الخارج إلى الضوء
لماذا ينتابني شعور ثقيل بحزن جارف؟
لماذا تباغتني الذكريات كموج بحر هائج؟
لماذا لم يعرني أبي اهتماماً أبداً، ولم يلتفت لنفسه حتى؟
لماذا أمي صارمة إلى هذا الحد؟
لماذا أتردد في إخبارهما بقرار الاستقلال الذي يراودني؟ بما ستجيب أمي؟
ستصرخ كعادتها وتردد: "منذ صغرك وأنت تنحرفين عن الطريق! تدخنين وتختارين مهنة خاطئة، فتصبح حياتك سلسلة من الأخطاء. نحن من يتحمل توابعها!". ولسوف يعاونها أبي ويقول بصوته الواهن: "لا تغضبي أمك... ابقي معنا".
ماذا سأفعل حينها؟ لا أعرف، أنا مشتتة الآن! فلماذا هاجر عمي إلى السماء وفلت يدي مسرعاً هكذا؟! ولماذا لا أواجه أمي بأنني لم أدخن قط، وأن الحق كله على معلمتي؟!
في أول لقاء جمعنا، أخبرتها أن اسمي علياء، فابتسمت وامسكت بالعصا، ثم أبعدتها ناحية النافذة لتخبرنا جميعاً: "أنا لا أتهاون، لكني أيضاً لا أضرب بالعصا أبداً"، فصدقتها، أكان خطأي؟
الغريب أنها كرّهتني في اللغة الإنجليزية، لكنني لم أكرهها هي أبداً؟
لقد أوقعتني في دائرة من الأسئلة لا تنتهي. لكني لا أدري، هل عليّ أن أبكي؟
ربما لأن اليوم تمر ذكرى وفاة عمي، وقد سألته قبل عام واحد من رحيله: "ماذا يعني أن هناك قوى يمكنها أن تسلب الإنسان من ذات نفسه؟"، كنت قد قرأت تلك الجملة في كتاب يدعى "الإنسان يبحث عن المعنى"، أحد كتب علم النفس التي تملأ غرفته، فأجابني: "يعني أن يخسر نفسه". "كيف!؟"، فالتفت لي بوجهه البشوش ليقول: "بأن يترك أهواءه تطغى عليه. يعني، مثلاً أن يخاف بشدة... هكذا يخسرها؟". "إذا لم يضع حداً للخوف، سيمحيها من الوجود". كنت وقتها لم أكمل عامي الخامس عشر، لكن كلماته حفرت في عقلي.
خلوة مضطربة
جلست على الرصيف في محاولة لتهدئة نفسي، فوقفت بجانبي فتاة تحمل حقيبتها المدرسية وتتلفت حولها، ثم سألتني بكلمات غير مترابطة: "لا أذكر أي شارع. هل هذا هو أم الآخر؟". وصفت لها كيف تصل إلى حيث تريد، ولحظتها تمنيت أن أعثر على أحدهم ليدلّني أنا أيضاً، فكنت أقف في المنتصف حائرة... أي الطرق عليّ أن أسلك؟
ابتعدي عن طريق معلمتك!
يدق عقلي من جديد.. الألوان والأسرار والحكايات، كلها تذكرني بها! كيف يمكنني إلهاءه؟
حاولت بالأمس، فشاهدت فيلماً كورياً يدعى "بيت طائر الطنان"، يحكي عن علاقة صداقة بين تلميذة ومعلمتها تساعدها على المقاومة، كما ساعدتني هي أيضاً، فتركت ندبة بداخلي لم يخفها مرور السنوات. وبعدما انتهى الفيلم حصلت على إجابة لسؤال أمي الدائم: "لماذا أصبحت مصورة؟". لأنني أبحث عما بداخلي وبداخل الآخرين، فنحن نظهر كبركة ماء لكننا نخفي بداخلنا محيطاً، كما قالت المعلمة في ذلك الفيلم: "نحن نعرف الكثير من الوجوه، لكن كم منهم نفهمه، ويفهم ما بداخلنا حقاً؟. " لا أحد... إلا عمي. كان يحاول بحق ولهذا رحل مبكراً.
وتركني مضطربة، قلقة، خائفة من أن أمعن النظر في ذلك الجرح، لكني بحثت عن طائر الطنان لأكتشف أن معلمتي كانت تمارس بعض سلوكياته ولكن دون أن تدرك، وقتها كنت في الثالثة عشر، بشخصية منطوية تدور بحثاً عن ملجأ، فدق جرس الحصة وجاء وقت الراحة .
وكعادتي كنت أقضيه وحدي ثم أعود للفصل وأنتظر، فرأيتها من خلال فتحة الباب، تقف عند النافذة، تلم شعرها ذيل حصان وتدخن سيجارة، حينما دخلت أطفأتها مسرعة ،وقالت: "التدخين مضر جداً بالصحة، لا تتخذيني قدوة".
"أبي وعمي يدخنان ويقولان الكلام ذاته ،لماذا تدخنون إذن؟". ابتسمت لي وقالت: "لأننا كثيراً ما نقدم على الأفعال التي تضر بصحتنا ثم نسميها عادات سيئة. ها أخبريني، لماذا لا تلعبين مع زميلاتك؟". "لا أملك أي صديقة هنا، وأنت لا تريدين المكوث في غرفة المدرسين أيضاً؟".
هزت رأسها ثم قررت: "هذا يعني أننا وحدنا. يمكننا أن نصبح صديقتين". ثم أشارت إلى علبة سجائرها: "هذا سرنا. لا تخبري أحداً". "لكن كل المدرسين يدخنون في العلن، فلماذا تختبئين؟". "لأنه مسموح للمدرسين وممنوع على المدرسات، وإذا اكتشفوا هذا، سيقومون بطردي على الفور"، أجابتني ونحن نتصافح على هذا العهد، ثم أخبرتني: "أنا أيضاً كنت سأسُمّى علياء". "وماذا حدث؟". هزت كتفيها غير مبالية: "صرت رشا"، نظرنا إلى بعضنا وانفجرنا ضاحكتين.
تمت معاقبتي بفصلي أسبوعاً كاملاً، وظهرت كفتاة سيئة وعار على أهلي، لا أتحلى بأي أخلاق، رغم أنني لم أفتن عليها، أما هي، معلمتي وصديقتي التي أحببتها، كانت أنانية وجبانة... مجاز في رصيف22
ومن يومها ونحن نتخذ وقت الراحة خلوة لنا، فأخبرها عن التلميذ الذي يثير إعجابي من مدرسة البنين التي تواجهنا، ثم ألاحظ دبلة تخفيها في حقيبتها، فتعترف أن أحدهم يحبها لكنها لا تحبه. "ولماذا تحتفظين بها؟ أرجعيها إليه وأخبريه". شردت قليلاً ثم أجابت: "أحياناً عليك أن تقبلي بالمتاح، ولو مؤقتاً"، لم أوافقها، لكنها كانت تلهيني مسرعة وتجذبني من يدي لنتمشى سوياً بعد المدرسة، ثم تتوقف فجأة لتعبّر عن إعجابها بحلقي الأصفر، وتقول: "أنا وأنت نحب ذات اللون، بما يشعرك؟". إنه يشعرني بالبهجة. لكني لم أرك ترتدينه أبداً؟".
فتجيبني بطريقة قاطعة: "لا، أحبه فقط...". ثم تبدلت ملامحها لتصارحني بسرها الأكبر، أنها منذ سنوات تحب أحد زملائها، لكنه لا يعيرها اهتماماً: "أحياناً أشعر أنه سيخترقني لأنني مجرد شبح... لكنني موجودة يا علياء، هل ترينني؟". يعلو ملامحي القلق من طريقتها، فتضحك وتكمل السير.
الأصفر الطنان
هكذا كانت، تستهلك الكثير من الطاقة كطائر الطنان، تقربني إليها، وتهمس في أذني، لنحكي ونضحك ونعترف. تطن وترفرف بسرعة كبيرة، ثم تقضي أوقات طويلة تستريح على الأغصان، فأجدها تمكث عند النافذة وفوق الرصيف وداخل الحمام. لا تتقبل أي كلام في تلك الأيام، حتى جاءت المرة الأخيرة.
كنا نقف عند النافذة كعادتنا، هي تمسك بعلبة سجائرها، وأنا أفتح حقيبتي لأخرج منها طعامي. في هذه اللحظة، مرت مشرفة الدور ودخلت الفصل، ارتبكت معلمتي ولم تجد مخرجاً، فقربت إليها حقيبتي المفتوحة، لترمي علبة السجائر بداخلها، لم تلاحظ المشرفة ما حدث وأخبرتني أن أمي جاءت لتأخذني مبكراً من أجل زيارة عائلية، فأغلقت حقيبتي وذهبت معها مطمئنة، ظناً مني أن الموقف قد انتهى، لكنه لم يفعل.
عثرت أمي على علبة السجائر، فملأت الدنيا صراخاً وضربتني مراراً، ثم جذبتني في اليوم التالي حتى مكتب المديرة لتُكمل المعركة، فأرسلوا في طلبها، ومع دخولها سألتها المديرة وهي تشير إلى علبة السجائر: "لقد وجدنا هذه في حقيبتها، بما أنكِ أقرب معلمة لها، هل تظنين أنها تدخن وحدها أم تشترك مع إحداهن؟". تسمرت مكانها وتوقف الكلام في فمها، نظرتُ إليها متوسلة أن تتحمل مسؤوليتها ،لكنها هزت رأسها بمعنى أنها لا تعرف، فاستلمت المديرة زمام الأمور لتضربني بالعصا ضربات متتالية تترك علامات على جسدي، لحظتها أدركت أنها كاذبة! لقد ضربتني معهن، لكن ضربتها تركت علامة على قلبي.
تمت معاقبتي بفصلي أسبوعاً كاملاً، وظهرت كفتاة سيئة وعار على أهلي، لا أتحلى بأي أخلاق، رغم أنني لم أفتن عليها، أما هي فكانت أنانية وجبانة، لكن ذلك لم يظهر، فلم يعرف أحد ما تخفيه بداخلها. تماماً كطائر الطنان، يمكنه تغيير اتجاهه في غمضة عين.
هكذا انتهت علاقتنا، فقط رأيتها مرات تجلس على أحد الأرصفة وتبكي، وقد ارتدت الدبلة في العلن، كان من الواضح أنها قبلت بالمتاح للأبد... مجاز في رصيف22
حينما عدت إلى المدرسة ،أردت اعتذاراً بسيطاً، لكنها قررت أن تدخل في حالة من السبات كما يفعل الطنان ،تقضي أوقاتها بين الحصص وغرفة المدرسين صامتة، راقبتها مراراً لعلها تخطئ، لكنها كانت تتحاشى النظر إليّ، كأن ليس لي أي وجود. فرفعت يدي لأسألها: "ما هي كلمات الاعتذار في اللغة الإنجليزية؟". نظرت باتجاهي وليس بعيني: "ابحثي عنهم بنفسك". "ألا يمكنك أن تخبريني؟". نظرت لكل الفصل: "هذا واجبكن جميعاً، ابحثن عنها ودونوها". هكذا ببساطة، لم ترد حتى أن تقولها ولو بلغة أجنبية! كدت أجن من أفعالها! فكانت لديها القدرة على الطيران رأساً على عقب فوق عقلي، فحاصرتني الأسئلة.
بجوار حمام معلمتي
أكانت علاقتنا حقيقة أم وهماً؟ لماذا قطعت كل المسافات بيننا؟ وما ذنبي؟ حتى رأيتها تدخل الحمام، دخلت خلفها، واخترت حماماً موازياً لها، كان يفصلنا حائط صغير، وقررت أن أرسم حواراً متخيلاً في رأسي لعلني أهدأ.
"ما العيب في أن يقول أحدهم (أنا آسف)؟". "أنت مجرد طفلة.. لا تفهمين شيئاً". "أهذا يعني أنني لا أستحق اعتذاراً؟". صمتت طويلاً، ثم قالت: "كان بإمكانك أن تخبريهم، لماذا لم تفعلي؟". "سمعت بنصيحتك، لم أتخذك قدوة".
هكذا انتهت علاقتنا، فقط رأيتها مرات تجلس على أحد الأرصفة وتبكي، وقد ارتدت الدبلة في العلن، كان من الواضح أنها قبلت بالمتاح للأبد.
وفي النهاية عرفت أنها طلبت نقلها من المدرسة، لكني وجدتها تنتظرني بالخارج، تقدمت مني وناولتني ورقة مطوية، أطالت النظر في وجهي ثم هزت رأسها ولوحت لي بيدها، ولم تقل إلى اللقاء، لأنها تدرك أننا لن نلتقي، فأعطتني ظهرها وابتعدت راحلة. طارت إلى الوراء كما يفعل طائر الطنان، لكنها على عكسه، اختفت تماماً.
والآن...
علينا أن نحمي أنفسنا من أن تصغر إلى هذا الحد
لماذا لم أكرهها وألقبها دوماً ب "معلمتي"؟ لأنها علمتني ألا أصبح مثلها مهما كلفني هذا الأمر، وربما لأنني رأيت مثالاً حياً أمامي لإنسان يخسر نفسه، فطيور الطنان لأنها صغيرة جداً، من السهل أن تسحق ويقبض عليها في شبكات العنكبوت، وكم من شبكات تحاوطنا من كل الزوايا، فعلينا أن نحمي أنفسنا من أن تصغر إلى هذا الحد.
في ذلك الفيلم، سألت المعلمة سؤالاً بسيطاً: "ما هي الطريقة الصائبة للعيش؟" وها أنا بدوري أسأل: هل عليّ أن أعيش بطريقة أبي. أواجه الحياة بالصمت، اكتفي بالمشاهدة دون فعل أي شيء؟ أم بطريقة أمي، أصبح دقيقة وأسير وفقاً للقواعد ولا مجال لأي خطأ؟
أم طريقة معلمتي، أدّعي وأحمل في حقيبتي أقنعة عدة، ثم أرتديهم الواحد تلو الآخر، ومع نهاية اليوم، أقف في النافذة، أفك خصلات شعري و أدخن سيجارتي في الخفاء، بعيداً عن الأنظار؟
لا... سوف أنهض من فوق الرصيف وأجرب طريقتي، حتى وإن دفعت ثمناً غالياً، لكنها تجربتي الخاصة جداً وعليّ أن أعيشها.
في رسالتها لم تكتب إلا جملة واحدة: "اللون الأصفر لا يعني دوماً البهجة والفرح، لكنه أيضاً علامة على المرض والذبول، وذلك يتوقف على اختيارنا كيف نراه ونشعر به داخلنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...