عادت قضية الكباش القضائي بين المصارف اللبنانية وحاكم مصرف لبنان المركزي من جهة، والسلطة القضائية اللبنانية من جهة ثانية، من بوابة حاكمية مصرف لبنان ورجا سلامة شقيق رأس السلطة النقدية اللبنانية رياض سلامة، إذ ادّعت النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان، القاضية غادة عون، الإثنين الماضي، على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا بجرم "الإثراء غير المشروع" و"تبييض الأموال"، ليعود ويصدر قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان نقولا منصور مذكرة توقيف بحق رجا وعين الخميس المقبل جلسة استماع للحاكم.
قصة الأخوين سلامة ليست الإشارة الوحيدة مؤخراً إلى المواجهة "الشكلية" بين القضاء والمصارف، بل برزت إشارة ثانية تمثلت في مباشرة مأمور التنفيذ في بيروت إجراءات التنفيذ الجبري في الفرع الرئيسي لمصرف "فرنسبنك" في الحمرا، وفرعه في بدارو، والحجز على كل موجودات فرعَي المصرف المذكور بما فيها الخزائن والأموال، وختمها بالشمع الأحمر، استناداً إلى القرار الذي أصدرته رئيسة دائرة التنفيذ في بيروت، القاضية مريانا عناني، في 15 آذار/ مارس الجاري، والذي قضى بإنفاذ الحجز التنفيذي على كل أسهم فرنسبنك وعقاراته وموجوداته وفروعه وشركاته في كل لبنان تمهيداً لطرحها في المزاد العلني في حال عدم رضوخ المصرف وتسديده مبلغاً مستحقاً لأحد المودعين.
أصدر قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان نقولا منصور مذكرة توقيف بحق رجا شقيق رياض سلامة وعين الخميس المقبل جلسة استماع للحاكم
وعلى الرغم من تمكن المصرف المذكور من استئناف قرار الحجز بعد إضراب تحذيري للمصارف يومي الإثنين والثلاثاء الماضيين، إلا أن حجم الضغط القضائي على المصارف يفتح الباب للسؤال حول مصير هذه المواجهة، بعد مضي أكثر من سنتين على بدء الأزمة المالية التي خسر على أثرها اللبنانيون ودائعهم، ولم تقم السلطات اللبنانية في مقابل ذلك بأي تحرك جدي لتدارك الأزمة أو في الحد الأدنى للحد من تداعياتها على اللبنانيين وعلى صغار المودعين منهم تحديداً.
المصارف والسياسة
ليست المرة الأولى التي يتحرك فيها القضاء في وجه القطاع المالي، ففي شهر آب/ أغسطس عام 2020، داهمت القاضية عون شركة مكتف لشحن الأموال، كما تحركت في وجه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في شهر شباط/ فبراير الماضي، وادّعت على مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، في 16 شباط/ فبراير، بتهمة عرقلة تنفيذ مذكرة قضائية.
يرى نزار غانم، وهو أحد مؤسسي رابطة المودعين في لبنان، أن إجراءات القضاء اليوم لا تتعدى حدود الخطوات الاستعراضية التي لن تحقق الهدف المرتجى للمودعين سوى من خلال الحجز الكامل على ممتلكات المصارف. يقول لرصيف22: "الإجراءات الأخيرة وحتى تلك التي سبقت ما تقوم به القاضية غادة عون، لا تعدو كونها استعراضيةً لأن المشكلة ليست عند الصرّاف أو عند شركات شحن الأموال بل عند المصارف التي تمتنع عن سداد أموال المودعين".
ويشدد على ضرورة "عدّ المصارف متخلفةً عن الدفع، وتالياً على القضاء إلقاء الحجز على ممتلكات المصارف وممتلكات المساهمين وبيعها في المزاد العلني من أجل سداد أموال المودعين".
