البدايات، عن الماضي والبديهي والبدائي
رفقةَ الأحلام الأولى والكوابيس ، تقفُ "مجاز" في زاوية دوريّة مع تجاربَ شعريّة وأدبيّة وفكريّة ، تحاوِرُها تُسائِلُها: مِن أينَ أتت؟ ما الذي أودى بها إلى هذا الدَّرْك؟ ما هي إرهاصات الكتابة الأولى؟
يستنبِشُ "مجاز" عن خبايا رحلاتِهم الطّويلة في رحاب الحرف والكلمة. تسألُ: هل هم راضونَ عن هذه المدّة؟ هل عرفوا كُنهَ ما كتبوه؟ تَسألُ وتَسألُ: ما هوَ أسوأُ كوابيسِكَ وأجملُ أحلامِكَ؟ والإجابةُ لديهم في ذاكَ الطّريق الطّويلْ. ضوء هذه المرة الشاعر العراقي عواد ناصر.
•••••
"... وأنا أنظر من فوق سياجٍ مائلٍ
ثمة المولود يبكي غضباً مرتعش الكفينِ بين امرأتينِ:
الأمُّ (كانت زوجةً ثانيةً)
والجارةُ الثكلى (لها ابنٌ رقيقُ الساعدينِ
طحنته حرب أجلافٍ شهيرينَ
تؤدي دورَها قابلةً هاويةً فانتزعتني، رغم أنفي،
بينما النهرُ قريباً لم يكن يعبأ بالحادثةِ: ازدادتْ بطون العائلة
بطناً جديداً
والمشاحيفُ التي تعبر نهراً لم تزل تعبر نهراً رغم موت القابلةْ".
"البتيراء" اسم النهرِ ولا سمك فيه، فلا صيادونَ إذن سوى مزارعين فقراء. حتى سألتُ أمي لماذا لا يزرعون السمك؟
النهر صافٍ حتى أنني لم أكن أميّز أياً من النجوم: أهي التي على صفحة الماء لتنعكس على صفحة السماء أم هي التي في السماء لتنعكس على صفحة الماء ولَم أجدْ أحداً لأسألَ.
"البتيراء" اسم النهرِ ولا سمك فيه، فلا صيادونَ إذن سوى مزارعين فقراء. حتى سألتُ أمي لماذا لا يزرعون السمك؟... مجاز في رصيف22
ولدَ الطفلُ على حافة فجرٍ ماطرٍ قال أبي ثم تولّاني أخي البكرُ (فَهَدْ) لكنني كنتُ أسيرَ الخوفِ منذُ السنةِ الخامسةِ، لأنني فوجئتُ بذراع امرأةٍ زرقاء، موشومة تطفو على سطح النهر فلم أقربْ مياه النهر يوماً، لأن النهر شريك القتلةْ.
لم أتعلم السباحة، أنا ابن الماء الكثير والقوارب المثقلة بالحنان. وحدها سورات الماء كانت دواماتٍ رعبٍ وزوابع دائرية تبتلع أمهر السباحين، ليغرق صديقي الوحيد (عْطَيّة) وهو يطير طائرته الورقية، عارياً، بعيداً عن الجرف وسط سوراتِ الماءِ، ولا أدري لماذا كنت أحسبُ طيّارته الورقية هي الحوت الذي ابتلع القمر.
•••••
"كنت أقتاتُ كما أهلي على ما يطرح الحقل من الخبزِ الشعيرْ
وعشاء الله يومياً ثريدُ الخبز منقوعاً بشاي وحليب ولحافي حالم فوقي ومبتل بليل سائل. لأنني حتى ارتجافِ النخلِ والماسورةِ الزرقاء في بندقيةِ فلّاحٍ عنيدٍ يتصدى لثلاثينَ من الشرطةِ، حتى كاد فيها النهر أن ينهض أو يغمض عينيه لفرط ما تلاشى أو يكادُ بينما في الهضبة الكسلى كلابٌ خاملةْ".
هجرتنا الأولى، التي ستتبعها هجرات، كانت فيها الحقائب على أصغر ما يمكن لكن لم أعرف-أو لا اتذكر- ما إذا كانت بقرتنا الوحيدة البنية المطرزة بالطحين عبرت النهر معنا في المشحوف، حيث الشارع المبلط الذي رأيته لأول مرة في حياتي.
"المسافاتُ تناءتْ
وتناءتْ حيث ما عدنا كما كنّا
تغيّرنا وغيّرنا لغاتٍ بلغاتْ
وتعايشنا مع السنجابِ والفيلِ وخالِ الثعلبِ الماكرِ
والتمساح (في رتبةِ أركانٍ)
بيان الانقلاب العسكريِّ ثورياً كما نحسبُ
لكنا سنبقى:
خفقة الريشِ ببهو العائلةْ
وسماءُ الكلمات الكاملة
أينما يمضي ويأتي ثم يأتي بانقلاب عسكريٍّ
قائد الأركانِ وابن البطِّ والوزّان والقاضي السعيدُ
ورئيس المزبلةْ
رحلةٌ أخرى إلى نبض ضميرٍ ما
بعيداً عن فساد الزمنِ
وإمام المرحلة".
معلمي في الصف الرابع الابتدائي، مدرسة ابن الأثير الابتدائية للبنين، أتذكر اسمه الأول، حسب: استاد (بالدال لا بالذال) عبدالرزاق.
طلب منا أن نكتب موضوعاً إنشائياً عنوانه "العيد" أسوة بالموضوعات التقليدية، المكررة، التي يطلبها معلمو اللغة العربية في مدارس بغداد الابتدائية: وصف المطر، رحلة مدرسية… إلخ.
"كنت أقتاتُ كما أهلي على ما يطرح الحقل من الخبزِ الشعيرْ، وعشاء الله يومياً ثريدُ الخبز منقوعاً بشاي وحليبٍ ولحافي حالم فوقي ومبتل بليل سائل... مجاز في رصيف22
في اليوم التالي، حيث درس الإنشاء، دخل "استاد" عبدالرزاق منادياً باسمي قبل أن يبدأ الدرس، فخفت وتشبثت بمقعدي الخشبي، من دون أن أرتكب ذنباً منذ أمس.
تحاملت على خوفي ووقفت: نعم "استاد".
قال مستنكراً: من كتب لك الدرس حول "العيد"؟
هكذا هي التهمة الجاهزة، مثل ما حدث لي، وللآلاف غيري، فيما بعد، كباراً، عندما يتعلق الأمر بالسياسة.
نفيت، طبعاً، أن ثمة من كتب نيابة عني أو ساعدني، فأنا آخر عنقود أمي وأبي.
سألني "الاستاد": أنت بدأت إنشاءك بـ "راقبت مستهل الهلال، ليلة العيد، مع أهلي وجيراني… إلخ. من أين لك هذه الـ "مستهل"؟
تلعثمت واضطربت وخفت، ثانية، لأنني لا أعرف، حقاً، كيف وافتني هذه الـ "مستهل" الخطيرة التي سولت لي نفسي باقترافها، كما سأسمع، كبيراً، في بيانات الانقلابات العسكرية.
حتى أنني لم أكن أعرف إعرابها كظرف مكان.
سكتُّ وحملقت بالسقف وتلفت حولي فلم أجد "سوى السيفِ والرمحِ الردينيّ باكياً".
عقب "الاستاد" عبد الرزاق": أما إنك عبقري أو محتال كبير!
في مجتمعنا العراقي للإحباط مستويات عدة وليس من مستوى واحد للطلاقة الإبداعية، أو ما أطلق عليه أولئك العلماء "فن التفكير".
أوشكت أن أقول: بل محتال كبير. لأني لست عبقرياً.
لكنني قلت: لا أدري! هكذا عبرت خاطري فكتبتها.
ثم أقسمت: وروح أبوي.
ضحك "الاستاد" فأدركت أنه صدقني. ومنحني الدرجة الكاملة.
تمضي السنوات، لأتعرف على "أستاذ" حقيقي، هذه المرة هو الناقد الراحل، الأستاذ (بالذال هذه المرة لا بالدال) د. عبدالإله أحمد الذي درسني العربية في الثانوية الجعفرية المسائية، محاضراً.
طبعاً، كبرت وصرت أعرف بعض أسماء الأدباء والشعراء والنقاد العراقيين من خلال المجلات العراقية التي كانت تقع بين يدي، على ضيق ذات يدي، وكان الأستاذ عبدالإله من بينهم.
طلب منا الأستاذ أحمد أن نكتب "إنشاءً" عن "السعادة".
ولا أنسى تمهيده وهو يحذرنا: لا تكتب ما هو مكرر، بل أريد وجهة نظرك الشخصية.
خفقة الريشِ ببهو العائلةْ
وسماءُ الكلمات الكاملة
أينما يمضي ويأتي ثم يأتي بانقلاب عسكريٍّ
قائد الأركانِ وابن البطِّ والوزّان والقاضي السعيدُ
ورئيس المزبلةْ
رحلةٌ أخرى إلى نبض ضميرٍ ما
بعيداً عن فساد الزمنِ
وإمام المرحلة"
أعجبتني هذه الـ "وجهة نظرك الشخصية" لأتيقن إنني أمام أستاذ (بالذال لا بالدال). وقلت في نفسي: هذا هو المعلم.
دخل الاستاذ عبدالإله الصف، في اليوم التالي، ليوجه سؤاله: من هو فلان؟ وكان اسمي.
ها هو التاريخ يعيد نفسه على شكل مأساة مرة أخرى.
خفت وارتعشت ركبتاي وتحاملت واقفاً.
علق الأستاذ عبدالإله: هذا ما انتظرته منكم كوجهة نظر شخصية. لاحظوا ما كتبه هذا الطالب: "السعادة أمر نسبي.. لا تعريف مطلقاً للسعادة… إلخ".
بعدها كان الاستاذ عبدالإله يفضّل صحبتي في فرص الدرس على أن يذهب إلى غرفة المدرسين. ومنه تعلمت أشياء أخرى حول الإبداع منها: البيئة الملائمة لصناعة المبدع التي تبدأ من البيت ولا تنتهي عند الدولة.
ولكن أين ستنتهي، يا معلمي؟
هي بلا نهاية، قال، سترافقك حتى الموت. البحث والتعلم والمكابدة.
لكن بيت القصيد هو "البيئة الملائمة"، بنيةً تحتية لكل مستقبل إبداعي. كل ما سبق هو مقدمة طويلة، نسبياً، لمتن قصير:
يكاد يجمع علماء التربية الغربيون على أن الإبداع مكتسب يحتاج، فقط الرعاية وتطوير ملكات الشبان والأخذ بأيديهم في مسالك البحث والتجربة.
لكن القصيدة الاحترافية الأولى، وإلى حدِّ ما، هي قصيدتي التي شاركت من خلالها، في مهرجان معهد إعداد المعلمين (بغداد) ولا أدري لماذا فزت بالجائزة الأولى بين اثني عشر متسابقاً، والجائزة كانت قلم باركر 56.
ذلك القلم كان تحريضاً مباشراً على أن أستمر في الكتابة، كتابة الشعر حتى اليوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...