تلقيتُ دعوةً من مؤسسة ثقافية في بيروت لحضور ورشة عمل ليومين. جاء اليوم المنتظر، والحجز في الفندق كان جاهزاً. قالت الفتاة التي كانت تراسلني عبر البريد، والتي كنتُ أسألها مراراً عن تفاصيل الإقامة في الفندق: متى؟ وأين هي منطقة الفندق في بيروت؟ هل من تفاصيل؟ أجابت: أراك تسأل كثيراً عن منطقة الفندق، هل أنت بخير؟ قلت لها: نعم بخير، ولكنّي أتطلّع إلى معرفة المنطقة، لأنّي سوف أنطلق من مخيم نهر البارد شمال لبنان مباشرةً إلى الفندق مساء الخميس.
لم تسألني الفتاة عن تفاصيل المخيم كثيراً، بل اكتفت بأنّي سأكون في فندق "الرويال توليب" في الأشرفية، مقابل الجامعة الأمريكية للعلوم والتكنولوجيا في الوقت المحدّد.
قلتُ له: "المخيم هو الفندق يا صديقي والعكس، ولكنّ المختلف بينهما هو الماء الساخن فحسب.
لا أعرف لم وضعتُ في الحقيبة رواية الروائي الفلسطيني، ربعي المدهون، "مصائر"، حين انطلقت إلى الفندق مساء الخميس. وضعت الرواية بين ملابسي وعطري وأوراقي الشخصية وفرشاة أسناني، وكأنّي على سفرٍ طويلٍ، بينما هي مسافة قصيرةٌ بين منطقتين داخل البلد الواحد، العاصمة والمخيم.
وصلت إلى الفندق في الأشرفية الساعة الخامسة مساءً. بعد أنْ دخلت، رحّبت بي المضيفة وسلّمتني بطاقة الغرفة. وسألتني: "من أي بلدٍ وصلت؟". قلت لها مستغرباً وأنا أحدق في المكان وفي باحة الفندق: "وصلتُ إلى هنا من لبنان". قالت: "أنت من لبنان؟"، قلتُ: "نعم". وصارت تتكلم معي بالإنكليزية، وكأنها لم تصدق أنّي من لبنان. "يبدو أنّك وصلت من المطار"، وعندما سلّمتني بطاقة غرفتي في الطابق الرابع الرابع، قالت: "ممكن آخذ صورة عن الهوية الشخصية؟"، فسلّمتها هويتي الزرقاء، وهي "هوية لاجئ". نظرت إليها باستغراب: "أهااا... فلسطيني من مخيّم؟"، قلتُ لها: "نعم". شعرتُ بأنّها ستسألني أكثر، ولكنّ اهتمامها قلّ نوعاً ما باستقبالي.
بعد أنْ دخلت، رحّبت بي المضيفة وسلّمتني بطاقة الغرفة. وسألتني: "من أي بلدٍ وصلت؟". قلت لها مستغرباً وأنا أحدق في المكان وفي باحة الفندق: "وصلتُ إلى هنا من لبنان". قالت: "أنت من لبنان؟"، قلتُ: "نعم". وصارت تتكلم معي بالإنكليزية، وكأنها لم تصدق
دخلتُ إلى غرفتي رقم (604). كانت باحة الغرفة واسعةً والشرفة مفتوحةٌ على شارعٍ جانبيٍّ، وكان الضوء خافتاً. ارتميتُ على السرير الأبيض، رافعاً ذراعي إلى أعلى. كنتُ مصاباً بشعورٍ خفيٍّ، وهو أنّ هذه الإقامة مؤقتة وستنتهي عمّا قريب. وأنا لاجئ هنا وهناك، بين ضوضاء المخيم وهدوء الفندق. أنا الضيفُ هنا في غرفتي المؤقتة، وأنا الضيفُ في مخيمٍ مؤقت.
وفي المساء، فتحتُ الحقيبة ورأيت رواية "المصائر" (كونشرتو الهولوكوست والنكبة)، قبالتي. قلتُ لنفسي: "سأستغل وجودي في الفندق لآخذ حماماً ساخناً، ففي المخيّم نعيشُ بلا كهرباء، والسخّان الكهربائي مقطوع".
