"السخرية هي الشكل الأدنى من الطرافة لكنها الشكل الأعلى من الذكاء"، هذا ما قاله المسرحي والروائي الشهير أوسكار وايلد، منوهاً بأن السخرية، هي من أرقى أنواع الفكاهة لكونها تحتاج إلى قدر كبير من الذكاء.
وفي الوقت الذي يجد فيه الأهل صعوبة في تصديق أن السخرية والتهكم هما علامة على وجود عقل مرن وخلّاق لدى أولادهم، فإن معظم علماء النفس وعلماء الأعصاب يتفقون على أن السخرية تتطلب من الدماغ القفز عبر العديد من المطبات للوصول إلى تفسير صحيح، ما يحتاج إلى قوة عقلية أكثر من مجرد الاكتفاء بالمعنى الحرفي للكلمة.
القدرة على اكتشاف السخرية
في حلقة من المسلسل الشهير The Simpsons، يعرض العالم المجنون البروفيسور فرينك أحدث ابتكاراته: أداة لكشف السخرية.
فتقول إحدى الشخصيات بنبرة ساخرة: "كاشف السخرية؟ هذا اختراع مفيد حقاً"، وسرعان ما يتسبب هذا التعليق الساخر في انفجار الآلة.
في الواقع، وجد العلماء أن القدرة على اكتشاف السخرية مفيدة حقاً.
على مدار العشرين عاماً الماضية، كان الباحثون، من اللغويين إلى علماء النفس إلى أطباء الأعصاب، يدرسون قدرتنا على إدراك الملاحظات اللاذعة واكتساب رؤى جديدة حول كيفية عمل العقل.
يفهم الأطفال ويستخدمون السخرية عند وصولهم إلى الروضة. قد تكون عدم القدرة على فهم السخرية علامة إنذار مبكر لأمراض الدماغ، كما أن العمر يلعب دوره في هذا الصدد.
في دراسة نموذجية، شاهد الطفل شخصية تدعى جين، تحاول رسم وردة، لكنها تسبب فوضى مروعة. تقول آن صديقة الدمية: "أنت رسامة رائعة". وشاهد الأطفال أيضاً سام وهو يقوم بإزالة الأعشاب الضارة من الحديقة وينهي المهمة بسرعة كبيرة. يقول صديقه بوب: "أنت بستاني مروع".
تسمح لنا السخرية بإضافة فارق بسيط نحتاجه بشدة لتفاعلاتنا، أو تخفيف الإهانات أو إضافة جرعة من المرح إلى الإطراء، حتى أن هناك بعض الأدلة على أن أسلوب السخرية يمكن أن يساعدنا على التنفيس عن المشاعر السلبية عندما نشعر بالإحباط
بشكل عام، إن الأطفال دون سن الخامسة غير قادرين ببساطة على اكتشاف السخرية من خلال هذه العبارات. وحتى بعد ملاحظة أن الكلمات تحجب نوعاً من المعنى الخفي، فقد يجدون صعوبة في فهم الفروق الدقيقة. (قد يظنون أن شخصاً ما يكذب ببساطة). يأتي فهم استخدام السخرية في الدعابة، كشكل من أشكال المضايقة والإغاظة.
يبدو أن هذا القوس التنموي يتبع ظهور "نظرية العقل"، أي قدرة الطفل على فهم نوايا الآخر، والتي تميل إلى أن تصبح أكثر تعقيداً مع تقدم العمر.
وقد أظهرت أحدث دراسات أن البيئة المنزلية للطفل يمكن أن تؤثر بشدة على فهمهم واستخدامهم للسخرية، بمعنى آخر، إذا استخدم الوالدان السخرية، فمن المرجح أن يطور الأطفال هذه القدرة بأنفسهم: "في سن الرابعة تقريباً، يطور الأطفال القدرة على أخذ منظور شخص آخر وإدراك أن الاعتقاد الذي قد يحمله شخص ما في أذهانهم يختلف عن معتقدهم".
السخرية معقدة لأن الطفل يجب أن يفهم النوايا الفعلية للشخص المتحدث والطرق التي ينوي أن يفسر بها الشخص الآخر كلماتهم، وهي عملية من خطوتين تستغرق وقتاً حتى يتقنها الطفل، وبحلول الوقت الذي يبلغون فيه سن المراهقة، يكون العديد منهم قد أتقن هذه المهارات المعقدة، وباتوا يستمتعون بتجربتها واختبار تأثيرها على الآخرين.
في حديثها مع رصيف22، أكدت علا خضر، الأخصائية في علم نفس الأطفال والمعالجة النفسية، أنه بهدف أن يتمكن الطفل من فهم السخرية بشكل مناسب، فإنه يحتاج إلى ما يُعرف ب theory of mind أي القدرة على رؤية الأمور من خلال منظور مختلف: "قد يقدم طفل مثلاً يبلغ من العمر 3 سنوات على إحضار لعبته في حال شعر بأننا في حالة حزن وذلك لاعتقاده بأن ذلك من شأنه أن يفرحنا، فهو خلال هذه المرحلة العمرية لا يعي بأنه لدينا طريقة تفكير مختلفة عنه".
ومع التقدم في العمر، يصبح الولد قادراً على معرفة أن هناك اختلافاً في التفكير بين شخص وآخر، وعندها قد يلجأ مثلاً إلى السخرية، والتي هي، بحسب علا، مؤشر على النضوج والتطور الفكري لكونه بات يفرّق ما بين السخرية والحقيقة.
بمعنى آخر، شددت علا خضر على أن الطفل تقريباً في الخامسة من عمره يبدأ في معرفة أن أفكاره الشخصية تختلف عن غيره، وهكذا قد يلجأ إلى أسلوب السخرية في تعامله مع الأمور، مشددة على أنها مرحلة مهمة في التطور المعرفي السليم.
دور العقل
إذا كنتم/نّ لا تزالوا/ن غير مقتنعين/ات بأن حب الشخص المراهق للسخرية هو أمر يستحق التقدير، ففكروا/ن في تجربة حديثة أجرتها روث فيليك، عالمة النفس في جامعة نوتنغهام في المملكة المتحدة.
فقد طلبت فيليك من المشاركين الاستلقاء أثناء قراءتهم سيناريوهات مختلفة للأحداث الشائعة.
"السخرية هي فنّ الوجود على قيد الحياة"
في بعض الحالات، كان المقصود من تصريحات الشخصيات أن تكون ساخرة بلطف: "تقدم كل من بيرنيس وكيتلين للحصول على دورة في علم النفس في إحدى جامعات الولايات المتحدة الأميركية. ذهبا لطباعة طلباتهما معاً. كان لدى الطابعة ورق وردي فقط. قال بيرنيس لكيتلين: "رسمي جداً!".
في موقف آخر، تم استخدام نفس الكلمات كنقد ساخر لشخص معيّن: "تقدم كل من بيرنيس وكيتلين للحصول على دورة في علم النفس في إحدى جامعات الولايات المتحدة الأميركية. ذهبا لطباعة طلباتهما معاً. اختارت كيتلين طباعة طلبها على ورق وردي. قال بيرنيس لكيتلين: "رسمي جداً!".
وقد تبيّن أن كلا النوعين من السخرية أشعلا الشبكة الموجودة في العقل التي تشارك في فهم معتقدات الآخرين ونواياهم، وهو اكتشاف يؤكد أهمية نظرية العقل في تفسير هذه الأنواع من العبارات الغامضة.
وقد وجدت فيليك أن السخرية أثارت أيضاً نشاطاً أكبر في الشبكات المشاركة في معالجة اللغة العامة، ومناطق الدماغ المشاركة في الدعابة، مقارنةً بالمفارقة غير الساخرة - التي تعتبرها علامة على تعقيدها الكلي: "من الصعب معرفة ماهية معتقدات الشخص الآخر، ولماذا قال ذلك، وما إذا كان يحاول أن يكون لئيماً أو مضحكاً".
تحفيز الإبداع
على الرغم من أن السخرية غالباً ما يتم تجاهلها، إلا أنها في الواقع دليل على النضج، بحيث يستغرق الأمر سنوات حتى يتمكن الدماغ البشري من استيعابها وإتقانها بشكل كامل.