لكن هكذا إجراء تحول دون تحقيقه عقبة أساسية تتمثل في الحلف السياسي-المالي، كون غالبية الطبقة السياسية في لبنان شريكةً لا بل مالكة لأهم المصارف، فعلى سبيل المثال يملك الوزير السابق والمرشح للانتخابات النيابية القادمة، مروان خير الدين، "بنك الموارد"، ورئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري يملك أسهماً في "بنك ميد"، ونائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي مساهم في بنك IBL، وابنة رئيس الجمهورية كلودين عون تملك أسهماً في مصرف "سيدروس"، واللائحة طويلة.
وبيّنت دراسة أجراها الباحث والخبير الاقتصادي جاد شعبان، عام 2015، أن "أفراداً مرتبطين بالنخب السياسية يسيطرون على 43% من موجودات المصارف التجارية في لبنان. إذ إن 18 من أصل 20 مصرفاً لديها مساهمون أساسيون مرتبطون بالنخب السياسية، في حين أن عائلات سياسيين حاليين أو سابقين يسيطرون على 32% من موجودات القطاع. في مقابل ثماني عائلات تسيطر على 29% منها، وإجمالي حقوق المساهمين كانت توازي في حينها أكثر من 7.3 مليار دولار".
المواجهة المتقطعة
تعود بدايات المواجهة الشكلية إلى 5 آذار/ مارس 2020، عندما أصدر النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم، قراراً قضى بوضع إشارة منع تصرف على أصول 20 مصرفاً لبنانياً، وإبلاغه المديرية العامة للشؤون العقارية وأمانة السجلّ التجاري وهيئة إدارة السير والآليات وحاكمية مصرف لبنان وجمعية المصارف وهيئة الأسواق المالية، مع تعميم منع التصرف على أملاك رؤساء مجالس إدارة هذه المصارف، بعد استماعه إلى إفادات رؤساء مجالس الإدارة وممثلين عن المصارف، بشأن تحويل الأموال إلى الخارج، بعد 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والتي قاربت 2.3 مليار دولار، وعدم تمكين المودعين من السحب بالدولار من حساباتهم ووقف عمليات التحويل إلى الخارج.
أفراد مرتبطين بالنخب السياسية يسيطرون على 43% من موجودات المصارف التجارية في لبنان، إذ إن 18 من أصل 20 مصرفاً لديها مساهمون سياسيون
برأي المحامي اللبناني المتخصص في الشؤون المصرفية، علي زبيب، فإنه "على الرغم من أهمية هكذا قرار معنوياً بالنسبة إلى المودع، بيد أنه تضمن ثغرةً استند إليها المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، تمثلت في أن المدعي العام المالي لم يحدد طبيعة الأصول. وتالياً فالقرار يشمل أموال المودعين، ما سمح للنيابة العامة التمييزية التدخل وإلغاء مفاعيل القرار، وتالياً توقيف قرار إبراهيم في حينها كشف النقاب عن خلل ما في العمل القضائي".
وفي كانون الثاني/ يناير من العام 2021، وُضع سلامة وشقيقه رجا تحت مجهر القضاء السويسري، للاشتباه فيهما في جرم اختلاس أموال مصرف لبنان وتبييضها في سويسرا، وتصل قيمتها إلى 300 مليون دولار، وطلبت النيابة العامة السويسرية تعاون السلطات اللبنانية معها.
يوضح زبيب لرصيف22، أن "هذا الأمر شكل ويُشكل مدخلاً أساسياً لتحرك القاضية عون ضده"، مؤكدأً أنه بمعزل عن اتهامات عون بالتسييس إلا أنه كان لافتاً عام 2020 طلب النيابة العامة التمييزية من هيئة التحقيق الخاصة بمصرف لبنان تزويدها بكامل المعلومات حول التحويلات المشبوهة فما كان من هيئة التحقيق إلا الرد بأنه لا يوجد أي تحويل مشبوه، ما شكل سقطةً ثانيةً أفقدت الثقة بالأجهزة الرقابية".
