يعتقد كلُّ مَن يسأل هذا السؤال: أترضاه لأختك أو لأمك؟ أنه قد قام بتثبيت محاورِه كما يثبّت المصارع خصمه أرضاً، ويربض فوق صدره حتى ينطق بالاستسلام.
ويأتي السؤال السابق في إطار المجادلات الأخلاقية المغلّفة بالدين، والتي تمارسها فئة من الناس الذين يعتقدون أنهم وكلاء الله على الأرض، أو أنهم الناطقون الحصريون باسم السماء، وقد جعلتُ "الناطقون بلسان السماء" عنواناً لكتابي الذي يتناول الجهود الفكرية للمفكر المصري نصر حامد أبو زيد، الذي عانى كثيراً من ظاهرة اختطاف الحق، واحتكار "اليقين".
ويلجأ كثير من المحاورين إلى طرح السؤال السابق، من باب إحراج الأشخاص، وحشرهم في الزاوية الضيقة، ربما لأنهم يعتقدون أنّ ثمة شرخاً كبيراً "متوقَعاً" بين ما يقوله بعضهم وينادي به من دعوات التحرر والانفتاح، وبين ما يطبقه على أرض الواقع، وهذا أمر يحوز على نسبة لا بأس بها من الصوابية، ويؤشر إلى "شيزوفرينيا" يعاني منها بعض النشطاء والناشطات والمثقفين والمثقفات.
يأتي السؤال في إطار المجادلات الأخلاقية المغلّفة بالدين، والتي تمارسها فئة من الناس الذين يعتقدون أنهم وكلاء الله على الأرض، أو أنهم الناطقون الحصريون باسم السماء
يرنو سؤال "أترضاه لأختك أو لأمك؟"، من حيث لا يحتسب سائلُه، إلى التأكد من مدى مطابقة الأقوال للأفعال، وهذه قضية ضرورية، لئلا يتسلل إلى الفضاء العام أدعياء يفسدون السجال الذي يحرر العقول، ويقدمون، بتناقضاتهم، نموذجاً لمن يدعو إلى إنصاف النساء، مثلاً، ثم يعود إلى البيت، ويمارس دور "سي السيد" بكل ما فيه من ذكورية وتحكّم وغطرسة وازدراء لزوجته أو لابنته أو آل بيته.
سئل أحدهم هذا السؤال في غمرة دفاعه عن أحد المسلسلات العربية التي عُرضت على "نتفليكس" فتلجلج في الإجابة وتهرّب، ثم عندما ضغط عليه المحاوِر، نهره بنرفزة واضحة بألا يُقحم الجوانب الشخصية في النقاش، ولمّا لم يقتنع الأول بإجابة الثاني؛ الحامل راية التحرّر والانعتاق من التصورات القديمة والقيود المفروضة على لباس المرأة وحراكها، مضى الإثنان يتنابزان بالألقاب، ثم بالشتائم، وبعدها صمتَ السجال، وربما يكون ذلك بسبب "بلوك" من أحدهما أو كليهما، جاء بمثابة حل، أو خشبة نجاة!
ولا يعني ما تقدّم أنّ هذا السؤال هو سؤال المليون، لكنه يَفترض أنّ غالبية مَن يدعون إلى أفكار خارجة عن المألوف الاجتماعي، إنما يفعلون ذلك شفاهياً، في إطار "البروباغندا" والتحيّزات، أو في سياق نصرة الأفكار الجديدة، لكنهم في قرارة أنفسهم يمارسون نقيض ما يقولون، فكم من "مناضلين" دعوا إلى فكرة المواطنة، ونظّروا لها، لكن عند لحظة الاستحقاق انكشف وجههم الإقليمي والعنصري، وراحوا يبحثون عن أصول الناس ومنابتهم ومساقط رؤوس أجدادهم.
ذات مساجلة، سئلتُ: أترضاه لابنتك، فأجبت على الفور "بكل تأكيد".
وكم من نشطاء كانوا يتظاهرون أمام مقرات الاتحادات النسائية نصرةً لحقوق المرأة وإنصافها، وهم متزوجون من أكثر من امرأة في وقت واحد، ويتمسكون بتعدد الزوجات، ويعتقدون بكل وثوقية أنّ المكان الأنسب والأكرم للمرأة هو بيتها، وربما يضمرون في كلمة البيت: المطبخ والسرير!
وكم من دعاة صدّعوا رؤوس البلاد والعباد بالوفاق الديني، واستكثروا أن يكون للمسيحيين "كوتا" في البرلمان، ولكنهم لم ينبِسوا ببنت شفة حين راح بعضهم يخوّض في النقاش السقيم: هل يجوز تهنئة المسيحيين في الكريسماس، وإضاءة شجرة الميلاد في المنازل؟!
كثيرة هي الدلائل التي تجعل "سؤال المليون" كما يزعم بعضهم، سؤالاً جوهريا لجهة إحداث توافق كبير وعالٍ بين القول والفاعلية، أو بين المنطوق والممارَس، بحيث تقوى حُجة المنتسبين إلى تيار الانفتاح والحرية والعدالة في العالم العربي، ويتحقق مقدار من النزاهة يُنصف الأفكار ويعزّز مقبوليتها.
ولعل هذا الأمر، كما كشفت دراسات وقال باحثون، هو ما جعل ناخبين في دول عربية، وهم في حيرةٍ من أمرهم، ونفادٍ في خياراتهم، يصوّتون للتيارات الإسلامية، لظنٍّ مستقرٍ في الوعي الشعبي أنّ "الإسلاميين" يتمتعون بالمصداقية والتقوى، وغير متورطين في قضايا الفساد، وهذه ذريعة لها حظ من الحضور، رغم أنّ أحداثاً كشفت بطلانها، وأثبتت أنّ الإسلاميين الذين تولوا الحكم لم يختلفوا عن غيرهم، من حيث الاستئثار وتمكين أتباعهم وازدراء المخالفين، وفرض رؤيتهم الأيديولوجية على المجتمع، وتديين الفضاء العمومي.
كم من نشطاء كانوا يتظاهرون أمام مقرات الاتحادات النسائية نصرةً لحقوق المرأة وإنصافها، وهم متزوجون من أكثر من امرأة في وقت واحد، ويتمسكون بتعدد الزوجات، ويعتقدون بكل وثوقية أنّ المكان الأنسب والأكرم للمرأة هو بيتها، وربما يضمرون في كلمة البيت: المطبخ والسرير!
أترضاه لأختك أو لأمك؟ سئل كاتب هذا السطور هذا السؤال غيرَ مرة خلال مساجلات على فيسبوك، وكان دائماً يردّ بـ"نعم"، وكان المحاوِر حينها يرتبك، ويعتقد أنّ من يقول ذلك شخص متحلّل من الشروط والمواضعات الأخلاقية، أو أنه شخص "ملحد" لا يقيم وزناً للقيم، حسبما تشكلت صورة الملحد في المخيال الشعبي.
وذات مساجلة، سئلتُ: أترضاه لابنتك، فأجبت على الفور "بكل تأكيد"، وأردفت أنّ أبنائي يمارسون هذه الحياة التي يعرضها المسلسل بكل سلاسة وطبيعية، وأنني رأيتهم في الشخصيات، فلمَ العجب؟
لم يتمالك المحاوِر نفسه أمام هذه الصراحة المتناهية، فمضى يرغي ويزبد ويكيل الاتهامات والشتائم، وبعضها طاول ابنتي، فاكتفيت بالصمت، لأنّني أعتقد أنّ الشتّامين هم المفلسون الذين فقدوا الحُجة فلجأوا إلى السِباب. ربما صمتُّ لظني أنّ الشتّام (الذي لم يكن في قائمة أصدقائي المعروفين) هو واحد من "الذباب الإلكتروني" التي تطلقه بعض الجماعات على مواقع السوشال ميديا، لإحراج مَن يخالفهم الرأي، وربما يعتقدون أنّ أفعالهم هذه تصبّ في إطار "الجهاد في سبيل الله".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...