من خلال العمل مع زملائها في جامعتي هارفارد وكولومبيا، أظهرت لي هوانغ من كلية إدارة الأعمال في فونتينبلو، فرنسا، أن التعبير عن التعليقات الساخرة أو تلقيها أو تذكرها يمكن أن يساعد في تحفيز التفكير الإبداعي.
تضمنت إحدى تجاربها "مشكلة الشمعة"، حيث يتم تقديم شمعة وعلبة أعواد ثقاب وعلبة مسامير. وتتمثل مهمة المشاركين إيجاد طريقة لربط الشمعة بالحائط بحيث يمكن أن تحترق دون أن يقطر الشمع على الأرض. الإجابة الصحيحة هي تفريغ صندوق المسامير، وتثبيته على الحائط، ثم وضع الشمعة بالداخل، وهو حل لا يتبادر إلى الذهن إلا إذا كان المرء مستعداً للتفكير بشكل جانبي في وظائف كل غرض.
قبل الشروع في حل المشكلة، طُلب من بعض المشاركين أن يتذكروا موقفاً ساخراً، بينما تذكر آخرون موقفاً صادقاً أو محايداً. بشكل مثير للدهشة، زادت الذكريات الساخرة من معدل نجاح المشاركين بأكثر من الضعف، من حوالي 30 إلى أكثر من 60%.
التعامل مع التوتر
تسمح لنا السخرية بإضافة فارق بسيط نحتاجه بشدة لتفاعلاتنا، أو تخفيف الإهانات أو إضافة جرعة من المرح إلى الإطراء، حتى أن هناك بعض الأدلة على أن أسلوب السخرية يمكن أن يساعدنا على التنفيس عن المشاعر السلبية عندما نشعر بالإحباط.
تعليقاً على هذه النقطة، قالت كاثرين روثرميتش من جامعة شرق كارولينا في غرينفيل بولاية نورث كارولينا: "يمكن أن تكون السخرية وسيلة للتنفيس عن الغضب". ومن المثير للاهتمام، أن إحدى دراساتها الحديثة وجدت أن استخدام الأفراد المصابين بالاكتئاب والقلق للسخرية زاد على مدى جائحة كورونا، وهو ما قد يعكس آلية التأقلم هذه.
السخرية هي أداة قد نلجأ إليها للتمرد على العقل ولتفريغ الغضب والحزن وللهروب من العالم الرصين نحو العيش بشكل عبثي، فهي وسيلة تساعدنا على تحطيم التابوهات وأخذ مسافة من الحياة
وبالرغم من أن مثل هذه الدراسات أجريت على البالغين، يبدو أن المراهقين يعانون من أحاسيس متشابهة عند استخدام السخرية، وقد يجدونها طريقة مفيدة للتعامل مع المشاعر السلبية أو المواقف الصعبة.
قد يشعر الأهل في البداية بالصدمة عند التعامل مع مراهق يسخر من كل شيء في جميع المواقف الاجتماعية، كما لو كان يكافح للتعبير عن أي مشاعر صادقة.
ولكن هل ينبغي أن نلوم المراهقين/ات على استخدام السخرية التي تعتبر أداة متعددة الاستخدامات؟ ربما من الأفضل النظر إليها على أنها ممارسة مفيدة لتعزيز القدرة، وفق فلينك:"إنها مهارة يريدون أن يكونوا قادرين على إتقانها، لا سيما أن قدراً كبيراً من اللغة التي نستخدمها في الحياة اليومية ليست بالمعنى الحرفي".
إذن السخرية هي أداة قد نلجأ إليها للتمرد على العقل ولتفريغ الغضب والحزن وللهروب من العالم الرصين نحو العيش بشكل عبثي، فهي وسيلة تساعدنا على تحطيم التابوهات وأخذ مسافة من الحياة، وفي هذا الصدد، نختم بما قاله المؤلف روبير إسكاربيت: "إن السخرية هي فنّ الوجود على قيد الحياة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع