المضطربة
أعاني من رهاب الاستحمام، رهاب المرض القلبيّ، رهاب النخاريب، رهاب الشّبق، رهاب الزّواج، رهاب المرايا، رهاب الكلمات الطّويلة، رهاب الحبّ، رهاب الأماكن المكشوفة، رهاب الأبواب الدوّارة، رهاب المقامات الصّالحة، رهاب الأرقام، رهاب العمل، رهاب الجمعة، رهاب المثانة الخجولة، رهاب البلعمة، رهاب الخلود، رهاب النّكات، رهاب الاحتجاز، رهاب الهدوء، رهاب الأمور غير المعَلَّقة، رهاب النّظام، رهاب الأعين المفتوحة، رهاب الانتماء..
لأنّه جَديدٌ دائماً، كما لو أنّه يَحدث لأوّل مرّة، يَتوقّع منّي الشّعر ابتكارات نفّاذة. لأجله، أَجرح نفسي جروحاً حقيقيّة دامية، بينما يتسلّى بمراقبة فَتَحات الأنوف وهي تَتوسّع من حولي.
"الـمـــــــضطربـــــــة
المـــــــضــــــــطـــــــــربـــــــــة"
لدي ألقاب كثيرة لكن "المضطربة" يروقني أكثر. سأقترحه على "أعدقائي" في المافيا الشعرية ليطلقوه علي ابتداءً من الآن.
طيب، لن أقول إنني أعاني من الاضطراب لكنني أنعم به، أنال حظّاً من اضطراب فرط الشعور (شذوذ حسّيّْ استحال علي ترويضه)، من الاندفاع (أَفْعَل و أبحث بشغف عن أن يفعَلَ بي، مخترقةً حواجز الزمن والفضاء و الأشخاص ونتائج الخوض المحتملة ومن ثمة أفكر، هذا إن فكرت من الأساس)، من اضطراب الحركة كذلك (مثلا أغير مقعدي في نفس المقهى أوفي نفس الجلسة لأكثر من خمس مرات، أيضاً أتحرك باستمرار على رقعة الشطرنج، أقصد على رقعة حياة اللاعبين الآخرين. علني أجد من يحاصرني وتنتهي اللعبة بحيث لا أستطيع الهروب وأَسمعها أخيراً: "كش ملك.. كش منى"، حينها سيكون ذلك أشبه بالعلاج بصدمة كهربائية، أشبه بعلاج جراحي. لكن أين هي تلك "المرأة الأدرينالين" التي يفوق ذكاؤها ألمي؟ أين هو هذا "الرجل الكمّاشة" الذي لن أفلت من ملقاطه الرقيق الجارح؟
أووه يكاد من فرط النشوة عند تخيل الأمر، ينمو لي ذيل سحلية. أسخر طبعاً، سيكون ذيلاً يستخدم للصيد، ذيل تمساح.
لطالما فشلت في إخفاء قلبي الرقيق، بالمقابل كنت على الدوام أنجح في التمويه عن عقلي المتعالي و الذي ليس عبارة عن أرقام ولا أسماء أبداً.
رمزي الشريطي عبارة عن مجموعة أخرى من الاضطرابات، يلزم لكل واحد منها وعلى حدَة أكثر من قارئ ضوئي: سابيو-سيكشواليتي، هلاوس بصرية وحسية، اضطراب هوية تفارقي، اضطراب دوروية المزاج... الخ. لنقلْ جل ما يليق بشخصية غير مستقرة عاطفياً، تغير باستمرار من أساليب حياتها وأهدافها وحتى من شكل مشيتها ههه، تذهب حتى الأقاصي "الإكستريمز" في كل ما يثيرها، تصعب عليها الثقة بأحد، إعجابها يتحول في لحظة إلى ازدراء.
كانت أمي تقص في الصور وجوه من خذلوها أو خانوها وتترك وجوههم في صور أخرى كي تختبر بالتأكيد مدى قدرتها على التجاوز و الغفران ،كي تعطي فرصة للوجه المشوه كي ينسلخ من جديد ويصفو... منى وفيق في رصيف22
غير معنية بالمرة بالمحافظة على علاقاتها على المدى الطويل، ناهيك عن توتر محموم في مشاعرها التي قد ترتفع حدتها من صفر إلى ما أقصاه 217 ميلاً في خلال ثوان وكأنها سيارة "لمبرغيني أفنتادور "، ثم تصير أكثر سرعة عند الاستدارة حول الزوايا، دون إغفال افتتانها بتسديد الضربات الاستباقية لمن يتحرك خلف الستائر، أو قدرتها المجنونة، وبمجرد إغماض عينيها، على رؤية وجوه بشرية وحيوانية وأحياناً مزيج منهما معاً. وجه تلو الآخر تلو الآخر... نيجاتيف طويل لوجوه مخلوقات، لا يتكرر ولا ينتهي، إلا بفتح العينين.
مازوشية بالوراثة
كبرت وسط عائلة تجيد فنّ المحبّة، تستهلك الحب وتنتجه، في صورة كبيرة بالأبيض والأسود، معلقة فوق مسمار قوي كالزمن، كان أبي يرتدي السموكينغ وربطة العنق الفراشة، تتوسطها صورة صغيرة لأمي. أبي الذي قال لأمي بعد انفصالهما وقبل رجوعهما إلى بعضهما بمدّة: "وضعت صورتك وسط الفراشة في رقبتي لأقول لك عندما تركتني أنك بقيت عالقة هناك كالغصّة في حنجرتي ولم تنزلي أبداً ولم يذب حبّك الشّوكة، بل ها هو هنا يجرحني طوال الوقت". وإن كان "آدم" قد قضى مكتفياً بتفاحة مقضومة، فأبي لم يطق الرحيل إلا والشوكة مغروسة في تفاحته.
أما أمي، ففي كل الصور التي كانت تضعني فيها على حجرها، في لقطات كثيرة وجدتني أنا وهي ننظر في نفس الاتجاه ومن نفس الزاوية، هي أيضاً كانت تقص في صور مشتركة وجوه من خذلوها أو خانوها، وربما كانت محبتهم على مستوى خفيض من قلبها فغرقوا.
كانت تترك وجوههم في صور أخرى كي تختبر بالتأكيد مدى قدرتها على التجاوز و الغفران ،كي تعطي فرصة للوجه المشوه كي ينسلخ من جديد ويصفو، ولكي تقوم بتمارين تحسين ذاكرة الألم واسترجاع رعشته الأولى.
وأنا؟ لست أختلف عن والدي مطلقاً!
أعتني جيداً بنزواتي الفكرية والحسيّة، غالباً ما لا تكون خصبة ولا تأتي بالتوقعات المنتظرة، مشوشة ومتعثّرة، وتؤذيني أكثر مما تؤذي الآخر. لا أتحدّى نفسي في أكل 55 بيضة مسلوقة وإنما في سلق نفسي وأكلها لتخذلني حرارة النار في النهاية، كما المتوقع.
دائماً ما ذهبت بعيداً في إنضاج الفاكهة العاطفيّة والروحيّة للغير، حتّى أنّني هززت غير ما مرّة الغصن الذي تتعلّق به الفاكهة تلك، فسقطت أخيراً مع الشجرة.
أضرب مثلاً، بتجربة لعلها الأطرف والأبسط: ظللت لثلاثة أشهر متواصلة وأنا أشاهد كل صباح متعمدة نفس المشهد من سلسلة تلفزية كنت أتابعها: عروس مثليّة ميتة وغارقة في دمها بين يدي عروسها، كلما انتهت اللقطة أشهق وأبكي بسبب علاقة إنسانية عاطفية دراماتيكية بنيتها مع العروسين وأقول: في صباح الغد لن تشعري بالأسى كما الآن، وستنجحين في هدم ما بنيته من تعلق وتعاطف، غير أنني كنت أعيش كل صباح نفس الوجع، و أستمتع به بشكل غريب للغاية، استمر الأمر لوقت طويل دون تجاوزه بفعل التكرار إلى أن توصلت إلى أنك لا يمكن أن تتخلص من ألم سوى بألم أقوى. ميزة الألم أنه حبة مراوغة وفاتنة. كل حبة هي واسطة العقد.
أورجازم الألم
أهوى التجريب. تجريب كل ما قد يحملني و من طريق مختلف إلى تحقيق أورجازم الألم. أورجازم شهي و عبقري، أصله عبر مراوحة متواصلة بين جَلد الذات والصبر على الألم.
لا يمكن أن تتخلص من ألم سوى بألم أقوى. ميزة الألم أنه حبة مراوغة و فاتنة. كل حبة هي واسطة العقد... مجاز منى وفيق في رصيف22
بدأت الحكاية بمفارقة من أحبهم باختياري، بتركهم يجمدونني في أفكارهم الخاطئة، بعدم تصحيحي ولا شرحي لمن يظلمونني، بهجرهم كمثل هجران سرير دافئ في صباح بارد، بتحقيق اللذة عبر إطلاق "الكليموجين" الغاز المدمّع على عيوني ،بالحفر على جلدي، بكتابة إهداء على إصداراتي بدمائي، باختلاق مشاجرة عاطفية وتكسير كوب جعة والمشي على زجاجه الرقيق،
بالاستمتاع لأكثر من ثلاث مرات توالياً بمتابعة تحميل القيح والدم في الناسور الشَعَري، بعملية تجييب كيس الشَعر دون مخدر موضعي، بتحمل ألم الأسنان مع تجاهل وفرة المهدئات. الدخول في حديث نوعي مع أسناني انتهى لصالحي مباشَرةً بعد الوصول إلى نقطة النشوة خلال ممارسة الجنس الطاوي مع الألم. توقف الوجع فعلياً، بإشعال النار بولاعة في خصلات شعري وشعر جلدي.. أوووف.. صوت تراجع الشعر وانكماشه آسر.. آسر! بالمضي في سادية شعرية عبر حفر طريق جريان للدموع... تكسرت أظافري و لا أحد، للأسف أو لحسن الحظ، يسمعني عندما أبادره بها: "تألمْ لأراك".
انتقلت بعدها الى مشاركة الألم ونشوته مع مخلوقات أخرى، أي تسارع لنبضات قلبي! أخْفق.. أخْفق.. عندما أتوحَد معها و أصيرها جميعاً: القطط، أداعبها وأخنقها بحنان ثم أفلتها عندما تستسلم مستغلةً فضولها مثلي. من قال إن الفضول يقتل القطط؟! الفراشات، أقص لها جناحاً وأتركها بواحد، أريد رهافة مضاعفة لنا معاً، مشتاقة لتحليقها مع الغازات في معدتي وهي المكتفية من 12 سنة بالتنقل وحسب بين الزهور في الحدائق الخارجية.. اللعنة!! أجل أجل. الذباب هو الآخر، أصطاده بيدي وأغلق عليه قليلاً في راحة اليد ثم أضعه في علبة، لتذهبْ فكرة "المنفذ" وتنصهرْ مع الظلمة.
كم أحببت شكل الشاش الأبيض على يدي الجريحتين في إحدى المرات.. لم يستوعب أحدٌ ذلك إلا شخص واحد كان سبق وأن تواطأ معي في السابق على تكسير قلبي المحطم سلفاً. كنا نلملم القطع لنهشمها ببعضها، انتهى إلى قطعة فنية بديعة لن يتجرأ أحد على سرقتها!
يا إلهي كم أنا مأخوذة بتجفيف قلبي لأجل تلك اللحظة المغرية، اللحظة التي يكون قد يبس تماماً كما لو أنه ورقة خريف لم تكن خضراء يوماً، ثم في ثانية واحدة أدوسه وأسمع تلك القرمشة الساحرة.
أنا قابلةٌ للجرح في أي لحظة.. كم جميلٌ ومطَمئن!
أنت قادر على إغوائي بحسب شكل ألمك وطبقته ودرجة اشتعاله ولونه النهائي، وحالياً لا أحد يتخطى بالنسبة إلي "رؤوف أوفقير" بألمه الذي بلون القرفة.
تطبيق شخصي للتفاعل مع الموتى
صنعت تطبيقاً خاصاً بي، تطبيق ذكي لا مرئي ولا يعرف عنه أحد شيئاً. ساعدت به نفسي على التفاعل والتراسل مع أصدقائي وأحبابي من الموتى أو الأشخاص الذين ماتوا قبل أن تجمعني بهم الحياة. في عزلة اختيارية و متكاملة استمرت لأكثر من ستة أشهر، لم أكن قد تواصلت فيها مع أحد، كنت أكتفي بعلاقة إنسانية أقمتها مع قاتل مغربي مات منتحراً منذ أكثر من 14 سنة، اسمه "محمد زويتة" وجرائمه تدخل في خانة الجرائم العاطفية.
لم يستطع أن يخرج من دائرة الخذلان و الخيانة إلا قاتلاً ومنتحراً.. كنا نتحدث أنا وهو يومياً قبل أن أنام، أخبره عن خططي السابقة بخصوصه وأتبادل معه مقاطع فيديو مضحكة عن "الشاعر الفقمة"، أختار معه أماكن لتناول الطعام المكسيكي في سان فرانسيسكو، أخبره عن حفظي عن ظهر قلب لمشهد انتحاره، لتفاصيل لوحة العشاء الأخير والميتة الأخيرة، عن التفاحة الخضراء و سم المبيد الحشري وحدقة عين أوسع من الأخرى، لشكل حزام البنطلون والحذاء الرياضي وكثافة الشارب ولون الجاكيت.
أقرأ له نصي الجديد المهدى إليه وبعدها أفتح التابوت، أسأله بجدية: "بين الحين و الآخر يموت أحباء لي بدلاً مني، هل تعتقد أنني سأحب تابوتي بالرغم من أنه سيكون على مقاس جثتي بالضبط؟!". ثم أقبله بخفة على خده الأيسر وأتمنى له ليلة سعيدة أخرى لأنها ببساطة بلا أحلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه