شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
كيف منحني أدب الحرب التسامح مع حاضري ومع منفاي

كيف منحني أدب الحرب التسامح مع حاضري ومع منفاي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 22 مارس 202203:43 م

تمنحنا القراءة مساحةً للتعاطف مع الآخر المختلف والغريب عنا، وفي المقابل تعطينا قصص من يمرون بتجارب مماثلة لتجاربنا نوعاً من الطمأنينة التي تشعرنا بأننا لسنا وحدنا في ما نعايش. لم أكن لأظن أن أدب الحرب سيمدني بالسلوى ويخفف نوعاً ما من شعوري بالقلق، لكن منذ أن عصفت الحرب ببلادي ومنذ أن أصبحت لاجئةً لا تملك حق العودة إلى أرضها، وجدتني ومن دون تخطيط مسبق مشدودةً إلى أدب الحرب ومنها تحديداً روايات الحربين العالميتين الأولى والثانية. هل كانت الصدف ما دفعني في غربتي لأقرأ عدداً من الكتب عن هاتين الحربين؟ أما أننا نبحث من دون قصد عما يحاكي معاناتنا؟ في جميع الأحوال، فإن بعضاً مما قرأت من الروايات حول هاتين الحربين أعطاني قدراً من التماهي مع مصائر أبطالها ومع تاريخ مدنها المنكوبة. ومع إدراكي حجم مأساة بلادي، بتّ أبحث عن السلام في قصص من ذاق مرارة الخسارة.

باريس الوديعة الساكنة والتي لا يتناسب سكونها مع قلقي، هي المدينة التي تدور فيها أحداث رواية "كل النور الذي لا يمكننا رؤيته"، لأنطوني دور، الأمريكي الجنسية. وقد صدرت الرواية بالإنكليزية في 2014، وترجمت في ما بعد إلى العربية.  وقد حصلت على جائزة بوليتزر في 2015.

كانت قراءتي للكتاب باللغة الإنكليزية، وبالرغم من كبر حجمه إلا أنه رافقني في أغلب تجوالي في باريس. وكما أوضحت بدايةً لا أذكر حقاً كيف وصل إلى يدي هذا العمل، لكن أؤكد أن قراءته كانت من التجارب الأساسية التي ساهمت في بناء علاقة خاصة مع البلاد التي تبنّتني. تصدرت هذه الرواية قائمة "النيويورك تايمز" للكتب الأكثر مبيعاً في تاريخ صدورها 2014، وللمصادفة كان هذا تاريخ لجوئي إلى فرنسا ومحاولتي الحصول على الأمان.

لم أكن لأظن أن أدب الحرب سيمدني بالسلوى ويخفف نوعاً ما من شعوري بالقلق، لكن منذ أن عصفت الحرب ببلادي ومنذ أن أصبحت لاجئةً لا تملك حق العودة إلى أرضها، وجدتني ومن دون تخطيط مسبق مشدودةً إلى أدب الحرب ومنها تحديداً روايات الحربين العالميتين الأولى والثانية

تدور أحداث الرواية على التوازي بين ألمانيا وفرنسا في متابعة لقصة طفلة فرنسية ضريرة وهي ماري لور لوبلنك، وطفل ألماني وهو فيرنر بفينيغ جعلت الحرب العالمية الثانية مصائرهما تلتقي في هذا العمل. لم تكن قراءة الكتاب مجرد متعة عابرة، بل كانت غوصاً في تصور معالم هذه المدينة في ظل الاحتلال الألماني وفي ظل النكبة التي ألمّت بها. كنت أضيع بين السطور التي تروي نزوح الباريسيين وتشتتهم عن عوائلهم وأحبّتهم. وكما كان العمل يستعرض أسماء شوارع بت أعرفها وآلف جمالها. لكن على عكس ما هي عليه هذه الشوارع المعبدة والمزينة بالورد، فقد حملت قصص عبور حزين لأطفال وطفلات ضلوا وضللن طريقهم/ ن عن أهلهم. اللافت في الموضوع أن أنطوني دور رسم تفاصيل المدن بخيال مذهل يصيب القُراء والقارئات بالدهشة. فيعطي الكاتب انطباعاً بأنه عاش في تلك الحقبة واختبر الحرب واللجوء. ويبدع الكاتب في الغوص في قصة الطفل الألماني فيرنر بفينيغ وفي وصف عالمه الصغير في مدينة فقيرة توفي والده فيها في منجم للفحم. ويسبر الكاتب بصبر وبتأنٍّ ملامح عوالم متشابكة تروي قصة حرب معقدة لكن بنفس طفولي يلتزم برؤية العالم بعيني بطلي الرواية الصغيرين.

ومن الغريب أنني وصلت إلى مدينة سان مالو في وقت تزامن مع قراءتي الرواية. وفي سان مالو يدور قسم كبير من العمل حيث الإنزال الأمريكي وحيث تجد ماري لور لوبلنك نفسها في مواجهة حرب متوحشة بعيدة عن بيتها في باريس وعن والدها وتحت رحمة ضابط نازي جشع. كنت أتأمل أبنية المدينة المذهلة هندسياً وجارتي بالقرب مني تروي لي كيف قُصف معظمها في الحرب، وكيف أصر الفرنسيون الحفاظ على البنية ذاتها عند إعادة الإعمار. كما أخبرتني بأن ما نراه بالرغم من كونه يحمل الطابع القديم للمنطقة، هو بناء حديث العهد نسبياً يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. جعلني التوازي الغريب بين العالم الذي أعيش فيه وعالم الرواية التي أقرأها، أضيع بين زمنين وبين وجهين لمدينة ظننت أني أعرفها، لكنها لم تكن لتكون ما هي عليه لولا ما مرت به وعاشته. هذا التوازي بين التاريخ والحاضر يمنحنا السلام والصبر لانتظار أيام أفضل.

ومن الروايات التي أسرتني بصنعها المتقن، رواية "وداعاً يا من بالأعلى" للكاتب الفرنسي بير لوميتر. وقد حصلت على جائزة الغونكور الفرنسية في 2013، وتم اقتباسها لفيلم يحمل العنوان نفسه في 2017. تأخذنا الرواية إلى تأمل تجربة مختلفة تعود للحرب العالمية الأولى في عام 1920. هذه الرواية ترصد حياة جنديين تتلاعب بهما الحرب وقيادات الجيش والمستفيدون منها. يتابع العمل محاولة المجند إدوارد بريكورت وهو رسام من طبقة برجوازية وزميله ألبرت ميلارد وهو محاسب متواضع، النجاة من عنف المعارك المحتدمة، وخاصةً مع وجود الملازم هنري دالناي براديل المستعد لارتكاب جرائم في سبيل نيل أوسمة بطولة وهمية. يظهر العمل أن لا شرف في الحروب وأنها مجرد أداة في يد من هم في السلطة. يعطينا العمل مساحةً لتأمل علاقتنا بالحروب والتي قد تحكمها أيديولوجيات قد تعمي بصرنا عن حقيقة الحرب الكبرى والتي تخلو من أي معنى كونها مجرد وسيلة لتثبيت سلطة مجموعة من الطبقة المتنفذة.

بقراءة هذه الروايات وجدت إمكانية التماهي مع الآخر وملامسة مشاعرهم/ ن في وجه قدر يكبرهم/ ن بمراحل، ويتجاوز القدرة على التعاطي مع قسوته. يعطينا أدب الحرب نظرةً معمقةً على مصائر أناس يعايشون ويعايشن ألماً يصعب وصفه، لكن بالرغم من قسوته يستمر البحث عن إمكانيات للهرب وخلق بدائل

في مصادفة أخرى، وجدتني أقرأ رواية "بحر الذكريات" للكاتبة البريطانية فيونا فالبي والصادر في 2018، وقد لمست في العمل عذوبةً تتحدى تفاصيل الموت والحرب. يرصد العمل قصة حب تعود للحرب العالمية الثانية بين سيدة من بريطانيا وحبيبها الفرنسي والتي تتتبّع تفاصيلها حفيدتها التي لم تكن على علم بها. وتدور أحداث العمل بين حاضر نرى فيه الجدة متعبة على سرير الموت في بريطانيا، وبين ماضي ينتقل بينها وبين فرنسا. ترى الحفيدة التي تقع تحت وطأة حاضر صعب، وهي ترعى طفلاً يعاني من التوحد، ماضي جدتها التي خسرت بسبب الحرب الحب والكثير من أحلامها. تدرك بتقصيها للماضي مكامن القوة في قصة جدتها مما يمنحها السلوى لتتحمل تحديات الحاضر. يحمل العمل طابعاً رومنسياً وقد يخلو من عمق العملين السابقين وشهرتهما، لكنه يمنح لذة البحث في تفاصيل حب مستحيل. وقد يساهم هذا النوع من القراءة، بالإضافة إلى عنصر الترفيه الذي يحمله، في تعلم طرق مختلفة للحديث عن الحروب وأثرها على الأفراد.

بقراءة هذه الروايات وجدت إمكانية التماهي مع الآخر وملامسة مشاعرهم/ ن في وجه قدر يكبرهم/ ن بمراحل، ويتجاوز القدرة على التعاطي مع قسوته. يعطينا أدب الحرب نظرةً معمقةً على مصائر أناس يعايشون ويعايشن ألماً يصعب وصفه، لكن بالرغم من قسوته يستمر البحث عن إمكانيات للهرب وخلق بدائل. قراءة التاريخ هي فرصة لفهم الحقائق والمعرفة، بينما قراءة الروايات هي رحلة في المشاعر والعواطف المعقدة لأشخاص يشبهوننا قد ينساهم التاريخ أو قد لا يشملهم في بحثه. أن أقرأ قصة مدينة، مبهرة بحاضرها وأخاذة بجمالها، في لحظة تاريخية عجزت فيها عن الدفاع عن أبنائها وبناتها، يسمح لي بإمكانية تخيل مدينتي دمشق في مستقبل آخر أكثر جمالاً وأقل وجعاً. العودة إلى قصص من غيرّت مصائرهم/ ن الحرب هو إمكانية لاستيعاب الوجع الذي نقاسيه كألم إنساني مر به غيرنا، وهو ألم من الممكن أن ينتهي. أن نقرأ أدباً من ماضي مدن نعيش فيها منفانا ونحن نشعر بالوحدة والعزلة فيها، يسمح لنا بالتسامح مع هذه المدن التي قاسى فيها من مروا كي تكون ما هي عليه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image