الملاحقة من الخارج
وكان مصرفان لبنانيان قد نفّذا في الرابع من آذار/ مارس الحالي قراراً قضائياً بريطانياً صدر بتاريخ 28 شباط/ فبراير الماضي، ويقضي بدفع ما يقارب أربعة ملايين دولار لأحد المودعين، إذ أصدر القاضي جاستيس بيكن، في المحكمة العليا البريطانية، قراراً يلزم مصرفي "عودة" و"SGBL"، بدفع مبلغ بقيمة 4.6 مليون دولار، لصالح المودع فاتشي مانوكيان، بعد أن قام المصرفان المذكوران بحجز أمواله لديهما والامتناع عن تحويلها.
وفي الشهر الجاري طلب القضاء الفرنسي إخضاع رجا سلامة، شقيق حاكم مصرف لبنان، لتحقيقات من قبل الجهات القضائية الفرنسية على خلفية الملفات المتعلقة بتملّك أسهم في شركات تملّكت عقارات في فرنسا، وتشتبه السلطات الفرنسية في أن الأموال التي استُخدمت في العملية قد تكون اختُلست من المال العام في لبنان.
الإجراءات الأخيرة وحتى تلك التي سبقت ما تقوم به القاضية غادة عون، لا تعدو كونها استعراضيةً لأن المشكلة ليست عند الصرّاف أو عند شركات شحن الأموال بل عند المصارف التي تمتنع عن سداد أموال المودعين
وفي هذا السياق، يكشف غانم عن إجراءات تصعيدية تعتزم اتخاذها رابطة المودعين توازياً مع ما يحصل، أهمها تشكيل فريق ضغط على المصارف في الخارج من خلال فرض عقوبات على رؤساء مجلس الإدارة والمساهمين تقضي بتوقيف حساباتهم الخارجية، لافتاً إلى أن رابطة المودعين راسلت 70 سفارةً أجنبيةً من كل دول العالم وطالبتها بمنع المشتبه فيهم من الاستثمار في الخارج كإجراء يجبر المصارف على تقاسم الخسائر وليس المودعين.
يُشار إلى أنه بينما تلطت غالبية المصارف في الاحتكام إلى استئناف القرارات القضائية، شكلت قضية عبد الله الساعي الذي خرج من توقيفه في 3 شباط/ فبراير 2022، بعد أن أوقف في 18 كانون الثاني/ يناير الماضي إثر انتزاع وديعته من فرع مصرف "بنك بيروت والبلاد العربية" التي تبلغ قيمتها 50 ألف دولار. فقد أصدرت قاضية التحقيق في البقاع أماني سلامة، قراراً بترك الساعي لقاء كفالة مالية قدرها 200 ألف ليرة لبنانية، ما عدّته الأوساط الحقوقية دلالةً على أن الفعل المنسوب إلى الساعي يخلو من أي خطورة اجتماعية ويؤكد أن القاضية أهملت مطالب المصرف باسترداد مال الساعي المسلم له.
التدخل في القضاء
في 14 آذار/ مارس الحالي، أصدرت القاضية عون قراراً قضى بتقييد إشارة منع تصرف على العقارات والسيارات والمركبات والأسهم والحصص في جميع الشركات التجارية العائدة لمصارف بنك بيروت، وبنك عودة، وبنك لبنان والمهجر، وبنك البحر المتوسط، وبنك سوسييتيه جنرال، كما على العقارات والسيارات والمركبات والأسهم والحصص في جميع الشركات التجارية العائدة لرؤساء مجالس مجالس إدارات هذه المصارف وأعضائها.
وقال رئيس الحكومة، نجيب ميقاتي، يوم الجمعة الماضي، إنّ "مسار الأمور لدى بعض القضاة يدفع باتجاه افتعال توترات في البلاد، وهذا أمر خطر"، مضيفاً أن "استخدام الأساليب البوليسية في مسار التحقيقات أساء ويسيء إلى القضاء أولاً وإلى النظام المصرفي ككل".