بعد خروجي من الحمّام، عدتُ إلى رواية "المصائر"(كونشرتو الهولوكوست والنكبة)، وفتحتُ الصفحة الأولى، وقرأتُ: "النكبة". ثمّ اتصل بي صديقٌ من المخيم كي يطمئنّ عليّ: "هل وصلت إلى الفندق؟".
"نعم".
"ماذا تفعل الآن؟".
قلتُ لهُ: "أخذتُ حمّاماً بالماء الساخن مازحاً معهُ بفرحٍ ساخر".
قال: "لماذا لم تأخذني معك إلى الفندق كي آخذ حمّاماً بالماء الساخن؟".
قلتُ له: "المخيم هو الفندق يا صديقي والعكس، ولكنّ المختلف بينهما هو الماء الساخن فحسب. سأحضر لك 'كمشةً'"، فضحك وغاب. وعدتُ إلى "المصائر" (كونشرتو الهولوكوست والنكبة)، وفتحتُ الصفحة الأولى، كي أكمل قراءة "النكبة...".
كلُّ ما حولي مؤقّت
صباحٌ محمولٌ على صمتٍ شاعريٍّ. كلُّ ما حولي مؤقتٌ، حتى هذا الفرح الخفيّ. أنزل كي أتناول الفطور الفندقي الجاهز، وفي يدي رواية "المصائر". وصلت إلى الفصل الأول فيها: "من فندق في حيفا حتى الفندق في لندن"، تمرّ عليّ هذه العبارات، وأطير معها إلى رمزية الفندق والمخيم والشبه الكبير في النزاع مع المكان الخارج عن قاموس البقاء.
أتركُ مقهى الفندق على عجلٍ، لأتمشى قليلاً في الشارع المقابل في الأشرفية. أرى الناس هنا يتكلّمون الفرنسية، وحين تقدمت قليلاً، وجدت في الجامعة الأمريكية في بيروت تمثالاً كبيراً للشاعر اللبناني، سعيد عقل. وحول التمثال، يوجد مقعد حجري أبيض وطاولة. قلتُ لنفسي: "هل يدعوني سعيد عقل إلى القهوة الصباحية؟". وحين تقدمتُ أكثر، وجدت تمثالاً آخر كبيراً للكاتب اللبناني، جبران خليل جبران، وفضّلت أن أشاركَ الأخير قهوته وحكمته، وسألته: "هل الإقامة في الثقافة أم في المصائر؟".
فكرتُ في كلام مضيفة الفندق وأنا في طريق العودة: الهوية الزرقاء، ومفتاح بطاقة الغرفة التي لا تريدها بعد الخروج لأنّ رقمها قد تغير ربما لشخصٍ آخر، فحتى هذا المفتاح مؤقت. "مفتاح عن مفتاح بيفرق"، مثل "خيمة عن خيمة بتفرق"
بعد يومين، انتهت الزيارة القصيرة، ولم تنتهِ رحلة البحث عن العالم/ البيت. انتهت أيام الفندق، ولكن لم تنتهِ أيام المصائر (كونشرتو الهولوكوست والنكبة). أن تجهز نفسك للخروج من الفندق في الأشرفية إلى مخيم نهر البارد/ الفندق المخيمي الذي تأسس عام 1948، بين منطقتين متناقضتين في الطبيعة والثقافة وربما في المصائر. ولكن المؤقت هنا هو الضيف الثقيل الذي لم ينتهِ من زيارتنا بعد.
فكرتُ في كلام مضيفة الفندق وأنا في طريق العودة: الهوية الزرقاء، ومفتاح بطاقة الغرفة التي لا تريدها بعد الخروج لأنّ رقمها قد تغير ربما لشخصٍ آخر، فحتى هذا المفتاح مؤقت. "مفتاح عن مفتاح بيفرق"، مثل "خيمة عن خيمة بتفرق"، مثلما قال الكاتب الفلسطيني، غسان كنفاني، والتقت المسافة بين المنفيين، وفي اليد روايتنا المشردة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...