"كل كتلة حجر في داخلها تمثال، ومهمة النحات تكمن في اكتشاف ذلك التمثال، واخراجه من العتمة إلى الضوء"؛ هذه المقولة للنحات والفنان الشهير مايكل أنجلو، وما تنطوي عليه من سحر وقوة، تبدو الأكثر تعبيراً عن الفلسفة الفنية، للنحاتة الأردنية الكبيرة منى السعودي، التي رحلت عن عالمنا في شباط/فبراير الجاري، عن 77 عاماً، بعد رحلة حياة حافلة بالشعر والرسم والنحت، صاغت السعودي خلالها، هوية فنية خاصة بها، تشكلت بالأساس من التجريد الشعري للوجود. هذا التجريد الذي رأته وسيلة للتحليق في عوالم أخرى لا مرئية، حيث لا تفاصيل محددة تحجب الرؤية.
في بيتٍ، كان جزءاً من الموقع الأثري "سبيل الحوريات" بالعاصمة الأردنية، عمّان، ولدت منى السعودي (1945)، وسط عائلة كبيرة هاجرت من دمشق في أواخر القرن التاسع عشر. العائلة تقليدية متزمتة، لكن العالم من حول الطفلة لا يكف عن إدهاشها، فهي نشأت، محاطة بالآثار الرومانية، وبقايا التماثيل والمنحوتات القديمة، والمدرج الروماني الذي كان ملعب طفولتها. هنا كونت منى السعودي، وهي مازالت طفلة، علاقة خاصة مع الحجر. تنامت هذه العلاقة، خلال الطريق الطويلة، التي كانت تقطعها الطفلة، سيراً على قدميها، حيث كانت تذهب إلى مدرسة بعيدة عن بيتها.
كانت الصغيرة تترك الطريق الممهدة، وتسلك طرقاً ترابية، تتأمل التلال والجبال، وفجوات الصخور، واستدارات الأرض، تدخل في جسد الطبيعة العاري، وتُحلق في عالم آخر، وعن هذه الفترة تقول السعودي في مذكراتها (أربعون سنة من النحت): "كنت أترك أصدقائي الصغار لألعب مع التماثيل، أتحاور معها، أتأمل ثناياها، وصناعتها، وكنت أشعر أنها مخلوقات صامتة مليئة بالحياة... لقد أعطتني هذه المواقع الأثرية الأسطورية الشعور بقدرة الإنسان على إبداع أعمال عظيمة تبقى على مدى الدهر، وهكذا بدأت تتكون أحلامي".
المرأة هي العنصر الرئيسي في منحوتات الفنانة، تتموضع بشكل ثابت، وراسخ، باعتبارها مركز الكون، ومنها تبدأ دورة الحياة
عبر أخيها فتحي، الذي كان نسيجاً مختلفاً عن عائلتها التقليدية؛ شغوفاً بالأدب والفن، ستستمع إلى قصة جلجامش، و"نبي" جبران خليل جبران، وعن طريقه أيضاً ستعرف الموت للمرة الأولى، حيث مات الشاب الصغير، بعد إصابته بمرض غامض، لكنها ستعرف أيضاً أن الموت ليس نهاية، بل هو جزء من دورة الحياة في ديمومتها وسريانها.
تقول السعودي في أحد حواراتها الصحفية: "حين سمعت بخبر موته في الصباح، غرقت في البكاء ولكنني حين رأيت وجهه مسجى في التابوت الخشبي، وكان مبتسماً كأنه ينام بعمق، عرفت أن الموت تحوّل وليس نهاية فاجعة، بل إنه من نسيج الحياة. تركت المأتم في البيت وخرجت أمشي في شوارع المدينة وسفوح التلال… وكان ذلك أول وعيي بأن الزمن الذي نعيشه هو رحلة ونكون فيها نبضاً فاعلاً، وعلينا أن لا نخاف من المجهول، ونحيا في المغامرة والحلم والحرية".
هكذا كانت منى السعودي تحيا في المغامرة وتنمو -بحسب تعبيرها- في حلم آخر بعيد وغامض، كانت مشدودة إلى هذا العالم الذي يتراءى لها في الحلم، وهنا بدأت أولى معاركها مع الحرية، حيث قررت وهي في الثامنة عشرة من عمرها، أن تتمرد على سلطة عائلتها؛ رتبت قصائدها، ورسوماتها البدائية، التي أنجزتها في المرحلة الثانوية، ثم جهزت حقيبتها، وأخبرت أختها الكبرى، أنها ستهرب إلى بيروت، ليستيقظ الأب على الخبر الصادم.
في بيروت الستينيات، كانت الشابة المفعمة بالحياة، محاطة بكبار الشعراء والفنانين: أدونيس، أنسي الحاج، ميشيل بصبوص، وبول غيراغوسيان. اقتربت الفنانة الشابة، من العالم الفني للنحات ميشيل بصبوص. كانت تذهب إليه في محترفه بقرية راشانا، وحين شاهد رسوماتها، بالفحم والحبر الصيني، رأى أن ثمة تكوينات نحتية في طريقها للتشكل من هذه الخطوط الحادة.
وكان لهذا الفنان تأثير كبير على التوجه الفني الذي ستنتهجه السعودي في ما بعد. في العام ذاته (1963)، ستقيم الفنانة أول معرض لرسوماتها، في مقهى الصحافة، ومن هذا المعرض باعت عدداً من اللوحات المعروضة، وبثمنها، ستبدأ رحلتها إلى حلمها الكبير، حيث حصلت على تذكرة سفر إلى العاصمة الفرنسية.
في باريس، سينفتح عالم الفن والأدب على مصراعيه، أمام الشابة العشرينية. فوزها في مسابقة النحت، سيؤهلها للالتحاق بالمدرسة العليا للفنون، وهناك أثناء دراساتها في مدرسة الفنون، ستكتشف منى السعودي العلاقة بين جسد الإنسان وجسد الأرض، والطبيعة العارية، وستدرك أن الإنسان بما يحويه جسده من أسرار، يمثل مركز الكون، تقول في مذكراتها: "كان منهج التعليم في المدرسة العليا للفنون يرتكز بشكل أساسي على دراسة جسم الإنسان، عبر نحت ورسم الموديلات الحية أو التماثيل القديمة.
هناك بدأت اكتشاف العلاقة بين عري الإنسان وعري الطبيعة، بين جسد الإنسان وجسد الأرض، وأدركت أن الإنسان مركز الكون وأن في الجسد الإنساني أسرار ومبادئ الحركة والتكوين والامتلاء والفراغ والتناسق والنور والظل ودرجات اللون".
"كنت ألمس على الحجر أيدي نحاتين من بلادي صنعوا منذ آلاف السنين هذه الأعمال المجيدة،ورأيت أني أنتمي لرؤيتهم الفنية"
في باريس أيضاً وتحديداً خلال زياراتها، لمتحف اللوفر، ستكتشف منى السعودي عظمة وفرادة فنون الحضارات الشرقية والفرعونية. تقول نصاً: "سحرتني المنحوتات السومرية والمصرية والأنصاب النبطية المنقوشة بالكتابات. كنت ألمس على الحجر أيدي نحاتين من بلادي صنعوا منذ آلاف السنين هذه الأعمال المجيدة،ورأيت أني أنتمي لرؤيتهم الفنية".
كان عام 1965، بمثابة الانطلاقة الأولى في عالم النحت، لمنى السعودي، حيث شكلت وصنعت منحوتتها الأولى من الحجر "أمومة الأرض"، وهي-بحسب تعبيرها- الأم الحقيقية لكل أعمالها، فمنها انبثقت كل أعمالها النحتية، مثل: "الرحم، الخصوبة، الولادة، الشروق، الفجر، العاشقة، النورس والنهر، ومسلة النيل، وهندسة الروح، وتنويعات على حرف النون، ودائرة الأيام السبعة".
تعكس هذه الأعمال التي تتمحور حول موضوعات "الخصوبة، والنماء"، احتفاءً خاصاً وملحمياً بالحياة، في تضاد واضح مع الرؤية الدرامية والمأساوية للعالم، التي ترفضها السعودي، من منطلق إيمانها الراسخ بالحياة وبوظيفة الفن، ودوره في فتح مسارات وآفاق جديدة أمام الإنسان.
المرأة هي العنصر الرئيسي في منحوتات الفنانة، تتموضع بشكل ثابت، وراسخ، باعتبارها مركز الكون، ومنها تبدأ دورة الحياة، وهذه المرأة هي الأرض، التي تهب الإنسان كافة أشكال الحياة، فالأرض والأم لدى منى السعودي وجهان لحقيقة واحدة، وقد أوضحت تلك الرؤية بقولها: "أعالج موضوع الأرض كموضوع رئيسي في تجربتي، ومثل هذا الموضوع (الأرض) يتطلب حياة كاملة، وهو موضوع غني بغنى الطبيعة. والأرض في أعمالي تحمل معاني الإنسانية من الاقتلاع إلى النفي، إلى البحث عن هذه الأرض، وفي تعبيري عن فلسطين لا أعتمد شكل التعبير السياسي المباشر، أو الرموز المباشرة، لكن ثمة حقيقة تكمن في الحدة بين الإنسان والأرض، وهي ما أسعى إلى تحقيقها".
في باريس، شاركت منى السعودي في الانتفاضات والمظاهرات الطلابية، التي اندلعت في عام 1968، وبعدما تم إجهاض هذه الثورة، فضلت الفنانة العودة إلى وطنها، آملة أن تُساهم في حركة تغيير المجتمع الذي تنتمي إليه، وفور وصولها، قامت بزيارات للمخيمات الفلسطينية، التي أقيمت في الأردن بعد نكسة 67، وكان لها تجربة ثرية مع أطفال مخيم البقعة، حيث ساعدتهم في التعبير عن قدراتهم الفنية، ووثقت تجربتها في كتاب بعنوان "شهادة الأطفال في زمن الحرب".
حققت منى السعودي حضوراً عربياً وعالمياً كبيراً، وتركت ثروة فنية هائلة، أهمها منحوتة "هندسة الروح" التي تقف أمام معهد العالم العربي في باريس
لم تدم إقامة السعودي في عمان طويلاً، فسرعان ما شعرت بركود الحياة وسكونها، واستشعرت أن هذا الوضع يمثل خطراً على روح الفنان، ومن ثم عادت النحاتة الكبيرة مرة أخرى للحياة في بيروت. التجريد الصارم في أعمال منى السعودي، تأتى من كونها شاعرة في المقام الأول، لها مجموعتان شعريتان: "رؤيا أولى"، و"محيط الحلم". كما أنه يتسق مع فلسفتها في الحياة ورؤيتها للعالم، والتي تتمحور حول الجوهر العميق، النقي، المجرد من التفاصيل، وكون هذه الأعمال التجريدية، تنبثق من ذاكرة شعرية، فهي تفيض بشتى المعاني الإنسانية، فالمنحنيات والاستدارات في تكوينات منى السعودي، تنطوي على شيء غامض وملتو، لكنه يفيض بالدفء، وكذلك بطاقتها الروحية الهائلة التي بثتها في الحجر.
حققت منى السعودي حضوراً عربياً وعالمياً كبيراً، وتركت ثروة فنية هائلة، أهمها منحوتة "هندسة الروح" التي تقف أمام معهد العالم العربي في باريس، وتنتصب أعمالها في العديد من متاحف العالم مثل: المتحف البريطاني، المتحف الوطني للفنون الجميلة في الأردن، ومعهد الفن بشيكاغو، ومعهد الفن في ديترويت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...