يعيش المغرب هذا العام موسماً يوشك أن يكون مطبوعاً بالجفاف. في جلسة في بيت صديقي، حكت لي والدته عن أهل المنطقة وطقوسهم حين لا يهطل المطر، ولا يأتي إلا بعد الرجاء في أحيان كثيرة. وفي المخيال الشعبي الأمازيغي، إذا تأخر هطول الأمطار، يلجأ الناس إلى طلبها بالصلاة والرجاء ودعاء الأطفال، خلال طقس خاص عُرف باسم تاغنجة. لم تمرّ إلا ثوانٍ معدودة حتى عادت ذاكرتي إلى طفولتي في حي شعبي في بلدة ذات طابع قروي ممزوج ببعض الحضارة، تُسمّى زاوية الشيخ، معظم أهلها يعيشون على زراعة أشجار الزيتون والرمان، وتُعدّ الفلاحة مورداً أساسياً لهم، وتالياً يشكّل هطول المطر طقساً مقدّساً لدى أهل المنطقة، ويلقي غيابه بظلال من الخوف من ضياع موسم فلاحي بُذلت فيه جهود كبيرة.
تاغنجة أو "عروس المطر"
تاغنجة طقس يجسّده الأطفال والنساء في الحي، أو القرية، وعادةً ما يُعرف هذا الطقس في المناطق الفلاحية أيام انقطاع الشتاء، حين تجتمع النساء ومعهم أطفال الحي وبناته، ويحملون إناءً فارغاً يضعونه فوق رؤوسهم، ويقومون بجولة في دروب البلدة، وأزقتها، ينشدون كلماتٍ يأملون من خلالها أن يكرمهم الله بهطول المطر، كي يفرح الكبار والصغار، وتكرمنا الأرض الخصبة بالزيتون والرمان وما لذ وطاب من الثمار، لبيعها وترويجها، خاصةً أنه المورد الوحيد لأهالي المنطقة.
كنا نغنّي "أشتا تتا، صبي صبي، أوليدات الحراته، اوليداتك في قبي، أمك تجري تطيح، أباك داه الريح"، آ الشتا تاتا تات". طقس تاغنجة لاستدرار المطر سابق على الإسلام في شمال إفريقيا، وظل عادة يتوارثها المغاربة
تاغنجة تعود حسب روايات شفهية، وروايات أخرى موثّقة في دراسات أنثروبولوجية، إلى طقس وثني قديم قبل دخول الإسلام إلى المغرب ومنطقة شمال إفريقيا. كلما جفّت الأرض، كان المغاربة يلجؤون إلى "أغنجا"، أو "عروس المطر"، إذ تقوم النساء بصنع عروس المطر بواسطة القصب، لتكون على شكل ملعقة خشبية كبيرة، أو ما يُعرف عند أهل المغرب اليوم بـ"المغرفة"، ويقمن بتزيينها بلباس نسائي تقليدي، ويضعن منديلاً يكون هو رأس العروس، ليقوم الأطفال برفع العروس تيمّناً ببركتهم لكونهم في المخيال الجماعي ملائكةً دعاؤها مستجاب عند الله.
لنسرد الحكاية من أولها
حل فصل الشتاء، وتأخرت الأمطار، وبدأت تخوفات الفلاحين في بلدتي من خسارة الموسم الفلاحي، وقبلها بأعوام كان الأمر يتكرر مراراً. أتذكر أنه حين كنا حينها صغاراً، كنا نسمع ما يروج من أحاديث الفلاحين في السوق الأسبوعي في البلدة الصغيرة، الذي كان سوقاً يجتمع فيه رجال القرى الصغيرة المجاورة من فلاحين وأعيان وشيوخ، وكان مناسبةً لصلة الرحم، ومناقشة أحوال المزارعين، وكنا نسمع أحاديث أخرى من قبيل الدعوة إلى صلاة الاستسقاء، حينما كنا نسترق السمع من أحاديث الرجال في المسجد بين صلاتَي المغرب والعشاء، وفي أثناء خروجهم منه، متجهين نحو منازلهم.
بعد انتظار طويل، وغربة الغيث، وكان اليوم مشمساً، حلّت صلاة المغرب. حينها، أخبرنا إمام الحي بأن صلاة الاستسقاء ستُقام في ساحة المصلّى في المدينة، وستكون في كل ربوع الوطن. لكن في المقابل، استعدّت نساء الحي بمعية أطفاله، لتجسيد طقس آخر، خارج التقاليد الدينية، وصلاة الاستسقاء، هو طقس تاغنجة. تاغنجة غير بعيد عن مكان إقامة الصلاة. كان هذا اليوم بالنسبة إلينا، يوماً مقدّساً ننتظره بفرح، ونرفع أيدينا عالياً إلى السماء، لنطلب من الله أن يسقينا الغيث، ويمطرنا بعد أن انتظرنا طويلاً.
جاءت جارة مسنّة كانت بمثابة أم لجميع أبناء الحي، وكانت ذاكرته ورمزه وملاذه الآمن في الأعياد والمناسبات وغيرها، إلى منزلنا، لتتأكد من وجودي إلى جانب أطفال الحي، لطلب الشتاء في طقس "تاغنجة"، بعد أن يعود رجال الحي من صلاة الاستسقاء. إذ كان يُنظَر إلينا على أننا ملائكة الرحمن، وأن طلباتنا نحن الأطفال لا تُردّ، وهكذا كنا دائماً في طليعة طقس تاغنجة، بحماسة كبيرة.
تعود تاغنجة، إلى طقس وثني قديم قبل دخول الإسلام إلى المغرب. كلما جفّت الأرض، كان المغاربة يلجؤون إلى "أغنجا"، أو "عروس المطر" لطلب الغيث
نمت ذاك المساء منتظراً حلول يوم تاغنجة، كما كنت أنتظر حلول صبيحة العيد، حين توزَّع الحلوى ويوزّع والدي علينا دراهم معدودة. حل اليوم المنتظر عند سائر الأطفال ونساء الحي، إذ ذهب الرجال لأداء صلاة الاستسقاء. وفي المساء، اجتمعنا في ساحة في الحي، في انتظار التحاق البقية. اجتمع الأطفال ومعهم بعض النسوة، وكانت إحداهن تحمل إناءً كبيراً، وأخرى تحمل ملعقةً خشبيةً تقليديةً ملفوفةً بالقصب، ومزيّنةً ببعض الحلي، ومنديل مزركش.
تاغُنْجة تاغُنْجة يا ربّي تعطينا الشْتا
انطلقنا في سيرنا نطلب الأمطار، ونردد بصوتٍ عالٍ وسط بعض الزغاريد: "تاغنجة يا تاغنجة يا ربي تعطينا الشتا"، و"مال السّْبُولَا عَطْشانة غِيتْها يا مُولَانا"، (لماذا السنبلة عطشانة، أغثها يا مولانا)، و"مال الفولة عَطْشانة غيتْها يا مولانا".
هكذا قضينا ساعاتٍ في السير، متضرّعين إلى الله بأوجهٍ بريئةٍ تطلب المطر، وتنادي بصوت يملأه الخشوع: "مال السبولة عطشانة غيثها يا مولانا". تطلّ علينا النسوة من منازلهن، ليبدأن في الزغاريد، ويُحضرن إما السكر، أو حبوب الشاي، وإما الطحين، أو التمر، أو بعض الفواكه الجافة، ونضعها في الإناء الكبير الذي نحمله فوق رؤوسنا. وكلما مررنا بمنزل، توقّفنا ليعطينا مما أعطاه الله قمحاً، أو شعيراً، أو زيتاً، ويُصب علينا بعض ماء الزهر، أو الماء من المنزل، تبركاً وتيمّناً بالماء المتناثر من المنزل، وهكذا تستمر الجولة في البلدة والحي إلى أن نعود إلى النقطة التي اجتمعنا فيها، لنجد بعض النسوة في انتظار ما جلبناه، وهنا يبدأ شوط آخر.
تجتمع النسوة لصنع الرغيف من الدقيق الذي جلبناه، ومنهن من يجمعن الحطب، ومن يعددن الدقيق لإعداد الخبز الذي يُطهى بشكلٍ تقليدي، ومنهن من يعددن الشاي، ويجلبن الزيت والعسل لأطفال الحي، وسط جوٍّ من الوحدة والألفة ومزيد من الرجاء، ويسود طلب الغيث من الله.
نجتمع حول ما لذ وطاب من خبز ورغيف تقليدي، وكلنا أمل في أن نخرج في اليوم التالي لنلعب ونلهو وسط برك المطر، وتحت قطرات المطر التي تدخل البهجة والسرور على أفئدة الكبار، ونغنّي "أشتا تتا، صبي صبي، أوليدات الحراته، اوليداتك في قبي، أمك تجري تطيح، أباك داه الريح"، آ الشتا تاتا تاتا/ آوليدات الحراثة/ آ المعلم بوزكري طيب لي خبزي بكري. (أيها المطر اهطل، يا أولاد الفلاحين، أولادك في جيبي، أمك تجري وتسقط، ووالدك أخذته الريح (...) أيها المعلم بوزكري اطهُ لي خبزي باكراً)، وهي من الأناشيد الشعبية التي يتناقلها أبناء المغاربة في إشارة إلى الجو الماطر الذي يأتي بالرياح والأمطار، ومعها الخير والحصاد الوفير.
أسطورة الفتاة الحسناء
في التراث غير المادي والذاكرة الشعبية، ارتبط طقس تاغنجة بأسطورة توارثها سكان منطقة شمال إفريقيا، تعود جذورها وفق دراسات تؤرخ لطقس تاغنجة، إلى فتاة حسناء فائقة الجمال، كانت وحيدةً لعائلة قديمة في منطقة نائية في شمال إفريقيا. ترعرعت الفتاة بعيداً عن أعين الناس، وتشير الروايات الشعبية الموثّقة إلى أن غنجة لم يصادفها بشر يوماً، ولم تخرج من منزلها، ولم يعرفها إلا أهلها، ومن يقطنون في بيتها. وفي ذلك الوقت، بلغ الجفاف في القبيلة ما بلغ، فأتى على كل شيء، وما كان من أعيان القبيلة إلا أن يطلبوا من والد الفتاة الحسناء غنجة، أن تخرج إلى القبيلة عارية الرأس، وحافية القدمين، بجمالها الفائق، علّ السماء تمطر لجمالها، وهذا ما حدث بالفعل حسب الأسطورة، وما أن خرجت غنجة أمام أهل القبيلة، حتى ارتوت الأرض، وأغيث الناس في القبيلة، وصارت غنجة رمزاً لطلب الشتاء.
طقس "وثني" شعبي
في دراسات قام بها إثنوغرافيون أوروبيون في بداية القرن العشرين، وصفٌ لحفلات استدرار المطر التي تواصلت في المنطقة المغاربية، ويشيرون إلى حفلة "بوغنجة"، ذاكرين أنه عند حدوث الجفاف تجتمع العجائز لتحديد يوم الاحتفال بـ"أنزار" (المطر). في اليوم المحدد، تخرج كل النساء برفقة الأطفال، ويحملن ملعقةً كبيرةً مكسوةً بالأقمشة والجلد، فتتحول إلى دمية كبيرة، ويردّدن الأهازيج والدعوات، ويطلبن فيها نزول الغيث، وفي أثناء السير تلتحق بهن أخريات، وتقدَّم للموكب الأعطيات من دقيق وزيت ولحم، فيتم تحضير الطعام عند الضريح.
لقد كانت تاغنجة في البداية، في شمال إفريقيا، عبادةً وطقساً وثنياً لاستدرار المطر، ثم تحولت بعد ذلك إلى عادة، لكن بعد دخول أهل شمال إفريقيا في الإسلام، تم التخلّي عن عدد من العبادات التي كانت مرتبطةً بالوثنيات وغيرها من الطقوس، وهو ما حدث مع طقس تاغنجة، إذ تحولت إلى طقس احتفالي ثقافي يجمع بين التقاليد الموروثة وبين الدين الإسلامي، وذلك عبر طلب صلاة الاستسقاء في المساجد، وصارت تُردّد خلال هذا الطقس مناجاة تستجدي الله أن يسقيهم الغيث، ولا يجعلهم من القانطين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...