شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هل يحقّ لي أن أكتب عن دبي التي منحتني سقفاً حين طُردت من مدينتي؟

هل يحقّ لي أن أكتب عن دبي التي منحتني سقفاً حين طُردت من مدينتي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 28 مارس 202211:41 ص

منذ أن انتقلت إلى دبي، وأنا أسأل نفسي كل يوم أسئلةً متشابهةً. كان ذلك بعد شبه انهيارٍ لعائلتي وشبه فشلٍ لثورة دامت لأكثر من سنة، وبعد أن هاجر كل من كان يضيف إلى حياتي المملة شيئاً. 

هاجرت أنا أيضاً لأن بيروت لم تعد تطاق. كل ما كان قد بقي في المدينة لم يعد يطاق.

أتيت إلى دبي عالمةً أن هذا المكان لا يشبهني؛ كل ما فيه من رأسمالية، ومثالية، ومساحات شاسعة، يذكرك بالفراغ الذي تعيش فيه... ولا يشبهني.

هاجرت أنا أيضاً لأن بيروت لم تعد تطاق. كل ما كان قد بقي في المدينة لم يعد يطاق.

أتيت وكنت أعلم أنه سيكون من الصعب جداً بناء علاقات والشعور بالانتماء، فأنا أصلاً لست جديرةً جداً في بناء العلاقات منذ أن كنت في بيروت، إلا أنني لم أتخيل أن معظم الناس هنا يعيشون في فقاعةٍ كبيرة، كبيرة جداً.

كم الفردية في التعامل، والمفاهيم الخطأ في كل المعايير، والسطحية، والتفاخر، والاستعراض... الأفضل، والأروع، والأجمل... كل ذلك يمثّل الفقاعة التي يعيش فيها الناس هنا ويمثل أيضاً ثقافة المنافسة على اللا شيء. 

لست أدري إن كان ذلك لأننا كائنات تسعى إلى الاندماج والتأقلم مع أي واقع، أو لأن المدينة تبتلعك عند الوصول، أو لأنك أنت بعد كل ما عانيت تريد أن تغرق وتستسلم لأي شيء فتُبتلع.

لست أدري إذا كان العيش في فقاعة أسهل من العيش في مقاومة دائمة لعدم الدخول فيها.

كيف يدرك الناس أنهم يعيشون في فقاعة ولا يحاولون الخروج منها؟ كيف يمكن لي أن أذهب إلى بيروت ولا أدرك أن كل ما أعيشه هنا هش جداً؟ كيف لي أن أصل إلى مدينتي المظلمة ولا أشعر بلسعة توقظني من مفعول إبرة المورفين تلك. 

أتيت إلى دبي عالمةً أن هذا المكان لا يشبهني؛ كل ما فيه من رأسمالية، ومثالية، ومساحات شاسعة، يذكرك بالفراغ الذي تعيش فيه... ولا يشبهني

هناك أيام قاسية جداً بحيث أنني لا أقدر على النهوض من سريري الكبير جداً، ولا أقدر على الخروج من غرفتي الفارغة جداً. لا يمكنني الاستماع إلى فيروز والشعور بالانهزام، ولا يمكنني رؤية أحد من أصدقائي. أشعر كأن أحداً حقن في جسدي مخدراً لأفكاري وكبّلني. لا أدرك من أنا ولا أفهم لماذا هذه الحياة غير عادلة. ألا يكون لك حرية الخيار في أين تريد أن تكون، ليس عدلاً. أن تعود إلى أين تريد أن تكون، وتشعر بأن الخوف سيلتهمك، ليس عدلاً. أن تعود وتعي أن كل شيءٍ أصبح ذكرى غير قابلة للخلق مجدداً، ليس عدلاً. 

أعود وأهرب من أفكاري وأجمع نفسي مجدداً، وأنفض غبار الاكتئاب عني، فأيضاً لا يحق لي أن أكون مكتئبةً وأنا أعيش في "أروع" الأماكن في العالم. كيف تكون مكتئباً وأنت تعيش في مبنى يناطح السحاب؟ كيف تكون مكتئباً وأعمق محادثة تصادفها تتناول نمطيةً مفحلةً؟ كيف تكون مكتئباً وأكبر مشكلاتك أن تجد سيارة أجرة في كعب المبنى؟ كيف تكون مكتئباً وأنت تجني مالاً كثيراً وتصرفه كي تملأ الفراغ الذي تعيشه؟

عندما كنت في بيروت أستمع إلى "ربى" تقول: "فقاعتي الجميلة... احميني من كل سوء"، كنت أفرح جداً، وكنت أعلم أنني أعيش في فقاعةٍ في بيروت، إلا أنها كانت جميلةً جداً، وغنيةً جداً... لم تعد نفسها، ولم أعد أفرح.

أكتب اليوم إلى أصدقائي. أكتب اليوم إلى كل من صادفته في أيامي الجميلة في بيروت. أكتب إلى كل من يحارب يومياً الغرق في حفرة الرأسمالية. أكتب اليوم إلى الذين يفرحون لأسباب بسيطة. أكتب اليوم إلى الشوارع وإلى ذكرياتي... أكتب اليوم إلى الناس الذين يعيشون هنا، ويحاولون بناء حياة جديدة. أكتب إلى ذلك الشخص الذي سيقرأ هذا المقال، وسيقول: ماذا تريدين؟ أكتب إلى صديقتي المكتئبة في بيروت:

لا أعلم إذا كنا سنخرج يوماً من هذا الحبس الجزائي. لا أعلم إذا كنت سأعود يوماً إلى ما كنت عليه قبل أن تنفجر المدينة في وجهنا. لا أعلم إذا كنت سأشفى يوماً مما أراه يومياً هنا. لا أعلم من يحق له أكثر أن يكون مكتئباً: أنا أم أنتِ التي تعيشين معاناة البقاء كل يوم... لا أعلم إن كان يحق لي أن أكتب عن هذا المكان، وهو الذي أعطاني سقفاً عندما طُردنا من منازلنا ومن مدينتنا.

أكتب اليوم إلى أصدقائي. أكتب اليوم إلى كل من صادفته في أيامي الجميلة في بيروت. أكتب إلى كل من يحارب يومياً الغرق في حفرة الرأسمالية. أكتب اليوم إلى الذين يفرحون لأسباب بسيطة. أكتب اليوم إلى الشوارع وإلى ذكرياتي... أكتب اليوم إلى الناس الذين يعيشون هنا، ويحاولون بناء حياة جديدة

لا أعلم إذا كنت أنا المشكلة، لأنني لا أستطيع التصالح مع الواقع، أو أن كل هذا هو مرحلة من الاشتياق و"بيمشي الحال"، كما يقول لي زملائي هنا.

لا أعلم إذا كنت سأبقى قادرةً على محاربة الفقاعة الكبيرة التي تحاول التهامي يومياً، أو أنني سأهرب إلى مكان آخر حيث أقدر أن أكون نفسي مجدداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard