاص والأماكن أحياناً، والطبقة الاجتماعية، بجعل الغني فقيراً والفقير غنياً، واللعب على الترتيب الزمني وتلك الأشياء الحقيقية الأخرى، وذلك بطريقة تجعل العمل نصاً أدبياً، وليس نصاً سِيَرِيّاً، وسرداً متخيلاً يتسع أمامه الأفق، "ليعطي الفرصة الأفضل لكتابة أشياء وتفاصيل دقيقة أخرى اكتسبتها من القراءة والحياة، وذلك داخل مساحات حرة تبعدها عن ربطي شخصياً بالمبثوث في الرواية. كل هذا لا علاقة له بالخوف من أن يُنظر إلى الرواية كعمل سيري، بقدر ما هو حرص على أن ما كتبته وبنيته يمتلك مقومات عمل سردي، عمل يومي صبور ومجهد، لأن التفاصيل لا تأتي كلها بسهولة، فتسليط الضوء على بعض الأمور الغامضة وغير المركزة، وغياب الذي سيحدث بعد كل فكرة وأخرى، وبعد حدث وآخر، وطريقة استحضار كل ذلك وتخيله من مناطق غير معروفة أحياناً، أو غير واضحة بالقدر الكافي، جدير بالمعالجة، وبالوعي بمدى أهميته، لخلق الالتباس الذي يبعد ما نعرفه معرفةً شخصيةً، نحو عالم آخر نكتشف من خلاله المجهول، ذلك الذي لم نعشه، لكن يمكننا الاستفادة منه، كمعرفة جماعية تستدعيها الكتابة".
وتسرّ الكاتبة لرصيف22، أنها فكّرت أكثر من مرة في كتابة سيرة ذاتية، لكن بعد روايتها الأخيرة "بيتنا الكبير" تقول إن "أجزاءً كبيرةً من هذه الذاكرة قد حضرت بشكل أو بآخر، وإن كنت لست فريدة الحفيدة في رواية "بيتنا الكبير" على كل حال، لكنني أجد نفسي فيها كثيراً، وربما كما في بعض القصص، وفي "الخالة أم هاني" و"طريق الغرام"، لكن يبقى الوعي بمدى قوة الكلمة المكتوبة، سبيلاً إلى الاستفادة من ذلك العالم الذي عشته، وحدثت فيه أشياء أخرى جديرة بأن تُكتب، وأن تخضع للمساءلة والتمحيص؛ أمراض المجتمع الكثيرة غير العادلة، والفقر والجهل والعنصرية والتهميش والذكورية و...".
الكتابة تمرين على التعايش والأمل
الكتابة والقراءة كانت ملاذ الكاتبة ربيعة ريحان في زمن كورونا. ففي فترة الجائحة تمكنت من كتابة روايتها الثالثة، هي التي عادةً ما تأخذ مسافةً زمنيةً بين عمل وآخر، ولا تبحث عن التراكم ولا ترغب في تكرار نفسها، وتسعى دائماً إلى تقديم الممتع والجيد لقرائها، وذلك لأن قوة الكلمة المكتوبة لديها أصبحت بمثابة "تمرين على التعايش مع الألم، حتى نستطيع أن نعيش وأن نتسامى من دون أن ننسى"، كما تقول.
وتضيف في تصريحها لرصيف22، أنها بعد مرور الأسابيع العصبية الأولى، ملأت وقتها بالقراءة والكتابة، وكان ضرباً من التكيف، واستعادةً قسرية لعاداتها اليومية داخل حدود البيت، فوجدت في الكتابة عالماً خصباً مفعماً بالأفكار والخيال من أكثر اللحظات سحريةً في خلق الانزياحات، لهذا كان للكتابة والقراءة أيام كورونا، كما توضح، "دور كبير في جعلي أنجح في الاقتراب من نفسي أكثر، ومن جرحي ومن ألمي، بالتفكير في غيري".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...