بالرغم من أنها مملّة في الظاهر، ازدادت بشكل غير مسبوق خلال الأعوام الماضية شعبية موسيقى "الدرون" على منصات الاستماع. تعتمد هذه الأصوات على عزف نغمة واحدة متواصلة من دون إيقاعات أو تحولات هارمونية، وغالباً لا يتم التعاطي معها كمادة ترفيهية، بل كأداة لتهدئة الأعصاب، والاسترخاء، وزيادة التركيز خلال تمارين اليوغا، والمساعدة على النوم لفترات طويلة.
يبرر الأطباء هذه القدرة المهدئة للدرون بسبب "ضجيجه البدائي" الذي يتطابق مع الصوت الذي كان يسمعه الطفل خلال وجوده في رحم أمه، وهو صوت غير هادئ بالضرورة، وبدرجات مختلفة تصل أحياناً إلى حد الصخب، تحديداً كما هو الحال بالنسبة إلى رحم الأم الذي وفق الدراسات تصل مستويات الضجيج فيه إلى حدود يمكن أن تضاهي ضجيج المكنسة الكهربائية.
تتنوع مصادر الدرون بين جزء موجود في الطبيعة (أصوات الحشرات مثلاً أو خرير المياه)، وآخر تخرجه الآلات الموسيقية (السيتار، والطمبورة، والباغ بايب، والهوردي غوردي، والسينثسايزر الكهربائي...). يمكن إيجاد الدرون أيضاً بشكل كثيف في المدن، فهو الصوت الأكثر تكراراً في البيوت والشوارع (الموتورات والآلات الكهربائية في المنازل، وخطوط الكهرباء في العواميد، والسيارات والدراجات النارية).
بين الماضي والحاضر
لطالما عُدّ الدرون تاريخياً صوتاً ذا طبيعة روحانية، إذ رأته الشعوب وسيطاً بين العالم المادي وعالم الماورائيات، واستخدمته الجماعات الدينية كمرافق لطقوس الصلاة. في المسيحية بقيت لقرون آلة الدرون "الأورغن" الآلة الموسيقية الوحيدة المسموح بها من قبل الكنيسة في التراتيل الدينية. أما في ديانات شرق آسيا، فكانت آلتا السيتار والطمبورة مرافقتين دائمتين لجلسات التأمل الطويلة بسبب مساعدتهما المؤمنين على التركيز، وقدرتهما على خلق الوهم بالوحدة بين العقل والجسد، أو بين عوالم المادة والروح.
في زمننا الراهن، تحرر الدرون نسبياً من الروحانية السابقة لتصبح استخداماته أكثر تشعباً، منها ما يتعلق بالسينما التي استفادت من طبيعته البصرية التي تحفز على التخيل، ليصبح مرافقاً دائماً للأفلام خاصةً مشاهد الرعب والتشويق التي تتطلب عنصراً صوتياً يمكن أن يثير التوتر والقلق.
يبرر الأطباء هذه القدرة المهدئة للدرون بسبب "ضجيجه البدائي" الذي يتطابق مع الصوت الذي كان يسمعه الطفل خلال وجوده في رحم أمه
في الموسيقى، بدأ الاهتمام بالدرون منذ ستينيات القرن الماضي في نيويورك، بشكل موازٍ لانتشار ثقافة الهيبيز التي فتحت الباب للتعرف على ديانات شرق آسيا (مع انتشار طقوس اليوغا، ورواج المواد المخدرة كأداة للتأمل واكتشاف طبقات جديدة في اللا وعي). من أول الموسيقيين الذين وظفوا الدرون إبداعياً الأميركي La Monte Yong، الذي قام بإنشاء تجهيز بعنوان "بيت الأحلام"، وهو عبارة عن غرفة في داخلها آلة درون لا تزال تعزف النوتة نفسها منذ عقود حتى اليوم (لا يزال التجهيز قائماً في نيويورك حتى يومنا هذا).
وأسس يونغ عام 1966 "مسرح الموسيقى الأبدية" Theatre of Eternal Music، وهي أوركسترا ضمت موسيقيين من الطراز الأول كانت متخصصةً حصراً في الدرون. وساهمت هذه الأوركسترا في نقل الاهتمام بالدرون إلى أنماط أخرى، منها موسيقى الروك (فرقة Velvet underground)، والميتال (فرقة Sun O)، والموسيقى الاختزالية ( براين إينو)، والكراوت روك (Can وكرافتويرك).
درون بيروت
اليوم، بعد ما يقارب النصف قرن على صحوة الدرون الأولى، يعاد الاعتبار مجدداً إلى هذا النمط حول العالم خاصةً بين فرق الأندرغراوند. ففي بيروت، تم تنظيم أوّل مهرجان للدرون Beirut Drone 2019،وامتد 12 ساعةً وشارك فيه 18 موسيقياً (نُظّمت عام 2021 نسخة افتراضية من المهرجان)، وأغلبية المشاركين اللبنانيين قدموا نسخاً إلكترونية من النمط، أي بالاعتماد على آلات كالسينثسايرز والمودولار، باستثناء قسم اعتمد على آلات كهربائية مثل الغيتار الكهربائي والباص.
بعد المهرجان بوقت قصير، قامت مجموعة من الموسيقيين بتأسيس تجمع للدرون تحت عنوانThe quite sanctuary "الملاذ الآمن"، ويضم كلاً من شربل هبر، وفادي طبال، وأنطوني صهيون، وزياد مكرزل، وساري موسى، ويمنى سابا. كان من المفترض أن يقدّم التجمع أول حفل له في مكان عام قبل أسابيع، لكن تم تأجيل الحدث بسبب ارتفاع أرقام المصابين بجائحة كورونا.
الدرون موسيقى ديمقراطية تعطي المستمع الحرية في كيفية تلقيها وتأخذ شكل الفضاء الذي تُعزف فيه، متناغمةً مع الأصوات القادمة من الشارع وهمهمات الحاضرين في القاعة، بعيداً عن الاستعراض والمثالية
وفق شربل هبر، أحد أعضاء فرقة "باني تايلرز"، و"سكرامبلد إغز" سابقاً (عام 2010 قدّمت أحد أوائل ألبومات الدرون في بيروت): "يشير عنوان التجمع "الملاذ الآمن" إلى محاولة الموسيقيين البحث عن مساحة هادئة في المدينة يمكنهم فيها عزف ما يريدون بعيداً عن الجنون اليومي الذي تعيشه الشوارع، سواء أكان جنون التظاهرات التي كانت تشهدها المدينة عام 2019 (حين تم تأسيس التجمع)، أو ضجيج الأندية الليلية وشوارع السهر التي تريد من الناس أن ترقص وتفرح بشكل مستمر".
يتناغم تفسير الهبر لاسم التجمع، مع توجه هؤلاء العازفين بشكل عام (سواء الذين شاركوا في المهرجان أو أعضاء التجمع)، نحو تبنّي مفهوم للموسيقى يقطع مع السائد في الموسيقى الإلكترونية التي نجدها في الأندية والملاهي الليلية، أي التي تحفّز حصراً على الرقص واستهلاك الوقت. فالدرون يُعدّ موسيقى ديمقراطيةً إلى حد ما، تعطي المستمع الحرية في كيفية تلقيها وتأخذ شكل الفضاء الذي تُعزف فيه، متناغمةً مع الأصوات القادمة من الشارع وهمهمات الحاضرين في القاعة، وليست كما الأنماط الأخرى تريد الاستعراض والوصول إلى المثالية بأكبر قدر من الآلات والنقلات النغمية.
يقول أحد أعضاء التجمع، زياد مكرزل، وهو عازف موسيقى إلكترونية وأحد مؤسسي مركز تعليم السينثسايرز في بيروت: "الدرون يعطي المجال للمستمع لخلق قصته الخاصة، وتخيّل ما هو وراء الموسيقى. إنه يقدّم مادةً متواضعةً وليست سلطويةً، إذ يتساوى العازف والمستمع؛ الأول يضع الجذع، أما الثاني فيزيد الأغصان والأوراق التي تكون غالباً عبارةً عن تعديل في نبرة الصوت tone، وخصائصه المرتبطة بتصميم الصوت".
ينسحب الطابع المضاد للسلطوية أيضاً على سياقات عزف هذه الموسيقى، فمثلاً خلال مهرجان بيروت للدرون عام 2019، قدّم العازفون مقطوعاتهم جالسين في مستوى الجمهور نفسه، كأنهم يستمعون مثله إلى الموسيقى، فاسحين المجال لهم في الوقت نفسه ليكونوا عازفين بدورهم. هذا بعكس ما يكون عليه الوضع في حفلات الموسيقى الإلكترونية الراقصة في الأندية الليلية التي يقف العازفون فيها على منصة تكون أعلى من الحاضرين، كأنهم رجال دين في كنيسة. أما سلوكياتهم خلال العزف فتصب في هدف واحد هو التحكم بأجساد الحاضرين من خلال الإيقاع الذي يريد تحريك الأجساد وإبقائها نشطة قدر الإمكان على حلبة الرقص.
لا تكون حفلات الدرون في أمكنة تحاصر المستمع بالإيتكيت، فيمكن أن تكون في غابة أو في مبنى مهجور، من دون أن تلزم أحداً بسلوكيات معيّنة
طبعاً، هذه الخاصية "الديمقراطية" في الدرون ليست محصورةً فيه، بل نجدها مع أنماط إلكترونية مضادة للسائد كالآمبينت، والإلكترونيكا، وNewAge، وChill out، وغيرها، والتي تمتلك شعبيةً عند هذه الفئة من موسيقيي بيروت. تشترك هذه الأنماط في التركيز على نوعية الصوت عوضاً عن الميلودي، أي "النسيج"، ودرجة التردد FrequencyوالـTimbre، بالإضافة إلى عدم الاعتماد على التقسيم التقليدي بين الأصوات في الخلفية والمقدمة، "هي موسيقى لا يُعرف متى تبدأ ومتى تنتهي، فهي غير موجودة بالضرورة ضمن فضاء صوتي محدد وسياق زمني واضح"، وفق الموسيقي البريطاني براين إينو.
غالباً لا تكون حفلات الدرون في أمكنة تحاصر المستمع بالإيتكيت، فيمكن أن تكون في غابة أو في مبنى مهجور، من دون أن تلزم أحداً بسلوكيات معيّنة عند سماعها، كالرقص والفرح، ولا الجلوس ساكتين كأنهم في صف مدرسة كما يحصل في حفلات الموسيقى الكلاسيكية.
الدرون والمدينة
من ناحية أخرى، للدرون قصة خاصة مع بيروت، كرّستها السينما أيضاً، وليس الموسيقى فحسب. بدأت هذه القصة منذ بداية موجة السينما المستقلة خلال العقد الأول من الألفية التي تناولت المدينة من وجهة نظر ميلانكولية، تعيش إلتباساً دائماً بين الماضي والحاضر، كأن الحرب لم تنتهِ بعد، والكارثة دائماً على الأبواب. بشكل مشابه تصوّر هذه الموجة سكان المدينة تائهين في علاقتهم بالزمن: هل يتشبثون بالنوستالجيا أو ينتظرون الانهيار القادم؟ هل يهاجرون أو يبقون؟ (من رواد هذه الموجة الأوائل، غسان سلهب، وجوانا حجي توما وخليل جريج، ومحمد سويد، ولميا جريج، وأكرم الزعتري...).
ظهر الدرون ضمن هذه الموجة، ليس كأداة لخلق التشويق في الحبكة كما هو معتاد سينمائياً، بل لإيصال حالة مرتبطة بهذه التناقضات التي تعيشها المدينة. وفق شربل هبر: "على مدى السنوات الماضية استسهل المخرجون استعمال الدرون كموسيقى تصويرية ترافق المشاهد التي تظهر الشخصيات في سياقات مدينية (في الشوارع مثلاً أو الأحياء)، ليصبح في النهاية سمةً عامةً أقرب إلى كليشيه سمعي-بصري. طبعاً نتفهم ذلك، فالمغري في الدرون أنه يشير إلى "تفجيرية" التناقض الذي نعيشه بشكل يومي. فجميعنا نعرف أن بيروت مدينة غارقة في الميلانكوليا، لكنها في الوقت نفسه تريد أن تكذب على نفسها؛ أن ترقص وتسهر حتى وقت متأخر وتظهر سعيدةً للعالم. لذلك، حين نستخدم الدرون نعطي نوعاً من الشاعرية السوداء. فأنت تعزز التوتر عند المشاهدين وتذكّرهم أنه بالرغم من رقصهم اليوم وفرحهم، سيتغير وضعهم نحو الأسوأ بعد وقت قصير".
يحتل الدرون أيضاً مساحةً في الأفلام الوثائقية، خاصةً الـEssay Films، وهو نمط من الوثائقيات يمتلك مزايا ذاتيةً ويضم خليطاً من الموسيقى، والأدب والشاعرية البصرية. في عدد من أفلام هذه الفئة، نرى الشخصيات تنتقل في الشوارع على الأقدام أو في السيارة، وغالباً ما ترافق حركتهم موسيقى الدرون. أحد الأمثلة النموذجية عن هذه الأفلام "ليال ونهارات"، للميا جريج، وقد أنهته بعد وقت قصير من حرب تموز (2006)، ويتابع يوميات المخرجة بين منزلها والشوارع، في مشاهد تتنوع بين نهارية وليلية تظهر بيروت وقد هجرها أغلب سكانها لتصبح أشبه بمدينة أشباح.
نسمع في الفيلم نمطين من أصوات الدرون، الأول مبرر وهو تسجيل ميداني للطائرات المسيرة (تحمل للمصادفة اسم الدرون نفسه)، والتي كانت خلال أسابيع الحرب تسيطر بشكل كامل على سماء المدينة وتراقب السكان كأنها "عين الله". لا يظهر هذا النمط من الدرون سوى لوقت قصير في الفيلم، بعكس النمط الثاني الذي تتألف منه الموسيقى التصويرية وهو عبارة عن درون تم عزفه على آلة الغيتار.
للدرون قصة خاصة مع بيروت، كرّستها السينما أيضاً، مع بداية موجة السينما المستقلة خلال العقد الأول من الألفية التي تناولت المدينة من وجهة نظر ميلانكولية
يلعب صنفا الدرون في الفيلم (الميداني والموسيقي)، على أحاسيس مختلفة عند المشاهدين. فدرون الطائرات واقعي ورتيب إلى حد كبير، وظيفته كانت التذكير بمشاعر الخوف الغريزي الذي خلقته هذه الطائرات عند السكان على مدى أسابيع من الحرب. أما درون الغيتار فحضوره كان أكثر كثافةً إذ استُعمل كتعبير جمالي عن مرور الزمن الثقيل والمشبع بالقلق، كما لعب على هواجس لا واعية مرتبطة بالماضي والمستقبل، وتحديداً ارتدادات الصدمات والذكريات الأليمة التي عايشتها المخرجة، كما التوترات المرتبطة بالمستقبل، ومصير الإنسان في هذه المدينة وحالة الحرب التي لا تنتهي (كأنه تجسيد للّا وعي الكارثي للمدينة).
أكد الدرون لنا في هذا الموضع طبيعته الأصلية، كحالة زمنية تعيد وصل كل النقاط ببعضها، أي الماضي، والحاضر والمستقبل. فحين استخدمته لميا جريج مع مشاهدها التي تظهر المدينة الخالية من السكان، ضاعف من الطابع الميلانكولي، إذ استطاع تذكيرنا بالماضي الكارثي، كما أشار إلى مستقبل غير معروف يمكن ألا يقلّ كارثيةً.
الدرون، بالضبط كما التروما التي تعجز عن تجاوز صدمة الكارثة التي عايشتها سابقاً، وفي الوقت نفسه، ليس في مقدورها سوى أن تعيد إنتاج نفسها كمصير لا بد منه في الحاضر والمستقبل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...