شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
بين الدين والثقافة الدينية... محاولات احتكار الحديث باسم الله

بين الدين والثقافة الدينية... محاولات احتكار الحديث باسم الله

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 11 مارس 202210:14 ص


لم يحدث أن قدّمت نفسي باعتباري عارفاً بما يسمّى بـ"علوم الدين"، فلست متبحراً في علم الرجال والجرح والتعديل والناسخ والمنسوخ، ولا أتعقب آراء القدماء في رواة الحديث، ولا أفرّق بين الكاذب والمدلس، ولا أتعقب الصحيح والمدسوس والموصول والمقطوع في الحديث، ولا المكي والمدني في التنزيل ولا أفكر في التفريق بينهما، إلخ.

ولا يشغلني كل ذلك من الأساس، ببساطة لأنني أعتقد أنه حمولة زائدة على الكتاب الأصل الذي يتكون من 77437 كلمة. أطمئن نفسي بأن عمر بن الخطاب وأبو بكر وجل الصحابة الأوائل لم يكونوا يحفظون القرآن، ولا يعرفونه كله، بدليل الاختلاف في جمعه، وضرورة جمعه من الأساس، ولم يكونوا يعرفون البخاري ومسلم، ولا الشافعي ومالك ولا أبو حنيفة وأحمد بن حنبل وابن تيمية وابن القيم الجوزيه والألباني.

الدين بسيط

أنا ممّن يعتقدون أن "الدين" بسيط ولا يحتاج إلى كل هذا الشقاق والقتال والذبح والقتل، لأنه ببساطة نزل ليتمم مكارم الأخلاق، لا لكي نحفظ القرآن في الكتاتيب ولا لكي نؤلف ملايين الكتب التي تشرح كتاباً واحداً ولا تؤدي إلى فهم أعمق للكتاب الأصل بقدر ما تزيد الشقاق وتقسِّم المسلمين إلى سنّة وشيعة، وتقسم السنّة إلى مذاهب وفرق، وتقسم كل فرقة إلى فرق أصغر، ويحمل الجميع السلاح ضد الجميع.

فإنْ كانت "علوم الدين" قد أوصلتنا إلى أن يقتل بعضنا بعضاً فلا حاجة لنا بها. ناهيك طبعاً عن أي من المتابعين والقارئين يعرفون أن جلّ الأخبار والروايات إنما اختُلِقت لتُستخدم في الحروب الدنيوية على الخلافة والقيادة، وأُلصقت تعسفاً وجوراً بالنبي وصحابته، ناهيك عن أنها كلها رُويت في زمن متأخر.

وفي حديث عن أبي هريرة نهى النبي عن أن يُكتب عنه وجمع المكتوب وحرقه، وهنالك رواية عن أن عمر بن الخطاب كان يمسك الراوي من رقبته ويطلب منه أن يأتي ببيّنة أو يقتله، وأنه كان يطارد الرواة بالعصا، حتى أن أبا هريرة ذكر أنهم لم يكونوا يستطيعون الرواية في عهده.

"كان المسلم العادي في القرنين الأولين يعيش دون الحاجة إلى دار إفتاء وهيئة كبار علماء ومجامع علمية وأكاديميات ومعاهد ورسائل ماجستير ودكتوراه لا تفعل شيئاً سوى... تشويه الواضح، في محاولة لاحتكار الحديث باسم الله"

لا أنافس مدرّسي وأساتذة المدارس والمعاهد الدينية في معرفة كذب أو تدليس رواة الأحاديث لأن أمر الأحاديث لا يشغلني أصلاً، لكنني مهتم بـ"الثقافة الدينية" العامة التي يستقيها المسلم العادي، غير المتبحر في "علوم الدين"، من مصادرِ بثِّهَا، في خطب الجمعة ودروس الوعظ في المساجد، والتي توجّه خطابها لمرتاديها وغيرهم جبراً وغصباً بتعليق ميكروفونات قوية في الاتجاهات الأربعة، وفي برامج الفضائيات وأحاديث وفضفضات موقع يوتيوب، وفي المطبوعات الكثيرة، الرسمية وغير الرسمية، التي تطبعها مؤسسة الأزهر ودور النشر التي تريد أن تتربح من التجارة فيها، وفي الإذاعات الدينية المتخصصة والبرامج الإذاعية التي تُبَثُّ من الإذاعات العامة المنوّعة، ومن الفتاوى التي يطلقها ليلاً نهاراً جيش ممَّن يقال إنهم متخصصون... كل هؤلاء وأولئك لا يتركون صغيرة ولا كبيرة من أمور الحياة إلا ويدسّون أنوفهم فيها، من ختان البنات إلى المشاركة في الانتخابات وفوائد البنوك والعمل في السياحة والزواج عن حب وزنا العين، إلخ.

مكوّنات الثقافة الدينية

و"الثقافة الدينية" ليست الدين بالضرورة، أو، لنكون واضحين، هي بالفعل ليست الدين. نستطيع القول إنها بعض قشور الدين كما يفهمونه، مختلطة بالعادات والتقاليد التي تفرضها كل بيئة على أهلها، بجانب لخبطات تأتي من التعليم الرديء الذي نتعلمه في مدارسنا، والثقافة المشوشة التي نحصل عليها من تداخل الأصوات والأفكار التي تُبثّ عبر الفضائيات والمساجد، كل ذلك يُعجن في بوتقة القبلية والرغبة في العودة إلى الوراء بما يصاحبه من رفض للعلم، أو على الأقل التقليل من قيمته باعتبار أن القرآن سبقه بـ15 قرناً، وأن الله سخَّر لنا "الكفار" لكي يخترعوا ويصنعوا ونستهلك نحن دون عناء، كما قال الشيخ الشعراوي في أحد أحاديثه.

"‘الثقافة الدينية’ ليست الدين... إنها بعض قشور الدين كما يفهمونه... كل ذلك يُعجن في بوتقة القبلية والرغبة في العودة إلى الوراء بما يصاحبه من رفض للعلم... باعتبار أن القرآن سبقه بـ15 قرناً، وأن الله سخَّر لنا ‘الكفار’ لكي يخترعوا ويصنعوا ونستهلك نحن دون عناء"

الاهتمام بالثقافة الدينية ليس اهتماماً بالدين بقدر ما هو اهتمام بتأثير الدين على المجتمع وتطوره، وعلى العلاقة بين الناس التي تنعكس على الدولة والقانون والأحزاب والسياسة والفن والثقافة. فالمجتمعات التي سبقتنا على مقاييس العلم والتكنولوجيا والحضارة، استطاعت أن تضع الثقافة الدينية في موضع لا يؤثر على التطور في كل جوانبه، خاصة التطور الاقتصادي، واستخدمت القانون أداة حاسمة للفصل بين الناس، باعتباره نصوصاً واضحة لا لبس فيها، فيها عقوبات معلومة على أي خروج عن القواعد المجتمعية، وهذا يخالف المراوحات الموجودة في النصوص الدينية، والتفسيرات المختلفة التي تتناقض من التحليل الكامل إلى التحريم الكامل أحياناً، وهو ما يؤدي لدينا إلى العنف والقتال المسلح غالباً لفرض أحد التفسيرات بالقوة.

جريمة فتوى الختان

هذا الفهم العام لما أسميته "الثقافة الدينية" لا يجوز معه أن يُواجَه كل متحدث بأنه غير متخصص، لأننا لا نتسابق في إثبات أو نفي قول ورد عن الرسول منذ ألف وأربعمئة عام، فهذا القول، مع كامل التبجيل للدين ومعتنقيه، لا يكون مؤثراً أو ضروريّاً إلا بقدر تأثيره على الحياة في اللحظة الراهنة، كما لا نتسابق على إثبات نسخ آية أو حكم إلا بقدر ما نحتاجه بمقاييس اليوم، فمثلاً يمكن النظر إلى آلاف الفتاوى التي أطلقها مدرسو وأساتذة المواد الدينية في المدارس والمعاهد في موضوع وجوب ختان الإناث باعتبارها سنّة مؤكدة، ومدى تأثير هذه الفتوى على تماسك العائلات وصمود الزيجات وتشرد الأولاد، وبالتالي على تماسك المجتمع نفسه... هذه الفتوى التي أنكرها شيخ الأزهر مؤخراً دون أن يقدم اعتذار مؤسسته التقليدية الاتّباعية عن هذا الخطأ الجسيم الذي كلف المجتمع كلفة باهظة، ودون أن يعتذر للراحلة نوال السعداوي، الطبيبة التي وعّت بخطورة الختان منذ ستينيات القرن الماضي، باعتبارها "أهل ذكر"، وكتبت وتحدثت كثيراً، مما كلفها الفصل من عملها، وتكفيرها من المدرسين والأساتذة أنفسم الذين يعتبرون أن فتوى الشيخ ضد الختان الآن دليل على انفتاح الأزهر وتطوره.

الخلاصة

الدين يسر ولا يحتاج إلى هذه الأطنان من الكتب التي معظمها ضحل في الأفكار والتفسيرات والاستنتاجات والصياعات، ولا إلى هذا الجيش العرمرم من الشيوخ الذين يفتون في كل شيء وأي شيء دون علم ويرتزقون من الدين مادةً وشغلاً، في حين كان المسلم العادي في القرنين الأولين يعيش دون الحاجة إلى دار إفتاء وهيئة كبار علماء ومجامع علمية وأكاديميات ومعاهد ورسائل ماجستير ودكتوراه لا تفعل شيئاً سوى نسخ المنسوخ ونقل المنقول وتشويه الواضح، في محاولة لاحتكار الحديث باسم الله، والله من كل هذا براء، فلم يوحِ إلى أحد بعد النبي، إن هي إلا اجتهادات لا تلزم إلا من كتبوها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard