في كلمته التي بثتها التلفزة التونسية الرسمية في منتصف ليلة الأحد 20 آذار/مارس 2022 بمناسبة إحياء الذكرى 66 لعيد الاستقلال، أعلن الرئيس قيس سعيّد مصادقة مجلس الوزراء المنعقد تحت إشرافه على 3 مراسيم، يتعلق الأول بالصلح الجزائي بين الدولة ورجال أعمال "متهمين بنهب أموال الشعب حتى تعود الأموال المنهوبة إلى الشعب والدولة التونسييْن".
أما المرسوم الثاني فيتعلق بإحداث "شركات أهلية ستمكّن "الشباب العاطل عن العمل من الأدوات القانونية ليحقق الكثير من أحلامه وآماله في الشغل والحرية والكرامة الوطنية"، فيما يهم المرسوم الثالث مقاومة المضاربة غير المشروعة " لوضع حد للتلاعب بقوت التونسيين".
وبالعودة إلى الأموال التونسية المنهوبة وفق وصف سعيّد، فتقدر قيمة هذه الأموال ب 13.5 مليار دينار (قرابة 5 مليارات دولار) بينما بلغ عدد المتهمين بنهبها 460 شخصا موثقة بالأسماء، وفق ما أعلنه سعيّد يوم 28 يوليو/تموز 2021 استنادا إلى تقرير صادر عن اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد.
وذكّر قيس سعيّد حينها بدعوته "إلى صلح جزائي مع المتورطين في نهب المال العام وعدم وجود نية للتنكيل والمس من رجال الأعمال الذين يدفعون الضرائب"، مؤكدا ضرورة إعادة هذه الأموال إلى الشعب التونسي معلنا عن نيته إصدار نص في هذا المجال.
وبين الترحيب بمرسوم الصلح الجزائي من جهة ورفضه ووصفه بالشعبوي، انقسم التونسيون في تقييمهم لقرار رئيس الجمهورية قيس سعيّد.
"لن يكون ناجعا"
"لن يكون هذا المرسوم ناجعا كما يأمل وينتظر سعيّد لأن الملفات التي تحدث عنها خلال السنوات العشر الأخيرة، فيها من أحيلت للعدالة ووقع البت فيها وإصدار أحكام فيها وهناك قضايا أخرى منشورة وأشخاص لم يجدوا ما يدينهم وهناك من أدين ودفع المطلوب منه، ما يعني أن الرئيس أقام صلحه الجزائي على أرقام غير محينة وغير صحيحة وهو يقول أنهم 460 رجل أعمال بينما هم 460 ملفا"، يعلق الخبير الاقتصادي معز الجودي.
ويوضح لرصيف22 أن مبلغ 13 مليار دينار الذي تحدث عنه سعيّد "غير صحيح لأنه اعتمد الرقم الذي أعلنه البنك المركزي التونسي سنة 2011 كتقدير لكل ما ورد في قائمة اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد، وسعيّد بنى عمليته على تقدير لتعاملات بنكية لا غير وهو يتخيل أنه بإنجازه هذا الصلح سيجد هذا المبلغ جاهزا وسيأخذه"، حسب تعبيره.
"هارب"
وبحسب الجودي، فإن قيس سعيّد "هارب من مشاكل اقتصاد تونس الحقيقية من مديونية مرتفعة جدا ومشاكل الميزان التجاري وميزان الدفوعات وموازنة الدولة في حد ذاتها وأجور القطاع العام التي تعاني الدولة شهريا في توفيرها ومشكل الهيكلة الاقتصادية من خلال العزوف عن الاستثمار الداخلي والخارجي في تونس".
"مبلغ 13 مليار دينار الذي تحدث عنه سعيّد غير صحيح لأنه اعتمد الرقم الذي أعلنه البنك المركزي التونسي سنة 2011 كتقدير لكل ما ورد في قائمة اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد"
كما أشار الخبير الاقتصادي إلى مشاكل "مناخ الأعمال المتردي وفقدان الثقة في الفاعل الاقتصادي وإلى المؤسسات الاقتصادية الدولية التي فقدت الثقة في تونس وإلى ارتفاع الأسعار"، وهي مشاكل "لن يحلها الصلح الجزائي وغيرها من المراسيم التي أعلنها الرئيس"، يؤكد.
وشدد معز الجودي على أنها "ملفات كان من الأجدى مناقشتها صلب وزارات وإدارات"، قائلا " فهي ملفات لا تنتظر رئيس جمهورية يأتي يوم عيد الاستقلال ويعلن مراسيم وكأنها حلول سحرية لحل كافة مشاكل البلاد وهو ما لا يستقيم".
"قرار سيادي اقتصادي"
"هو قرار سيادي اقتصادي بحت وسعيّد اختار يوم الاحتفال بعيد الاستقلال وتوقيع المرسوم فوق الطاولة التي شهدت التوقيع على معاهدة الحماية لبعث رسائل تؤكد أن هذه المراسيم هي في طريق السيادة والاستقلال الحقيقييْن لتونس بفرض القانون والعقوبات على الجميع بالعدل بمن فيهم اللوبيات المتغولة"، يقول الناشط السياسي طارق رحالي لرصيف22.
ويصف مرسوم الصلح الجزائي مع رجال الأعمال بالثوري وبأنه يتماشى مع المسار الثوري الذي انطلق منذ 2011 رغم الانكسارات التي عرفها والذي استعاد طريقه بقرارات 25 يوليو/تموز 2021، قائلا إنه (المرسوم) "طريقة لإنهاء استغلال مختلف السلطات الحاكمة السابقة لمسألة الأموال المنهوبة ولإنهاء ابتزازها لرجال الأعمال بدعم بعض الأحزاب وحملاتها الانتخابية مقابل تسوية ملفاتهم".
وبحسب رحالي، فإن هذا القرار هو نقطة نهاية وغلق سياسة الابتزاز وفتح آفاق وطنية تصب في مصلحة الشعب والمواطن.
"اعتباطية"
"كل قرارات رئاسة الجمهورية بدءا بإجراءات 25 يوليو/تموز 2021 ووصولا إلى هذا المرسوم اعتباطية وحبر على ورق وشعبوية وتندرج في إطار سياسة الهروب إلى الأمام"، ترد الناشطة السياسة المستقلة وفي المجتمع المدني فادية ضيف على مؤيدي الصلح الجزائي.
وتقول لرصيف22 إن إعلان سعيّد عن هذا المرسوم في هذا التوقيت "يأتي في إطار التسويق وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الصورة المتهاوية لقرارات 25 يوليو/تموز كحل أو معجزة لإنقاذ تونس ممن سماهم الفاسدين والفاشلين الممثلين للحكم قبل هذا التاريخ".
وتشدد على أنه يفترض أن يأتي هذا المرسوم بناء على نقاشات ومفاوضات مع هيئات دستورية وقانونية ومع شخصيات وطنية وبناء على جمع مقاربات وآراء كل هذه الأطراف للتوصل إلى خلاصة تفيد المجموعة الوطنية والاقتصاد التونسي في ظل الوضعية الصعبة الحالية وتفيد أيضا مصداقية السياسيين التونسيين.
وعن مدى أهمية هذا المرسوم في ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تعيشها تونس، يرى طارق رحالي بأن "مرحلة البناء دائما تكون أصعب من الهدم وأن الأولوية الآن تقتضي إنهاء نزيف الفساد والنهب المتواصل لثروات البلاد بطريقة مباشرة وغير مباشرة من خلال العقود الاستعمارية المستغلة لثروات البلاد ثم الانطلاق في مرحلة البناء".
"بداية الإصلاح"
ويضيف أن الصلح الجزائي هو "جزء بسيط سيساهم على الأقل بالخروج ببعض المناطق المفقرة من فقرها المدقع لأنه سيحوّل كافة الأموال المسترجعة لفائدة النهوض بكافة القطاعات في المناطق الفقيرة من صحة وطرقات ومدارس، فهو بداية الإصلاح".
"إعلان سعيّد عن مرسوم الصلح الجبائي في هذا التوقيت "يأتي في إطار التسويق وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الصورة المتهاوية لقرارات 25 يوليو/تموز"
بالمقابل، تشكك فادية ضيف في جدوى هذا المرسوم وتطرح عدة تساؤلات حول "الضمانات لقيام رجال الأعمال باستثمارات فعلية في المناطق الفقيرة وبعدم تمتع بعضهم بامتيازات بفضل قربهم من سياسات رئيس الجمهورية وحول المؤسسات التي ستدير هذا الصلح وحول العدالة الاجتماعية الغائبة بين مختلف فئات الشعب في هذا المرسوم".
وتضيف أن تونس تعيش اليوم وضعا اقتصاديا صعبا في ظل فقدان المواد الاستهلاكية الأساسية من الأسواق مع الارتفاع غير المسبوق للأسعار وغياب الحلول الاقتصادية الواضحة التي وعد بها قيس سعيّد ولم يف بها، "فقبل المرور إلى الصلح الجزائي أين الأموال التي تحدث عنها قبل 25 يوليو/تموز 2021 المهربة من قبل نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي وقال إن تونس ذاهبة في إجراءات استردادها من الخارج"، تتساءل.
"الخطب الشعبوية"
وترى أن وعي الشعب التونسي ارتفع كثيرا بعد قرارات 25 يوليو/تموز 2021 وهو يتابع كل ما تنشره المؤسسات الاقتصادية العالمية حول الأوضاع في تونس، لذلك "لن تنطلي عليه هذه الخطب الشعبوية بعد اليوم وهو الذي تُسلَب حرياته وحقوقه والذي يشاهد حالته تسوء يوما بعد يوم، فهو كان ينتظر أن "ترخّص قفته لكنها فرغت تماما".
وتشدد على أن "التونسي الواعي الذي فقد الخبز في الأسواق لن يقتنع "بخطاب سعيّد الاستعراضي منتصف الليل الذي جاء لإنقاذ الغني لا الفقير وإنقاذه من المحاسبة دون ضمانات بعد إلغاء رئيس الجمهورية البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء وكل المؤسسات الدستورية ومعاداته المحامين".
وعن مرور سعيّد مباشرة إلى الصلح مع من نهبوا أموال الشعب دون محاسبتهم، يوضح رحالي أن قرار الصلح الجزائي استثنائي وأنه يتضمن ممرات ولن يكون "قاعدة يواصل على أساسها رجال الأعمال في نهبهم المال العام معولين على هذا المرسوم".
ويؤكد أن "محاربة الفساد بدأت بحل المجلس الأعلى للقضاء وبتعويضه بآخر مؤقت لأن القضاء العادل والمستقل هو الذي سيحاسب الفاسدين ويفرض القانون، ثم استمرت مع هذا المرسوم".
بالمقابل، تؤكد الناشطة السياسية وفي المجتمع المدني فادية ضيف أن "سعيّد يكرّس من خلال مرسوم الصلح الجزائي مع رجال أعمال فاسدين لم ينهبوا المال العام فقط وإنما خالفوا القانون، مخالفة القانون تحت عنوان الصلح الجزائي الذي وضعه ويشرف عليه شخص واحد فقط ، فهو تكريس للفساد ولسياسة الإفلات من العقاب".
"وضع ضبابي ومشوه"
"الوضع ضبابي ومشوه ومخيف اقتصاديا وأمنيا والمواطن التونسي يقارن بين خطابات الرئيس وواقعه المزري، وأنا كمواطنة لا أثق بهذا المرسوم وأعتبره إنقاذا للفاسدين وخاصة لرموز الدولة العميقة وتغولا في فسخ الطبقة الوسطى في تونس وتوسيع دائرة الطبقة الفقيرة وتوسيع الهوة بين رجال الأعمال ورؤوس الأموال وبين عامة الشعب ما يهدد السلم الاجتماعي"، تختم.
يشار إلى أن بنك مورغان ستانلي حذر يوم الاثنين 21 آذار/مارس 2022 من أن تونس تتجه نحو تخلف عن سداد ديونها إذا استمر التدهور الحالي في ماليتها العامة وذلك بعد تخفيض وكالة التصنيف الائتماني "فيتش" يوم الجمعة 18 آذار/مارس 2022 تصنيفها لديون تونس السيادية إلى (CCC) من (-B).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...