في 14 آذار/ مارس الحالي، أصدرت عون قراراً قضى بتقييد إشارة منع تصرف على جميع ممتلكات عدد من البنوك المحلية اللبنانية
وذكر بيان صدر عن مكتب ميقاتي، أنه اتفق في اجتماع مع وزير العدل، هنري خوري، "على الطلب من مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات اتخاذ الإجراءات المناسبة في هذا الملف"، وسبق أيضاً لميقاتي أنه قال إنه "مع كل الاحترام للقضاء، هناك انطباع عام بأن بعض ما يحدث لا يتوافق مع القواعد القضائية".
ليس كل إجراء مسيّساً
تساؤلات كثيرة طالت القاضية غادة عون، لناحية الجهات التي تستدعيها في الملف المالي، خاصةً بعد أن أصدرت في 30 آب/ أغسطس 2020، ورقة طلب الادّعاء على متورطين في جرم تبييض الأموال في ملف شركة مكتف للتحويلات المالية، وعدم استدعاء أي أحد من فريقها السياسي.
ويرى الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود، أن الكلام عن أن كل إجراء قضائي مسيس مبالغ فيه، خاصةً أن القانون يسمح للقضاء بأن يقوم بهذه الإجراءات.
ووفق حمود، "لا يجب أن ترمي السلطة السياسية طابتها في ملعب القضاء، وحل الأزمة يبدأ من مشاريع قوانين تقدمها الحكومة من أجل إعادة تكوين قطاع مصرفي صحيح استناداً إلى المعايير الدولية". عادّاً أن المصرف الذي لا يقوم بأعمال التسليف ولا يسدد للمودع أمواله ولا يلتزم بالنسب المالية والمعايير الدولية، هو مصرف غير قابل للاستمرار محلياً ودولياً".
وبرأيه، فإنه "لكي ندفع المصارف إلى الالتزام الكلي بالمعايير من خلال السلطة الناظمة أي مصرف لبنان، يجب إزالة الأسباب الآتية من السلطة الناظمة ليعود البنك المركزي سلطةً نقديةً وسلطةً ناظمةً بيد حرة مطلقة ويعود المصرف مسؤولاً وملتزماً بالمعايير الدولية من دون إعفاءات أو مرونة".
يرى الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف أن الكلام عن أن كل إجراء قضائي مسيس مبالغ فيه، خاصةً أن القانون يسمح للقضاء بأن يقوم بهذه الإجراءات
وجدير بالذكر أن ولاية حمود كرئيس للجنة الرقابة على المصارف، انتهت عام 2020 مع بدايات الأزمة المالية التي تعصف بلبنان والتي كانت ترجمةً لسياسات مالية ممتدة منذ ما بعد الحرب الأهلية.
وينتقد حمود بعض الإجراءات القضائية، عادّاً أن "الحجز على موجودات الفروع لا يعيد إلى المودع أمواله التي هي بالأساس إما في بنك المراسلة أو في مصرف لبنان وليس في الفرع المحجوز على موجوداته. أما الحجز على الموجودات فيتم بالتعامل مع دكان وليس مع مصرف".
وإذ يؤكد أن الأزمة النقدية الحالية غير عصية على الحل، يرى أن "الحلول لا يمكن أن تتعارض مع الدستور وهوية لبنان في النظام الحر والحفاظ على الملكية الخاصة والمدخل الصحيح للحل هو الاعتراف بالمشكلة ومقاربة الحل من الرأس والأساس وليس من الأطراف بأسلوب الترقيع وتقطيع الوقت أو بوضع القضاء في الواجهة فيما السلطة السياسية متنصلة من مسؤولياتها".
في ظل كل ما يحصل، وبالرغم من كل ما يُحكى عن القاضية عون، إلا أن ما يجري اليوم في هذا السياق قد يفتح الباب أمام محاسبة ما، قد لا تُعيد حقوق اللبنانيين، ولكنها ستُشكل مدخلاً قد يساهم في تفكيك الحمايات التي تضعها السلطة السياسية على رجالها في المصارف، وفي رأس الهرم المالي اللبناني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع