"إنني أعاني من مرض نادر، يجعل الجهاز المناعي الذي يُفترَض أن يحميني يهاجم معدتي. وهذا المرض هو صورة مجازية للمحاكمة". كانت هذه آخر كلمات الصحافي المغربي عمر الراضي، أمام القاضي في محكمة الاستئناف في الدار البيضاء التي أيّدت، ليلة الرابع من آذار/ مارس الجاري، الحكم الابتدائي في حقه بالسجن ست سنوات بتهمتَي التجسس والاغتصاب.
وقال الراضي في ختام مرافعته، خلال جلسة تجاوزت سبع ساعات، إن "الأجهزة التي من المفترض أن تحميني هي التي تقوم بأدوار خبيثة. دولة تحارب ابنها"، ولفت إلى أن دواء هذا المرض هو "القضاء النزيه وعدالة فوق الجميع تنصف المظلومين والفقراء"، مشيراً إلى أن مطالبته بهذا الدواء هو الذنب الذي قاده إلى السجن، حسب صفحة لجنة دعمه على فيسبوك Free Omar Radi.
ويُعدّ عمر الراضي، الذي اشتهر بمقالاته الاستقصائية عن الروابط بين المصالح السياسية والشركات الكبرى، فضلاً عن انتقاده الصريح لسجلّ المغرب في مجال حقوق الإنسان، ثاني صحافي يصدر بحقه حكم بالسجن لمدة طويلة في ظرف أسبوع، بعد الصحافي سليمان الريسوني الرئيس السابق لتحرير يومية "أخبار اليوم" المتوقفة عن الصدور، وهي الأحكام التي جاءت لتؤيد الحكم الابتدائي في قضايا يتابَع فيها الصحافيان.
"حكم ثقيل وظالم"
قالت منظمة "مراسلون بلا حدود"، إنه "بعد أسبوع من الحكم الثقيل والظالم على الصحافي سليمان الريسوني، يكرر القضاء المغربي الأمر نفسه مع الصحافيَين عمر الراضي وعماد ستيتو"، فيما أشارت منظمة العفو الدولية (أمنستي)، إلى أن الحكومة المغربية "عرّضت الراضي لسنوات من المضايقات، ووضعته 19 شهراً في الحبس الانفرادي، ومحاكمة بتهمة التجسس بسبب عمله الصحافي، شابتها خروقات جسيمة للإجراءات القانونية الواجب اتباعها من بدايتها إلى نهايتها".
"الأجهزة التي من المفترض أن تحميني هي التي تقوم بأدوار خبيثة. دولة تحارب ابنها". هكذا انتقد الصحفي عمر الراضي الأجهزة الأمنية المغربية في نهاية مداولات محاكمته المثيرة للجدل
ودعت العفو الدولية المحاكم إلى أن يتم "بشكل فوري" ضمان تدارك انتهاكات المحاكمة العادلة، مثل تلك التي وثقتها المنظمة في قضية عمر الراضي، وأن يوضع حد لحدوثها داخل النظام القضائي المغربي، لافتةً إلى أن الراضي تعرّض قبل اعتقاله لمضايقات مراراً وتكراراً، بسبب عمله الصحافي الذي يفضح الفساد، كان أبرزها استهدافه باستخدام برنامج التجسس "بيغاسوس" التابع لشركة إسرائيلية.
روايات متناقضة
"الاغتصاب وهتك العرض بالعنف"، واحدة من التهم التي أدين على خلفيتها الصحافي عمر الراضي، الذي قال إن الأمر يتعلق بعلاقة رضائية بينه وبين زميلته في العمل.
وأكد دفاع الراضي، في الجلسة الأخيرة، "عدم وجود أي دليل مادي على واقعة الاغتصاب"، مشيراً إلى أنه حتى الشهادة الطبية المدلى بها، والتي حُرّرت بعد 27 يوماً من الوقائع المدّعى حصولها، "أفاد مختصون جرى عرضها عليهم في المرحلة الابتدائية، بأن الندوب الموصوفة فيها يستحيل قطعاً أن تعود لاعتداء مرّ عليه 27 يوماً".
وذكر، حسب صفحة التضامن مع عمر الراضي، أنه "لا يوجد شهود عاينوا الاغتصاب أو سمعوا ما يفيد ذلك في منزل كان فيه أكثر من عشرة أشخاص باعتراف المشتكية"، علماً أن "الواقعة حسب تصريحها وقعت في صالون مفتوح، وليس في غرفة معزولة".
وطالب محامي الدفاع عن عمر الراضي، ميلود قنديل، المحكمةَ باستبعاد الشهادة الطبية "بحكم وجود إجماع طبي حول أنه لو كانت تلك الندوب الموصوفة في الشهادة حقيقيةً، فهي تعود إلى اعتداء أو جروح لم يمرّ عليها في أقصى الحالات سوى أسبوع".
أكد دفاع الراضي، في الجلسة الأخيرة لمحكامة الاستئناف، "عدم وجود أي دليل مادي على واقعة الاغتصاب"، مشيراً إلى أنه حتى الشهادة الطبية ورواية الادعاء تجانب المنطق وتسلسل الأحداث
وتحدث قنديل عن تناقضات في تصريحات المشتكية متعلقة بطريقة إمساكها من قبل عمر في أثناء الاغتصاب، وتصريحات "خطيبها" الذي قال إنه "حين كان يحادثها عبر الفيديو شاهد شخصاً يمرّ من خلفها ثم انقطع الاتصال، وأنه لم يعرف بواقعة الاغتصاب إلا بعد اعتقال عمر"، بينما قالت هي إن عمر "كان يغتصبها، وإن الهاتف سقط من يديها، وكان خطيبها يتابع واقعة الاغتصاب".
وتساءل المحامي: "كيف شاهد خطيب المشتكية شخصاً يمرّ من خلفها خلال محادثة كانت في الظلام كما صرّحت هي؟ وكيف سيمر عمر من خلفها ما دامت الأريكة ملتصقة بالحائط؟"، ثم تَقدّم للمحكمة بما يفيد بأن الخطيب "كان متزوجاً في أثناء الواقعة بأمريكية ولهما خمسة أولاد، وأنه لم يقُل أمام قاضي التحقيق إنه خطيبها، بل بينهما علاقة فحسب".
وفي حديث إلى رصيف22، قال ميلود قنديل إن المشتكية صرحت أمام قاضي التحقيق بأنها "اضطرت إلى النوم في الصالون لأن صديقها كان يبيت في الغرفة المخصصة لها في الطابق العلوي، لكن بعدما جرى تنبيهها إلى أن الشخص المذكور بات في غرفة أخرى مجاورة للصالون في الطابق السفلي، عادت لتذكر اسماً آخر يعود لقريب زوجة صاحب البيت"، الذي تبيّن من خلال جلسة الاستماع، حسب قنديل، أنه كان موجوداً هناك في ليلة سابقة أيضاً (7 تموز/ يوليو)، متسائلاً: "لماذا تنام إذاً في هذا التاريخ في غرفتها، ثم تنام بتاريخ 12 تموز/ يوليو في الصالون الذي يبيت فيه عمر، على الرغم من أنه تحرش بها حسب ادّعائها قبل أيام من الواقعة؟".
"هذه الوقائع تضعنا أمام تناقضات تثبت ترك المشتكية لغرفتها حينئذ بنيّة مبيّتة بقصد إيقاع عمر في فخ الممارسة الجنسية"، وتؤكد براءة المشتبه به الذي عدّ العلاقة الجنسية بينهما رضائيةً، حسب المحامي.
صحافي يتابَع بالتخابر
قبل اعتقاله في 19 تموز/ يوليو 2020، بتهمة الاغتصاب، أعلنت النيابة العامة التحقيق مع الراضي "حول الاشتباه في تلقيه أموالاً من جهات أجنبية بغاية المس بسلامة الدولة، ومباشرة اتصالات مع عملاء دولة أجنبية بغاية الإضرار بالوضع الدبلوماسي للمغرب"، من دون تحديد اسم الدولة المعنية.
يتساءل الدفاع: "أين هم العملاء؟ ما هي هذه الدول الأجنبية؟ إذا كان القصد هو هولندا وإنكلترا، فليس هناك أي قطع للعلاقات، وما زالت هاتان الدولتان تمولان مشاريع في المغرب، ولماذا لم تطلب الدولة المغربية ملاحقة هؤلاء العملاء؟ ولماذا لم تصدر الخارجية المغربية بلاغاً لإدانة هذه الدول التي تجنّد عملاء ضد المغرب؟ وما هي هذه المعلومات المشمولة بالسرّية التي كانت في حوزة عمر؟ وكيف حصل عليها؟". ويضيف: "لو كان هذا صحيحاً، فأكيد أن له شركاء داخل الأجهزة التي تمتلك المعلومات؛ لماذا لم يُفتح تحقيق من أجل كشفهم؟".
"ثم كيف يستقيم عقلاً أن يتلقى جاسوس تعويضات من جهات استخباراتية عبر حسابه البنكي العادي الذي يعرف أنه مراقب منذ الكشف عن اختراق هاتفه؟"، يقول دفاع عمر.
وأشارت هيئة الدفاع إلى أنه "لا يوجد في كل وثائق القضية أي مستند يجيب على هذه الأسئلة، بما في ذلك حصيلة تفريغ مكالمات عمر الهاتفية التي كانت تحت المراقبة"، فاكتفى تعليل الحكم الابتدائي بالإشارة إلى أن "منظمة بيرطا فونديشن"، التي موّلت "تحقيقاً صحافياً لعمر في إطار منحة حصل عليها عن طريق التباري، هي منظمة تموّل أعمالاً خيريةً في مخيمات تندوف (معقل جبهة البوليساريو)، مما يفيد بأنها معادية للمغرب".
يقول محامي الدفاع عن عمر الراضي، ميلود قنديل، إن منظمة "بيرتا فونديشن" التي اتُّهم عمر بالتخابر معها، عرضت القناة الثانية المغربية مرتين وثائقيات من إنتاجها، آخرها كان يوم الأربعاء، وأشار إلى أنه يوجد عقد اتفاق بينها وبين "منتدى بدائل" (جمعية مدنية)، يؤكد أن عمر كان يتواصل مع "بيرتا" عن طريق الجمعية، ما يعني أن منتدى بدائل هو من كان يتواصل مع جهات أجنبية، وليس الصحافي.
"كيف يستقيم عقلاً أن يتلقى جاسوس تعويضات من جهات استخباراتية عبر حسابه البنكي العادي الذي يعرف أنه مراقب منذ الكشف عن اختراق هاتفه؟"
وأدلى المحامي ما يثبت أن عمر صحافي مهني، "خلافاً لما صدر من كلام في شأنه حول التحاقه بالمهنة حديثاً"، ومن هذه الوثائق دعوة من وزير الاتصال السابق مصطفى الخلفي لعمر الراضي من أجل الحضور ضمن وفد يرافقه إلى بلجيكا سنة 2012، بالإضافة إلى شواهد عمل مبرمة سنة 2009، بين عمر الراضي وشركة ميديا التي تضم مجموعة منابر إعلامية، بينها جريدة الصباح وراديو أتلانتيك.
وقال إن دراستين قام بهما عمر لصالح مكاتب دراسات، أسفرتا عن شراء شركة بريطانية لأسهم في مؤسسة "كاش بلوس" المغربية، والثانية عن اقتناع شركة بالاستثمار في ميدان التمور في المغرب، ولا زالت إلى الآن تستثمر فيه، متسائلاً: "كيف يمكن عدّ هاتين الدراستين مضرّتين بمصالح المغرب؟ كما أن أحد هذه المكاتب تتعامل معه مؤسسات عمومية منها المكتب الشريف للفوسفاط OCP".
أما عن "أرنولد سيمون" الذي قالت النيابة العامة إنه اسم حركي لعميل استخبارات كان يتعامل معه عمر، فاتّضح حسب قنديل أنه شخصية حقيقية وليس اسماً حركياً، وهو موظف في السفارة الهولندية، وقدّم المحامي بطاقة إقامته، وشهادةً بنكيةً له في المغرب، ووثائق سيارته، وشهادة سكن باسمه، كما قدّم رسالةً منه يطلب فيها الاستماع إليه في ما نُسِب إليه، ورفضت المحكمة ذلك.
وقال الدفاع: "إن النيابة العامة قالت إن دليل التخابر هو أنه لم ينشر أي مقال عن هذه اللقاءات حين لم تجد أي دليل يفيد بتقديم عمر معلومات سريةً لمن كان يلتقي بهم من أجانب في إطار عمله الصحافي"، لافتاً إلى أن الصحافيين "لا ينشرون مواد تتضمن حصيلة لقاءاتهم، إما لأنها غير جديرة بالنشر، أو لأنهم يؤجلون ذلك إلى توقيت لاحق مناسب".
وأشار إلى أن الغريب في القضية هو أن "عمر يتابَع اليوم بما لم ينشره، بينما كان الصحافيون سابقاً يتابَعون بما نشروه".
سياسات انتحارية
يقول الناشط الحقوقي فؤاد عبد المومني، في حديث إلى رصيف22، إن التجسس والتشهير والضغط على الصحافة وما إلى ذلك، كلها "مكوّنات لسياسة واحدة هي إرهاب الرأي العام".
ويشير عبد المومني، إلى أن الغرض من متابعة الصحافيين ومعتقلي الرأي والأحكام الثقيلة والمعاملات السيئة بحقهم، هو "إعطاء نموذج لكافة المواطنين بأن كل من تجرأ وناقش السلطة، لن تتوفر له ضمانات دولة الحق والقانون والمؤسسات والقضاء، لأن كل هذا يُطوّع من أجل قبر الصوت الجسور".
ويشدد المتحدث ذاته على أن الخطاب الذي صدر من المحاكم في الفترة الأخيرة، لم يتضمن منطقاً قوياً ومتماسكاً، لافتاً إلى أن "عدم ضبط الملفات حتى في الحد الأدنى، وعدم الدفاع عنها بشكل متماسك، إشارة من أجل إقناع الجميع بأننا أمام تطبيق للّا قانون، وليس للقانون"، في إشارة إلى محاكمات مختلف معتقلي الرأي وناشطي حقوق الإنسان.
"الذي يمنع حرية التعبير، يمنع نفسه من معرفة مستوى الاستياء ورفض الأوضاع القائمة في الوطن"، يقول عبد المومني، ويرى أنه لا بد من أن يفهم المُمسِكون بالسلطة في المغرب أن سياستهم ليست غير مشروعة فحسب، بل هي "سياسة انتحارية" ستكون لها نتائج عكسية على السلطة أيضاً إن لم تتراجع عنها.
يُذكر أن اسم عمر الراضي ورد في تموز/ يوليو الماضي ضمن لائحة شخصيات قالت وسائل إعلام دولية إن السلطات المغربية تجسست على هواتفهم باستخدام برنامج "بيغاسوس".
وكانت الرباط قد نفت بشدة في بيان، ما سمّته "الادّعاءات الزائفة" حول استخدام أجهزتها الأمنية للبرنامج، قبل أن تعلن إسرائيل تقليص قائمتها للدول التي يمكنها شراء تقنياتها للأمن الإلكتروني، وقالت صحيفة "كالكاليست" الإسرائيلية، إن المغرب والسعودية والإمارات من بين الدول التي سيتم منعها من الاستيراد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...