شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لكنّي مجرد إنسان في الواقع، ومصرية في السجن

لكنّي مجرد إنسان في الواقع، ومصرية في السجن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 30 مارس 202210:39 ص


أظنُّ أنّ الخطأ الذي وقع فيه الحالمون بالحرية هو أنّهم صدّقوا قصص الطفولة التي علّمونا إيّاها في المدارس، والتي قصّها عليها أجدادنا أيام الصغر. لم نصدّق أنها مجرد حكايات، وأنّ الخير لا ينتصر في النهاية.

الطرقات التي نسلكها بمفردنا لا يزدهر فيها الورد مع كل خطوة، ولا يصاحبنا الطير. الطرقات التي نقرّر أن نسير فيها وحدنا، يغمرنا الخوف وترتعد مفاصلنا وتصاحبنا آلام الضربات طوال لياليها. وفي نِهاراتها، نشعر بالوحدة وترافق عقلنا أنغام الموت الحزينة.

إنْ ساقت القرارات الشجاعة بطل "الحدوتة" إلى السجن، فإنه لا يُعذَّب، ولو تم تعذيبه، بستطيع أن يتحرّر، ويحرّك يديه بقوة فينفجر القيد الحديدي، ونشاهده بتقنية التصوير البطيء. ثمّ يُذهل الجلاد ويفتح عينيه وتتسع حدقتاه وهو يشاهد البطل يهبّ واقفاً ليتمكّن من مغادرة الزنزانة، وهو يدفع كل شخص يقترب منه ويتفادى الرّصاص بحركة سريعة.

أظنُّ أنّ الخطأ الذي وقع فيه الحالمون بالحرية هو أنّهم صدّقوا قصص الطفولة التي علّمونا إيّاها في المدارس، والتي قصّها عليها أجدادنا أيام الصغر. لم نصدّق أنها مجرد حكايات، وأنّ الخير لا ينتصر في النهاية

لكن في الحقيقة، لا يحدث هذا كلّه. حينما سُجنت كنت أتخيل تلك المشاهد وأشعر بالحسرة لأنّي لست بطلة في إحدى تلك القصص، ولكنّي مجرد إنسان في الواقع، ومصرية في السجن. يداي في القيد لا أستطيع أن أنزعهما أو أنْ أخضع للجلاّد الذي يخرج حراً لبيته ويسير في الشوارع بحريّة، بينما أنا في هذه الزنزانة الضيقة المظلمة.

وحين سأخرجُ، لن أجد العالم يرحّب بي مثلما كان يرحّب أهل المدينة بالبطل في "الحدوتة". سأجد بعضهم خائفاً وبعضهم يقول إنّي خائنة أو إرهابية. سأجد بعضهم لا يهتم وبعضهم يحذرني من أن أعيد الكرّة. وسأجد آخرين في نفس صفّي والقيود تهدّدهم أو تكبلهم.

في الحكايات، ينتفض الناس الأخيار جميعاً ضد الأشرار. والبطل الشرير واضحٌ دائماً، قبيح أو يرتدي الأسود أو يظهر بشكل مخيف يقبض الأنفاس.

الشرّ في واقعي لا يرتدي زي الخراف، وإنما يرتدي زي الراعي.

في الواقع، لما واجهت الشر، وجدته وسيماً وأنيقاً، يعرف كيف يختار كلماته كما يختار مكان ضرباته، ويحترف اللعب بالأعصاب كما يحترف كرة التنس في نادٍ اجتماعي شهير. الشرُّ مرموق يحبّه الناس ويتبعونه بأنظارهم بإعجاب ويتمنّون لو يقتربون منه.

الشرّ في واقعي لا يرتدي زي الخراف، وإنما يرتدي زي الراعي.

وأنا لا أعلم ماذا أرتدي. لا زي الخراف أقبله ولا زي الذئب يناسبني. في واقعي، أظل عاريةً إلا من ثوب المطاردة فهو يصاحب الحب والاستقرار والعمل.

يُصاحبني الشكّ في وجودي، وفي الوجودية

تساقط الوجود من ثنايا العدم. تساقط كأوراق الخريف من على الشجر، إلا أنّه في واقعي أيضاً لا يوجد ورق خريف على الأرض لأن الشجر قليل، ولأن الأرض يحتلّها أصحاب السيارات، حتى جوار البحر الأزرق تحتله السيارات، فلا مجال في الواقع للصور الجمالية.

في حكايات الطفولة، كان البطل قوياً وسعيداً دائماً، ولكنّي في واقعي، فقدتُ السعادة عندما وثقتُ بحكايات الطفولة.

أصبحت بلادي ضعيفة وأصبحت أنا أيضاً ضعيفة. أرى هشاشة مستقبلي، وألاحظ أحلامي تسخر منّي، وتمدّ لي لسانها من خلف حائط إسمنت تعلوه أسلاك شائكة.

أذكر كلماتي على حائط الزنزانة، كتبتها بقلم مُهرّب من أسفل الباب. أخشى أن أخرج من السجن ولا يخرج السجن مني، وأن أعود لحريتي فلا أجدها.

حبكة القصص التي سمعناها في صغرنا لا بد أن نعيد صياغتها حتى لا ينخدع بها أطفال آخرون. تلك القصص التي ينتصر فيها الخير، ويفرح فيها البطل بنهايات سعيدة ليست حقيقية. وقد تعلّمنا هذا الدرس بالطريقة الصعبة

كانت مفارقة مضحكة أن أفشل في محاولة الموت حين فشلتُ في محاولة الحياة. رأيت أنّ الفشل لا يليق بي، ولكنّي حينما قررت أن أحيا وأقاوم، لم أصبح بخير ولا بسلام ولا بأمان.

حبكة القصص التي سمعناها في صغرنا لا بد أن نعيد صياغتها حتى لا ينخدع بها أطفال آخرون. تلك القصص التي ينتصر فيها الخير، ويفرح فيها البطل بنهايات سعيدة ليست حقيقية. وقد تعلّمنا هذا الدرس بالطريقة الصعبة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard