تنحني الريح القادمة من عُمان على القلعة العتيقة، تتعرف على بنائها المعماري رغم اختلاف الجغرافيا، وكأنها شجرة اقتُلعت من وطنها الأم. تلتف حولها، تستمع إلى الصوت الخارج من أعماقها المهجورة، تميز غناءها الشجي الذي يتواءم مع الرقصات الشعبية لسكان عُمان.
تسامرها، تحكيان حكايات عن زمن مضى، وأيدٍ شكلت حجارتها، وصراعات، وحروب مرت عليها، وجيوش مازالت آثار أقدامها على أعتاب أبوابها.
تمر الريح بلطف على وجوه المارة من سكانها الطيبين، وكأنها تعرفهم، وتميز ملامحهم ولون بشرتهم وأزيائهم، ولغتهم التي تماهت مع العمانيين وأصبحت ضمن نسيج المجتمع، وإحدى أكثر اللغات تداولاً في الداخل.
هي جوادر الباكستانية أو "باب الريح" التي تعرف أيضاً بلحاف الفقراء، في تلك المنطقة التابعة لإقليم بلوشستان، قد يتعجب القارئ ويتساءل: ماذا يربطها بسلطنة عمان؟
ذلك سؤال طرحته على نفسي يوماً ما بشكل مختلف، عندما جمعني مقعد إلى جانب سائق تاكسي باكستاني في مدينة دبي الإماراتية، اتخذت عيناه شكل الهلال، بينما لم تقو شفاهه على إخفاء سعادته، وهو يقول لي إن أجداده عمانيون، وإنه ينتمي إلى "جوادر".
في ومضات، تخيلت لو تبادلنا المقاعد، ولم يهاجر أجداده، بينما قرر أجدادي الهجرة إلى المناطق التابعة لعُمان، من بندر عباس إلى شرق أفريقيا وجزر القمر، هناك حقيقة ننكرها دوماً: الحضارة كلها نتاج للهجرات، وإننا أبناء الأرض قبل الأوطان.
تتسلل إلى الذاكرة صورة وثيقة تنازل عُمان عن جوادر، والتي تعود إلى عام 1958، موجودة بمتحف القوات المسلحة في قلعة بيت الفلج بمسقط، إحدى أشهر القلاع العمانية، التي اعتمدها إمام وحاكم عُمان، سعيد بن سلطان عام 1845، كحصن عسكري.
البداية
بدأت علاقة التوأمة والانسجام، وربما العشق بين عُمان وجوادر منذ القرن السادس عشر، عندما رست السفن البرتغالية على سواحل عُمان، وسيطرت قواتها على الموانئ، وهو ما حدث أيضاً مع ميناء جوادر، وحين رحل البرتغاليون بعد مرور 150 عاماً على احتلالهم، استعادت عُمان عافيتها، وفتحت أمامها مجدداً طرق التجارة البحرية، ووصلت أمواج التأثير العماني في عهد اليعاربة إلى جوادر عام 1741، والجدير بالذكر أن سكان جوادر ينتمون إلى أعراق وطوائف متعددة، غالبيتهم من البلوش.
تبلورت العلاقة أكثر في عهد الدولة البوسعيدية العمانية، وغدت المنطقة الواقعة في شبه القارة الهندية أحد حصون الدفاع عن عُمان، ولعب أبناؤها دوراً هاماً في الصراعات الداخلية العمانية، خاصة بعدما اتخذ سلطان وإمام عُمان، سلطان بن أحمد، جوادر كملاذ له، ووهبه حينها حاكم مقاطعة كلات، ناصر خان، قطعة أرض على الشاطئ، أصبحت فيما بعد قاعدة له.
تقول الكاتبة والباحثة العمانية، هدى الزدجالي، في كتابها "جوادر تحت السيادة العمانية": "قد تباينت الآراء في طبيعة تلك المنحة، إذ يراها (البلوش) منحة مؤقتة لقاء نصف دخلها الذي يدفع للخان، بينما يرى العمانيون المنحة باعتبارها أمراً دائماً مقابل توفير البوسعيدين الحماية البحرية لسواحل مکران البلوشية".
هي جوادر الباكستانية أو "باب الريح" التي تعرف أيضاً بلحاف الفقراء، في تلك المنطقة التابعة لإقليم بلوشستان، قد يتعجب القارئ ويتساءل: ماذا يربطها بسلطنة عمان؟
وتفيد المصادر البريطانية عدم وجود دليل مكتوب يوضح طبيعة تلك المنحة أو يثبت ملكية السيد سلطان لجوادر، ومهما يكن حال تلك المنحة، فإن السيد سلطان بن أحمد بعد وصوله إلى قمة السلطة في عُمان عام 1792، جعل جوادر قاعدة لحملاته على الساحل العربي المقابل، واتخذ عدداً من التدابير لضمان بقائها تحت السيادة العمانية، فأرسل إليها قوة بقيادة القائد العماني يوسف بن علي، وعينه والياً عليها ليعزز من سلطته في المنطقة، وأمده بالجند ليحكمها، ويبني بها قلعته.
وتعزز ارتباط جوادر بعمان، التي تسمت بعدها بـ"سلطنة مسقط وعمان وجوادر".
ازدهرت موانئ جوادر بشكل ملحوظ مع الوجود العماني في المنطقة، ورغم بعدها الجغرافي توالى الولاة العمانيون عليها، ولعبت دوراً أساسياً في الحياة السياسية العمانية، وتأثرت بالأوضاع السياسية والاقتصادية في مسقط، كما أصبحت مطمعاً للعديد من الدول.
التحق بلوش جوادر بإحدى فرق الجيش العماني، المسماة بفرقة مشاة مسقط النظامية، وخاضوا الصراعات العمانية الداخلية منذ عام 1866 أي بعد اغتيال السلطان ثويني بن سعيد، وفي فترة لاحقه اتخذت المعارضة العمانية جوادر مركزاً لإسقاط الإمامة في عُمان.
التعليم
كان حال جوادر في التعليم متقارب من عُمان، حيث تنتشر الكتاتيب الإسلامية لتعليم القراءة والكتابة.
وفي بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، أسس السلطان سعيد بن تيمور أول مدرسة نظامية في جوادر، وحملت اسم "المدرسة السعيدية"، مثل المدرستين الأوائل عند شقيقاتها البعيدات، مسقط وصلالة بالداخل العماني. كان هناك سعي لتطوير التعليم وتعيين الكفاءات من المعلمين الذين كانوا من عُمان وفلسطين بينما الطاقم الإداري من العراق.
فصول حكاية تنازل عُمان عن جوادر طويلة، والمفاوضات استمرت لسنوات، والرفض العماني للاقتراح كان منذ عام 1917، وأعيد اقتراح تأجيرها للهند عام 1927، وبعد استقلال باكستان زادت وتيرة الضغوط البريطانية على عمان، خاصة أن مخاوف الباكستانيين ارتفعت بعد توقيع عُمان معاهدة صداقة وتجارة مع الهند، ووصلت الضغوط البريطانية إلى درجة ربط تأييدها للسلطان سعيد بن تيمور في المؤتمرات والمحافل الدولية ضد معارضيه بتخليه عن جوادر.
أهالي جوادر
هل كان أهالي جوادر يفضلون أن يكونوا باكستانيين أم عمانيين؟
يجيب عن ذلك نیل مكلود، وزیر الشؤون الخارجية في سلطنة مسقط وعمان (1953-1958) في كتاب "الملخصات التاريخية للخليج العربي 1907-1953 The Persian Gulf Historical Summaries 1907–1953"، قائلاً: "بعد إجراء استفتاء عام لآراء أهالي جوادر عام 1950 حول استعادة باكستان إقليم جوادر، فضل جميع السكان البقاء تحت سلطنة مسقط وعُمان، وأنهم على ثقة بأن السلطان لم ينوِ مطلقاً المتاجرة بهم أو التخلي عن أرضهم لباكستان".
في أواخر عام 1958 انتهت المفاوضات، وأسدل الستار على السيادة العمانية لجوادر، ومع رحيلهم عن المنطقة ساءت أحوالها الاقتصادية، وتوقفت السفن عن الرسو في الموانئ، وغادر التجار العمانيون والعرب كما هاجر العديد من أبناء جوادر إلى مسقط.
النساء في جوادر مازلن يمارسن العديد من التقاليد العربية، وأن بعض الرقصات الشعبية خارجة من رحم الفنون العربية، كما أن العديد من الأهالي ما زالوا يرتدون الدشداشة العمانية في المناسبات الخاصة، مثل الأعراس والأعياد وصلاة الجمعة
طالعت بحب كلمات أهالي جوادر عن عُمان على المواقع الباكستانية، يذكر كريم أنه لا يزال يحمل جواز سفر عمانياً قديماً كان لوالده منذ القرن العشرين، مثل العديد من كبار السن في المنطقة، ويضيف أن سكان جوادر لا يمانعون انتقاد الحكومة الباكستانية، لكنهم ينزعجون عندما يقول أحدهم شيئاً ضد حكام عمان، ويعلل ذلك قائلاً: "حالتنا هي حالة خاصة، هناك حب وحب فقط".
بينما لا تنسى سكينة بيبي ذات 80 ربيعاً، رائحة عود البخور العماني، تقول: "كلما سأل أحد الأقارب في عمان عن أنواع الهدايا كن نساء جوادر يطلبن العود".
وتؤكد سكينة على أن النساء في جوادر مازلن يمارسن العديد من التقاليد العربية، وأن بعض الرقصات الشعبية خارجة من رحم الفنون العربية، كما أن العديد من الأهالي ما زالوا يرتدون الدشداشة العمانية في المناسبات الخاصة، مثل الأعراس والأعياد وصلاة الجمعة.
لا توجد نقطة نهاية لصلة جوادر بعُمان، وكأن الريح حملتها وغيرت موضعها على الخريطة لتصبح في قلب عمان، وجزءاً أساسياً وأصيلاً من الثقافة العمانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.