أعتقد وأبناء جيلي من فلسطينيي غزة، بأننا أكثر المنحوسين على وجه البسيطة، وأن ما عشناه من ويلات لم يمر على أي جيل قبلنا، وأننا دفعنا ثمن قرارات من سبقونا من دون أن نملك أي صوت أو حق في الاعتراض. يكفي أن نذكر أننا لم نكن ناضجين كفايةً للاستفادة من أوسلو والمطار، ففتحنا أعيننا على الانتفاضة الثانية، والاجتياحات، ثم الانتخابات التي لم ننتخب فيها، فبدأ الحصار على غزة في 2006، وتبعه الانقسام والاقتتال الداخلي في 2007. وما أن بدأ الشعب يستوعب ما حدث، وما صاحبه من تضاعف في أعداد المساجد في "غزة-ستان"، حتى دخلنا دائرة الحروب في الـ2008 والـ2011 والـ2014، وصولاً إلى أحداث أيار/ مايو الأخيرة.
ومنذ مغادرتي "السجن الأكبر في العالم"، في 2017، لأكمل دراستي العليا في فرنسا، وأنا أفكر ملياً في كل التفاصيل التي عايشتها هناك، بين المنزل والشارع، والمدرسة والجامعة.
أعتقد وأبناء جيلي من فلسطينيي غزة، بأننا أكثر المنحوسين على وجه البسيطة.
ومن أهم المواضيع التي تطغى على تفكيري ونقدي لواقع الحياة في غزة، علاقة الشعب بالحكومة، أي علاقة الشعب بحركة حماس، متمثلةً في سلطتها على الأرض كنظام حاكم، وتحت الأرض كحركة مقاومة إسلامية، خاصةً بعد الجدال الذي دار خلال أحداث أيار/ مايو الأخيرة، إذ توزعت وجهات النظر بين المنتقدين لتدخل حماس "العسكري" في أثناء الهبّة "السلمية" في حي الشيخ جرّاح، وبين المناصرين لأي عمل مقاوم تصاحبه صفارات الإنذار في تل أبيب وفتح الملاجئ في ما يُعرف بمستوطنات غلاف غزة.
لذا أنوي من خلال هذا المقال، والأجزاء التي تليه، سرد نقاط محورية عدة في علاقتي الشخصية مع حماس، لا لنقد الحركة، ولا لتحميلها مسؤولية ما آل إليه الوضع في القطاع المحاصر، ولكن لمحاولة فهم التغييرات التي وقعت خلال الأعوام الـ20 الأخيرة من وجهة نظري الخاصة، كشاب غير منتمٍ إلى أي تنظيم، وعاش هذا كله، عسى أن تكون هذه بدايةً لعرض سردية فردية محايدة لما حدث، بعيداً عن روايات قناة الأقصى وقناة فلسطين، أو حتى الجزيرة، وبعيداً عما يذكره طالبو اللجوء الغزيون، عن عذابات الحياة تحت حكم حماس، لينالوا حقوقاً في دول العالم الأول. وبعيداً أيضاً عن قصائد الشعر التي نكتبها لمدح المقاومة كلما شاهدنا صواريخها متجهةً نحو "عمق الكيان". وكل ذلك في سبيل محاولة تحليل العلاقة بين الشعب في غزة وحكومته/ مقاومته، والتي لا شك في أنها معقدة ومتشعبة، وتمتد ما بين الشرطي الذي يقمع والموظف الذي يجبي الضرائب من جهة، وشباب "القسّام" من جهة أخرى، الذين يعيشون في الأنفاق ليمثّلوا البندقية "شبه الوحيدة" الموجهة إلى العدو.
الجزء الأول: الانتخابات النزيهة و"صوّت لحماس"
كنت في الصف السادس الابتدائي عندما قرر العالم أنه يحق لمواطني "دولة فلسطين" التوجه إلى صناديق الاقتراع. لكني لم أكن واعياً بالقدر الكافي لتحليل المشاهد الهزلية المرتبطة بالعرس الديمقراطي، كالمسلحين الملثمين الذين كانوا يجوبون الشوارع ليلاً ليكتبوا "انتخبوا مرشحكم المستقل فلان الفلاني"، على جدران المنازل، أو "أبناء المساجد" الذين كانوا يدورون على الأحياء بيتاً بيتاً لتوزيع منشورات قائمة حماس "التغيير والإصلاح"، أو ازدهار عمل المطابع والمطاعم، فالانتخابات تعني آلاف الصور والمنشورات، وآلاف المتطوعين الجائعين أيضاً.
ما يهمني في هذا كله، ما عشته في مدرستي الابتدائية.
أنوي من خلال هذا المقال، والأجزاء التي تليه، سرد نقاط محورية في علاقتي الشخصية مع حماس، لا لنقد الحركة، ولا لتحميلها مسؤولية ما آل إليه الوضع في القطاع المحاصر، ولكن لمحاولة فهم التغييرات التي وقعت خلال الأعوام الـ20 الأخيرة من وجهة نظري، كشاب غير منتمٍ إلى أي تنظيم، وعاش هذا كله
كان اسم مدرستي "أبو عاصي"، تيمّناً بناظر سابق للمدرسة عُرف بحسن خلقه، وكانت تقع في قلب مخيم الشاطئ الشمالي، غرب مدينة غزة. مدرسة أونروا مبنية على مساحة هائلة، ومحاطة بأزقة المخيم من ثلاث جهات. لذا فمن الطبيعي أن نجد نافذةً لأحد المنازل المجاورة تفتح على ساحة المدرسة، أو أن تكون شرفة الجيران داخل أسوار المدرسة، مما جعل للتسرب المدرسي بعداً سريالياً يصعب تحليله أو فهمه، وتالياً، كان المشهد الصباحي المعتاد: معلمون يتأبطون كل أنواع العصي الخشبية والبلاستيكية، ويتوزعون على نقاط التماس بالقرب من أسوار المدرسة، منعاً لأي طرق مختصرة قد يسلكها الطلاب للدخول إليها.
وفي عام الانتخابات، تحولت حياتي في "أبي عاصي" إلى جحيم حقيقي.
قرر معلم التربية الإسلامية إحداث تغيير جذري في محتوى الحصص الدراسية، فبدلاً من أن تتناول قصص الصحابة والأنبياء، باتت تسرد عذاباته في سجون السلطة الفلسطينية، ومشاهد ما يُعرف بحادثة مسجد فلسطين في 1994، عندما قُتل أكثر من عشرة مواطنينين وجُرح العشرات برصاص قوات أمن السلطة، في أثناء مظاهرات بعد صلاة الجمعة، وغيرها...
كان الطلاب يستمعون بصمت شديد إلى الأستاذ "ذي الوجه السمح"، ويتفاعلون مع تفاصيل تجاربه، ما بين قصة السجين فلان الفلاني، الذي ختم القرآن في ليلة واحدة في سجن الأمن الوقائي، والسجّان فلان الفلاني، الذي استهزأ بالسجناء المصلّين في سجن السرايا.
أما أستاذ الدراسات الاجتماعية، الذي كان أكبر سناً، فحملت قصصُه روحاً أكثر بطولةً، كمشاركته في حرق "خمارات" غزة قبيل الانتفاضة الثانية، أو هجومه خلال تسعينيات القرن الماضي على الأعراس التي كانت تحييها الراقصات الشعبيات، أو كما أشار إليهن بـ"النوريات"، من دون خلوّ حصصه من الاستهزاء باليسار الفلسطيني، متبوعاً بالجملة التاريخية: "يد على الزناد... ويد على الفخاذ".
"لسوء حظي"، لم يكن لأسرتي أي انتماء حزبي أو فصائلي واضح، وهذه بحد ذاتها تهمة كافية في ظل عاصفة "التغيير والإصلاح" التي كانت تحدث كل يوم في المدرسة.
كان يتم بث هذه الأفكار بشكل يومي على كافة الفصول الدراسية في المدرسة، وإذا ما عُمم هذا النموذج على أغلبية مدارس غزة ومساجدها وخطب الجمعة، فلك أن تتخيل ما تجرّعه هذا الجيل، والذي قد يبرر ما آل إليه الوضع خلال الانتخابات وبعدها.
"لسوء حظي"، لم يكن لأسرتي أي انتماء حزبي أو فصائلي واضح، وهذه بحد ذاتها تهمة كافية في ظل عاصفة "التغيير والإصلاح" التي كانت تحدث كل يوم في المدرسة. أضف إلى ذلك أن أبي ليس ملتحياً، وأنني لا أعرف كيف أقرأ القرآن بأحكام التلاوة والتجويد، ولا أحفظ نشيد "فتنت روحي يا شهيد"، ولا يراني أي من الطلاب في "جلسة تبارك" بعد صلاة المغرب في المسجد. كل هذه التفاصيل ساهمت في تحييدي عن قائمة "أصحاب الأيادي المتوضئة"، وجعلت مني هدفاً للهداية إلى طريق الصلاح بالنسبة إلى المدرّسين الملتحين، خاصةً أنني كنت من الطلاب المتفوقين.
وبعد تهديدات عدة بحسم بعض الدرجات إذا لم أتوجه إلى المسجد مع زملائي، قرر والدي الصحافي حينها، أن يأتي إلى المدرسة، وأن يرعب كل من فيها، ملوّحاً بقلمه، وأنه يعلم ما يحدث في المساجد من غسل للعقول، وأننا في نهاية الأمر نتحدث عن مدرسة أونروا، لن تقبل إداراتها بما يحدث.
وبالفعل، انصاع المدرسون لتهديدات السلطة الرابعة، ولم يذكروا بعد ذلك خسم الدرجات أو وجوب التوجه إلى المسجد، لكن ولأكثر من أسبوع، أصبحت كل دروس التربية الإسلامية عن وجوب رفض تطبيق أوامر ولي الأمر إذا ما كان "كافراً"، وعن مواقف الأنبياء مع أهلهم عندما رفضوا الدخول في دعوتهم، وغيرها من الأفكار المباركة لدفعي نحو التحرر من الكفر والرذيلة، إلى أن نصحني أستاذ الدراسات الاجتماعية بشكل مباشر، قائلاً: "يا حبيبي، لا يجب أن تقول كل ما يحدث معك لوالدك"، وهذه الجملة بالذات هي ما أحاول أن أبني عليه هذا النص.
فازت حماس في الانتخابات، وتحولت معاناة المدرّسين في سجون السلطة، إلى قصص من الماضي تفرش لنا الحاضر بالورود وسجادات الصلاة ومنشورات أجر إطلاق اللحى. وتحول خوفهم من والدي الصحافي، إلى نكات وضحكات، و"أرسل سلامنا إلى أبيك الصحافي". وكردة فعل طبيعية على وجود طفل من "قريش" في مدرسة "آل البيت"، أصبحتُ ضحيةً لتنمر غير محدود على أيدي التلاميذ مغسولي العقول في المدرسة. ولن أنسى محاولاتي للهرب في أزقة المخيم، متبوعاً بعشرات التلاميذ وهم يهتفون بأعلى صوتهم: "صوّت لحماس"، وهي أنشودة أنتجتها حماس قبيل الانتخابات، مما دفع والدي للقدوم إلى المدرسة في آخر أيام الاختبارات النهائية، لاصطحابي إلى البيت بدلاً من أن أعود ببعض الكدمات التي اعتدت عليها في ذلك العام.
شكلت الفترة ما بين بداية الانتفاضة الثانية والانتخابات، مرحلةً انتقاليةً، استغلتها حركة حماس لتعزيز نفوذها مستفيدةً من سقطات السلطة كالفساد والفلتان الأمني، فزرعت أفكارها بكل الطرق الممكنة لرفع شعبيتها، وتغلغلت في النسيج الاجتماعي مرتكزةً إلى نظرية أن "أمير المسجد" يعرف مصلحتك أكثر من أبيك"
شكلت الفترة ما بين بداية الانتفاضة الثانية والانتخابات، مرحلةً انتقاليةً، استغلتها حركة حماس لتعزيز نفوذها مستفيدةً من سقطات السلطة كالفساد والفلتان الأمني، فزرعت أفكارها بكل الطرق الممكنة لرفع شعبيتها، وتغلغلت في النسيج الاجتماعي مرتكزةً إلى نظرية أن "أمير المسجد" يعرف مصلحتك أكثر من أبيك. ما شاهدتُه قبل الانتخابات وخلالها من تسويق لحركة حماس، ليس استثناءً، ويمكن تعميمه ليشمل خطب الجمعة والجلسات الدعوية بعد الصلاة في المساجد والمدارس، سواء الحكومية أو التابعة لوكالة الأونروا، وزيارات كانت تقوم بها نساء المسجد إلى بيوت الحي، وحملات لتوزيع منشورات تتعلق بالحركة وبرامجها في كل مربع سكني. وكانت النتيجة أن اصطف الشعب خلف الشيوخ المخلصين، والمقاومين المضحّين، وانتخبهم على أمل "التغيير والإصلاح".
ترتبت على نتائج هذه الانتخابات سياسات عقابية جماعية، كقطع رواتب الموظفين الحكوميين من قبل الدول المانحة، وإغلاق المعابر وقطع الكهرباء. ثم بعد نحو عام ونصف العام من فوزها في الانتخابات، سيطرت حماس على غزة "عسكرياً"، كاشفةً عن وجه آخر لنواياها السياسية، ليتحول أستاذ التربية الإسلامية "ذو الوجه السمح"، إلى عقيد في شرطة حكومة حماس، وليركب سيارة بي أم دبليو، وبالتأكيد، انتقل ليعيش في شقة خارج المخيم.
يُتبع...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون