مسّه الشوق فذابا
الحب شجرة نستظل أسفلها
يوم مولدي، أشترى أبي مجموعة هدايا لأخي الأكبر قائلاً: تلك هدايا أختك لك، أتعرف لماذا؟ لأنها تحبك. وكلما كبرت عاماً، يذهب والداي لشراء الهدايا وإعطائها لأخي قائلين ذات العبارة: لأنها تحبك.
هكذا ترددت على مسامعي عبارة الحب منذ المهد. وبغضّ النظر عن أشكال الحب المختلفة، سواء حب الإخوة أو الوالدين أو الأزواج، فلا أحد يختلف على أمرين، أولهما أن لكل منا تجارب مختلفة مع الحب، وثانيهما أن المفهوم الأشمل لشعور الحب، هو وجود روح تعيش في معيّتها، كمن يعثر على شجرة في صحراء، يستظل أسفلها من شمس تغرز أنيابها فيه، يستريح بها ومعها وفيها وبجوارها، تصبح الشجرة مع الوقت أمانه وحمايته، ويمسي غصناً فيها، يوجعه البتر منها بل يميته.
"وهات لي قلب لا داب ولا حب ولا انجرح ولا شاف حرمان؟".
ذات مساء وجدت غصناً مبتوراً من شجرة، ذكرني بكل ألم فراق عشته في حياتي، سمعت الغصن يبكي منتحباً، فاسترقت السمع، وجدته يقول: كنت أشرق بنور حضورها، وأترعرع بروح وجودها، أما الآن أمتص وجعي كطفل يمتص أصابعه، أفرك بالدمع عينيّ علني أخرج من كابوس رحيل شجرتي، في وضح النهار أتألم، أترنم نغمات الحزن، تائه ممزق، أحاول وهم نفسي أنها عائدة لكن لا مناص من الحقيقة، طردتني من جنة أنفاسها، الطبيعة كانت تختفي في حضرتها، والآن تعود لتتآمر عليّ؛ الشمس تعاقبني بلهيب حرارتها، والأمطار سياط مسمومة، والرياح تكاد تقلعني من مكاني، حتى الأكسجين لا يصل إلى رئتي.
أشعر بأني منفي مشرد وحيد، رحيلها طبع على قلبي، سيظل محفوراً يلفت أنظار المارة، ما أشد الفراق بعد التصاقي بها وتداخلي معها، فؤادي ينخلع من صدري، أنا غصن مبتور من شجرة، فراق شجرتي كوى أخضري، سأظل أنهنه باكياً، كيتيم مفزوع من عتمة الليل، يبحث بيأس عن أمه، يناديها موهوماً، لتهدأ من وجعه، ناسياً أن المستحيلات لو كانت ثلاثة فرابعها أن تأتي ثانية يوماً.
قلب ناقص نبضة
في الليل، الهموم تتراقص كأشباح، والأوجاع حولتني إلى ساحة عرض، يتنافسون من فيهم سيخرج دموعي أولاً. نباح الكلاب في الشارع يخفيني، لكنني أشعر بشفقة تجاههم، فالبرد يتمدد على جسدهم الآن، وتنهشهم الوحدة، مثلما تغرز أنيابها بي.
أفتقد ونيس ليلي الطويل، تمنيت أن أجده ليتقاسم معي الحياة. يفهمني، يشعر بي، يعانقني إن بكيت، يهون عليّ الأيام الصعبة. مررت بأوقات كنت أحسبها لن تمر -قبل أن تقضي علي- لكنها مرت بدونه، لكنني أعيش بقلب ناقص نبضة.
عانقني حتى أذوب بين ذراعيك، لا تتركني لحظة، عوضني عن الدموع التي كانت صديقة وفية كل ليلة، وانهر الوحْدة لتبتعد، واجلد الوحشة بسوط عناقنا... مجاز في رصيف22
"حبوبي معايا من قبل ما اشوفه
قلبي ده مرايا مرسوم مرسوم فيها طيفه
شايفاه آه فى خيالي
سامعاه آه آه بيقول لي
يا حياتي تعالي تعالي تعالي".
كهفٌ مرسومٌ في خيالي، أمام بحيرة ماؤها عذب، أنام على جسدك كفراش مريح، أنا وأنت ملتصقان، وأم كلثوم تقول في الخلفية: "وأنت معايا تصعب علي رمشة عيني لو حتى ثانية".
جائعة للقبلات، ففرغ غضبنا -من دنيا فرقتنا- فيّ، ضمني بقسوة تليق بأيام قضيتها دونك وحرمتك مني، انتقمْ من القدر الذي لم يعرف الضحك إلا عندما خطيت بقلبك فيه.
عانقني حتى أذوب بين ذراعيك، لا تتركني لحظة، عوضني عن الدموع التي كانت صديقة وفية كل ليلة، وانهر الوحْدة لتبتعد، واجلد الوحشة بسوط عناقنا.
قبلك، لم أعرف ماذا يعني الحب، كنت أشاهده في السينما وأقرأه عبر القصائد فقط، لم أره في قصة من قصصي، كفرت بوجوده على الأرض، آمنت فقط بأنه اليوتوبيا التي تنتظرنا في الجنة، فالجنة عندي هي الحب الذي لم يعرفه العالم، ولم تستوعب فرادته الدنيا.
قبلك، لم أعرف ماذا يعني الحب، كنت أشاهده في السينما وأقرأه عبر القصائد فقط، لم أره في قصة من قصصي، كفرت بوجوده على الأرض، آمنت فقط بأنه اليوتوبيا التي تنتظرنا في الجنة، فالجنة عندي هي الحب الذي لم يعرفه العالم، ولم تستوعب فرادته الدنيا
كنت أظنه بعيداً كعرش الإله؛ لذلك آمنت أنه الحب ودونه الدنيا الكبد، حتى قابلتك في لحظة تشبه الكسوف، شمس وقمر، يلتقيان مرة كل مئات السنوات، لحظة تابعها العالم في مهابة، وعاشها قلبان في صمت وجلال، روحينا تركت جسدينا، وتوحدت. وقتها حدثت المعجزة التي لم تشهدها المجرات ولا شاهدها العالم ولا تابعها أحد، ولم نرها حتى أنا وأنت، بل أجفلنا عليها أعيننا، وسبحنا فيها حد التيه الجميل، الغرق اللذيذ، اليوتوبيا يا حبيبي.
وتشدو وردة في الخلفية: "بتمر ساعات بعد لقانا والروح لوجودك عطشانة توحشني عنيك، وبلاقي الدنيا بقت فاضية، مع ان الناس رايحة وجاية وانا بحلم بيك".
"هل رأى الحب سكارى، سكارى مثلنا؟ كم بنينا من خيال حولنا/ ومشينا في طريق مقمر، تثب الفرحة فيه قبلنا/ وضحكنا ضحك طفلين معاً وعدونا فسبقنا ظلنا".
طفلة هي بين أحضانه، تلتقم الأمان والدفء من أنفاسه، صوته في أذنها يشبه صوت الموج الهاديء، الذي يحملها وهي مستلقية على ظهرها في المياه، شعور يشبه الاسترخاء، تترك كيانها يتهاوى بداخله؛ ليعيد بنائه، يشعرها أنها صغيرته ولؤلؤته، الشغف تجاهه لا ينتهي، كأنه يتكاثر، طاقة تخلق من العدم ولا تفني بل تتجدد تلقائياً، تدب فيهما روح جديدة، كجنين مولود للتو في رحم محبتهما، إنه شعور الأمان.
"إن مر يوم من غير رؤياك ما يتحسبش من عمري"
هناك أناس إن غابوا تختفي معهم معالم الحياة وأسبابها، كأنهم الخيط الذي يربطك بها. لا تجد مبرراً للأكل ولا للعمل ولا تجد طاقة أو دافعاً للعيش من الأساس؛ كي تفعل الأنشطة الطبيعية التي اعتدت أن تقوم بها يومياً. الحب المزروع في قلوبنا معهم يشبه كائناً حياً من دم ولحم. كبر مع الأيام حتى أضحى لا يستأنس بسواهم. شاركونا كل شيء للدرجة التي لم نعد نتذكر كيف كانت الحياة قبلهم.
هناك أناس إن غابوا تختفي معهم معالم الحياة وأسبابها، كأنهم الخيط الذي يربطك بها. لا تجد مبرراً للأكل ولا للعمل ولا تجد طاقة أو دافعاً للعيش من الأساس؛ كي تفعل الأنشطة الطبيعية التي اعتدت أن تقوم بها يومياً... مجاز في رصيف22
لوعة الاشتياق لهم، تشبه ناراً تأكلنا كل يوم. أضحوا سر تمسكنا بالحياة وسر إيماننا بوجود ما يستحق العيش من أجلهن وفي غيابهم يحل الصمت، تذهب الطاقة فنشعر بالشلل. لم نعد قادرين على فعل شيء ولو بسيطا كأننا مكبلين. نفتقدهم ملأ السماء والأرض. نناديهم في أطراف الليل وما يأسنا من الإجابة. علها تبدد المسافات التي تحول بيننا. لا نعلم بالضبط ما اسم الذي نعاني منه. أنحن مريضون بهم، أم هم دوائنا؟
وحنيني لك يكوي أضلعي... والثواني جمرات في دمي.
الحنين رضيع، أبواه ماض حسن وبداية جميلة، ضيعه الزمان منهما، ليشرده على ناصية الأوجاع، فبات يتضور جوعا لكسرة ذكري فائتة بوسطهما، يمتص أصابع اشتياقه وهماً وتألماً، لا يهدأ جأش قلبه، ينتظرهما على أمل عودة، لتجف دموعه، وتخمد نار خوفه، فيطمئن إليهما، ويأنس بقلوبهما؛ وينام قرير العين، شفيف الروح، لكنه لا يدرى أبدا أنهما ذهبا إلى رحلة سماوية بلا إياب، وأن الزمان هو قاتلهما ومشرده.
إن شكيت قلبى وحواسي يعملوا مؤامرة علىّ.. وإن بكيت والحب قاسي تشتكي مني عينىّ
تقول صديقتي: مشكلتي إنني أحببته. هذا ما يجعلني موجوعة. وجعي معقد ولا أقدر على وصفه لك. أقول: أشعر بك. إنه الخذلان. شعور بعدم ثقة في نفسك، وفي العالم. حزن من بصيرتك التي لم تكشف خداعه. الوهم الذي زينه لك وأقنعك أنه الحب. وجع كبير يطل كل ليلة من ذهنك: لماذا! ماذا استفدت! لماذا جمعت وجع العالم؛ لتقذفني به، لماذا أنا؟
أجدت قبلك الإحكام على قلبي، أغلقت كل أبوابي حتى لا يتسرب لي شعور الحب. قبلك كنت أخاف من الانجراف تجاه مشاعري حتى إن مالت لشخص، كنت أتراجع قبل أن تكبر داخلي وتلتهمني. كنت أجيد وأد كل فرصة حب تأتيني. لم صدقتك؟ لم توسمت فيك الخير؟ كيف تسربت لقلبي؟ كيف جعلتني أحبك؟ كيف جعلتني الآن أجلد نفسي؟ هل ظلمتك؟ رغم أن الجميع أقنعني إنني المظلومة والضحية، وأنك مريض ظالم جهول.
أقول: تحتاجين أن تفرغي كل ما بداخلك. تكلمي كل يوم وكرري ذات الكلام. قصي علي ذات القصة عشرات ومئات المرات، أحكيها من كل زاوية. وضعي نفسك مكانه. حاولي فهم دوافعه. تعلمي من أدق التفاصيل. امنحي نفسك فرصة للحزن مع عناقها. ابك كما لم تبكين من قبل حتى يجف نبع ألمك، وفي آخر كل يوم، قارني بين وجعك أمس واليوم. أعدك أن تستيقظي يوماً بألم متلاش وقلب معافى من الخيبة والخذلان. وقتها فقط ستفتخرين بنفسك أنك تجاوزت خذلان الحب وتجاوزت معه الخطر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...