الأستاذ محمد حسنين هيكل كان منحازاً في تحليلاته بلا شك. لم يكن منحازاً لجمال عبد الناصر كما يظُنُّ أغلبية الناس في الوطن العربي، لكنه كان منحازاً لأفكاره، وللذي يستطيع أن يحمل هذه الأفكار. لا أقصد أنه كان يبحث عن مجرد حامل أو منفّذ، لكنه كان دائم البحث عن شريك يلتقي معه في نقطة ما، ووجد الشريك في جمال عبد الناصر حين نجحت حركة يوليو، وعمره وقتها أقل من 29 عاماً. وجد في الضابط الشاب مستمعاً جيِّداً، ووجده لا يدقق في علاقات هيكل السابقة مع رموز الحكم الملكي وقادة الأحزاب الليبرالية، وخاصة حزب الوفد.
شريك لا حامل رسائل
هيكل كان قارئاً جيِّداً للأحداث السياسية وعارفاً ببعض أسرارها. منذ البداية آمن بأن السياسة تحركها حقائق التاريخ والجغرافيا، لا أوهام الماضي، وكان صاحب منطق، يطوِّع معلوماته الوفيرة ويرصها بطريقة معيّنة كي يصل بشكل منطقي -أو كما لو كان منطقيّاً- إلى النتيجة التي يريدها. وأخيراً، كان يمتلك شبكة علاقات دولية واسعة ومتنفذة، من صحافيين ومحللين وقادة رأي وثوار وعسكريين وأعضاء برلمان في الدول الحرة، ورؤساء دول، كثيرون منهم كان يهمهم أن يتبادلوا المعلومات معه، وقليلون كانوا يريدون أن يفهموا ذهن حكام المنطقة العربية وامتداداتها في إفريقيا وآسيا، وأن يوصِّلوا رسائلَ لهؤلاء الحكام عن طريقه، لأنهم يعلمون أنه يستطيع أن يطرق أي باب ويدخل مباشرة.
كان هيكل -كذلك- من أهم الصحافيين الذين يستطيعون توجيه الرأي العام. فبالإضافة إلى ما يشبه المنطق الذي يملكه، والذي تحدثت عنه، فإن كتابته رشيقة وعذبة، تستحوذ على قلب قارئه قبل عقله، وبالتالي تجعله يصدقه بعمق، ويسير في الاتجاه الذي يريده له، فقد كان مقاله "بصراحة" الذي يكتبه في جريدة الأهرام كل يوم جمعة، طوال فترة حكم جمال عبد الناصر، وفي السنوات الثلاث الأولى من حكم الرئيس أنور السادات، مقروءاً على نطاق واسع، ويذاع في الإذاعات المصرية كاملاً.
هيكل إذن، وبوعي شديد ومن خلال الأدوات التي يملكها واستطاع أن يطورها باستمرار، لم يكن مجرد حامل رسائل، فهو لم يكن يحمل رسائل من الأساس، وإنما كان "يتحدث" إلى مَن يقابلهم في أمور السياسة والحكم التي شارك في وضعها، ويعرف أسبابها وما تتطلع للوصول إليه. يعرف بعمق مَن يقف إلى جانب النظام المصري، ومَن يعاديه، ومَن يتظاهر بأنه يقف معه لكنه يعاديه، ومَن يريد أن يستخدمة كأداة ضد أعدائه، ومَن يريد الاستفادة من تأثيره العربي ومن تمدده داخل القارة الإفريقية. هيكل كان يعرف من موقع الشريك، لذلك كان يمتلك حرية لا يمتلكها غيره، لا أقول من الصحافيين المنافسين –والحقيقة أنه لم يكن هناك مَن ينافسه بعد سجن علي ومصطفى أمين ورحيلهما- ولكن من السياسيين والدبلوماسيين المخضرمين، فهؤلاء كانت لهم حدود حركة أضيق من حدود حركته.
من جرنالجي إلى حكيم
لم يكن هيكل خصماً –بالمعنى المتطرف للخصومة- لأي من الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم مصر من بداية عمله الصحافي في عهد الملك فاروق، وحتى رحيله عام 2016، في عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي. حتى السادات نفسه لم يكن خصماً له في البداية حتى أدرك أنه من المستحيل أن يتلاقيا في نقطة، ففضَّل الرحيل عن رئاسة تحرير جريدة الأهرام عام 1974، أو طُرِد منها، وكان عمره وقتها 51 عاماً فقط.
قرر ألا يكون موظفاً لدى أي جهة، بل أن يكون صحافيّاً حرّاً يستثمر معلوماته ووثائقه في إصدار الكتب التي تعاقد عليها باللغتين الإنكليزية والعربية، واختار أن يكون "حكيماً"، يحلل الأوضاع المحلية والإقليمية والعالمية، ويسدي النصح للقائمين على الحكم، ويعقد مقابلات مع متنفذين، معلنة وغير معلنة، لا يحاورهم بالمعنى التقليدي للحوار الصحافي المعروف، ولكن يكتب انطباعات عن هذه اللقاءات، أو ينشر آراءهم بعد استئذانهم طبعاً... وهكذا.
في قلب المشهد
كان لهيكل دور كبير في تولي أنور السادات مقاليد الحكم بعد الغياب المفاجئ لعبد الناصر، الذي توفي في 28 أيلول/ سبتمبر 1970. أقنع الرجال الأقوياء الذين كانوا يحيطون بعبد الناصر في الرئاسة والوزارة والاتحاد الاشتراكي والجيش والداخلية بأن السادات هو المناسب للمرحلة، وربما كان ضالعاً في عملية الإطاحة بهم في الخامس من أيلول/ سبتمبر 1971، فمن المعروف أنه كان يراهم عبئاً على المرحلة الناصرية.
"منافسو (محمد حسنين) هيكل وحساده كانوا يرون، وما يزالون، أن قربه من جمال عبد الناصر هو الذي صنع اسمه، لأنه كان يحصل على الأخبار والمعلومات حصريّاً من الرجل الأول ذاته. هذا الرأي غير موضوعي..."
وكان هيكل في السجن وقت اغتيال السادات، وحين تولى حسني مبارك الرئاسة خرج، مع أول دفعة من المعتقلين، من السجن إلى الرئاسة والتقى معهم بالرئيس الجديد. وحين اندلعت تظاهرات 25 يناير 2011 ضد مبارك كان يراقبها من شرفة منزله القريب من ميدان التحرير، بل إنه أطلق أول رصاصة باتجاه صدر نظام مبارك حين اقترح، فجأة ودون سابق إنذار، تشكيل مجلس رئاسي يتولى السلطة انتقاليّاً ليسلمها لرئيس جديد منتخب، وسمَّى بالفعل مجموعة من الشخصيات العامة التي يمكن أن يضمها المجلس.
حين تولى المجلس العسكري برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي السلطة بعد تنحي مبارك يوم 11 شباط/ فبراير 2011، كان هيكل أول الذين دعُوا للاجتماع بطنطاوي وأعضاء المجلس كي يتكلم وينصح، ولكي يستمعوا له ويتعلموا منه. واستدعاه عضو المجلس رئيس المخابرات الحربية اللواء عبد الفتاح السيسي بشكل منفرد عدة مرات ليستمع إليه، ثم بعد سقوط الإخوان في 3 تموز/ يوليو 2013 كان أول مَن أطلق مصطلح "رئيس الضرورة" الذي مهَّد الطريق أمام عبد الفتاح السيسي ليكون رئيساً حتى اليوم.
حُسَّاد لا منافسون!
منافسو هيكل وحساده كانوا يرون، وما يزالون، أن قربه من جمال عبد الناصر هو الذي صنع اسمه، لأنه كان يحصل على الأخبار والمعلومات حصريّاً من الرجل الأول ذاته. هذا الرأي غير موضوعي ولا ينصف الأستاذ محمد حسنين هيكل لعدة أسباب: الأول أنه خرج من رئاسة تحرير جريدة الأهرام وأصبح على قائمة خصوم الرئيس السادات، ومع ذلك لم يفقد مكانته الصحافية ودوره الدولي، وظلت العيون شاخصة نحوه تنتظر ما يقوله من معلومات، وما يشرحه على الخريطة من وقائع، وما يستنتجه من أحداث، كما ظلت كتبه الأعلى مبيعاً رغم ارتفاع سعرها، وكانت الصحف التي يكتب فيها بشكل غير منتظم تسجل أرقام مبيعات خيالية، ونسبة مشاهدات البرامج التلفزيونية التي يظهر فيها لا تقارن بغيرها.
والسبب الثاني أن كثيرين بعده اقتربوا من الرؤساء أنور السادات ومبارك والسيسي، لكنهم لم يحظوا بما حظي به، حتى وهو غائب، والثالث أن أحداً من منافسيه لا يطاول قدرته في الكتابة، سواء رص معلوماته بشكل منطقي وصولاً إلى الهدف، أو استخدام بلاغة عربية رصينة، أصبحت قديمة الآن، لكنها كانت مميزة في الزمن الذي علا نجمه فيه.
وأخيراً، لم يستطع أيّ منهم أن يمتلك شبكة العلاقات التي امتلكها، ولم ينل اعترافاً بالأستاذية كما كان هيكل يحظى لدى الصحافيين حول العالم، حتى في أمريكا والدول الأوروبية، وبالذات في أمريكا والدول الأوروبية.
الأسئلة المهمة
الأسئلة التي تُطرح بعد هذا العرض المختصر هي: هل كان هيكل "مطبلاتيّاً" يبيع بضاعته للسلطان كي يجعله سعيداً مبتهجاً ويقبض الثمن؟ هل يُسأل عن الجرائم التي ارتكبها نظام عبد الناصر في ما يخص ملف الحريات وحقوق الإنسان وحقوق السجناء بالذات؟ هل كان حاقداً على الرئيس أنور السادات لأنه "طرده" من جنته و"حرمه" من النعيم الذي كان يحظى به وقت عبد الناصر؟ هل سكت عن حسني مبارك سنوات طويلة ثم أطلق الرصاص على نظامه حين تجمعت لديه أدلة تفيد بأنه ساقط لا محالة، بمعنى أن قرار تنحيته كان قد اتُّخذ في دوائر صنع القرار الأمريكية؟ وأخيراً: هل هيكل مسؤول عن قدوم الرئيس السيسي وعن التضييق على الحريات والفشل الاقتصادي في سنوات حكمه؟
"هل كان (محمد حسنين) هيكل ‘مطبلاتيّاً’ يبيع بضاعته للسلطان كي يجعله سعيداً مبتهجاً ويقبض الثمن؟ هل يُسأل عن الجرائم التي ارتكبها نظام عبد الناصر في ما يخص ملف الحريات وحقوق الإنسان وحقوق السجناء بالذات؟"
إجابات كل هذه الأسئلة الشائكة يجب أن تنطلق من معرفة النقطة المحورية التي بنى عليها هيكل قناعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بخصوص مصر ومكانتها، واقعها ومستقبلها. فالرجل كان يرى أن مصر مؤهلة بحكم التاريخ والجغرافيا لتكون قوة إقليمية عظمى في محيطها، منطقة الشرق الأوسط، فهي تمتلك شواطئ كبيرة جدّاً على البحرين الأبيض والأحمر، إضافة إلى قناة السويس، مما يجعل لها اليد العليا في الملاحة البحرية التجارية والعسكرية على السواء، كما أنها تمتلك مقومات الحضارة بماضيها العريق، وفيها وحدها حوالي ربع المواطنين الذين يتحدثون اللغة العربية، وهي التي تحتكر الصناعة الثقافية والفنية والصحافة والإعلام المنطوق والمكتوب باللغة العربية، وهذا يعطيها أفضلية في التمدد الإقليمي عن إيران وتركيا، وعن إسرائيل بعد ذلك. وكان يرى أن المجال الثقافي واللغوي يميّز مصر عن منافسيها الإقليميين كما يميّز الصين عن اليابان في شرق آسيا.
في محبة الديكتاتور الصالح!
هيكل كان مقتنعاً أن مصر تحتاج إلى حاكم "وطني" و"صالح" حتى لو لم يكن ديمقراطيّاً، فهو ممّن يرون أن العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي أولى -في هذه المرحلة- من الديمقراطية وتجاذباتها وانحيازاتها، وبالتالي فهو "شريك" لعبد الناصر في هذه الرؤية، وليس مجرد شاعر السلطان الذي ينتظر عطاياه.
أما عن المغامرات العسكرية التي دخلها عبد الناصر وأخفق وانكسر فيها، حرب اليمن وحرب حزيران/ يونيو 1967، فهيكل يرى أن سوء الإدارة تقف وراء الإخفاق، فعبد الحكيم عامر –مثلاً- هو المسئول عن الانفصال عن سوريا عام 1961 لسوء إدارته، والوفد الذي زار اليمن لتقييم الموقف بقيادة أنور السادات هو الذي أخفق في تقدير الوضع على الأرض، والقادة العسكريون هم المتسببون في هزيمة يونيو لأنهم سهروا حتى وقت متأخر من ليل 4 يونيو، وأصدروا أمراً بتقييد النيران في الصباح –وقت الهجوم الإسرائيلي على المطارات- لأن القائد العام كان في الجو، رغم أن "الزعيم" تنبأ بوقت الهجوم وأسلحته وأهدافه.
بالنسبة إلى موقف هيكل من السادات ومبارك، لا يستطيع أشد خصومه أن يقولوا إنه شارك في إخفاقاتهما، فلم يكن محسوباً عليهما بأي شكل، بل إنه انصرف طوال فترتي حكمهما إلى تحليل ما حدث في سنوات حكم عبد الناصر، بوصفه شريكاً، ونشر المستندات التي يملكها، كما لا يملك أحد دليلاً على أنه كان يملك معلومات عن الإطاحة بمبارك قبل إعلان مبادرة المجلس الرئاسي، وأغلب الظن أنه –كمراقب- كان يقرأ المشهد ويرى ما سوف تؤول إليه الأحداث.
يتبقى سؤال: هل هيكل ساعد على تولي الرئيس السيسي مقاليد السلطة؟ الإجابة نعم. ساعد، لكن السلطة كانت ستذهب له سواء بمساعدة هيكل أم بدونها حسب تسلسل الأحداث وقتها. ربما جعلها تدخل هيكل أكثر قبولاً، لكنه بالتأكيد ليس مسؤولاً عما حدث بعد ذلك، ببساطة لأنه توفي عام 2016، بعد عام ونصف فقط من تولي الرئيس السيسي الرئاسة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين