الساعة الثانية صباحاً، ها أنا جالسة في غرفتي الصغيرة وبجانبي هاتفي، أستمع إلى أغنية "I Wish I Knew How It Would Feel To Be Free"، للفنانة نينا سيمون، التي وُلدت في 21 شباط/ فبراير. ولو كانت على قيد الحياة، لكان عمرها الآن 89 عاماً.
تعرّفت إلى نينا سيمون، وتحديداً هذه الأغنية، من خلال مشاهدتي لفيلم "Ghosts Of Mississippi"، مع والدتي آنذاك، وكنت للتو قد بلغت من العمر 12 عاماً.
المغنية التي غنّت هذه الأغنية في الفيلم، لم تكن نينا نفسها بل أخرى، إلّا أنها كانت السبب في بناء علاقة أولية بيني وبين الأغنية آنذاك. كنت أنتظر ما يقارب الثلاث ساعات حتى أستطيع تحميلها، ومعرفة تاريخها، والتعرف إلى المغنية الأصلية لها، وقراءة الكلمات لمعرفة قوة الحياة خلفها، في وقت كان فيه الإنترنت في أول بداياته وبطيئاً جداً، وليس بسرعته اليوم.
الأغنية دفعتني للدخول إلى عالم نينا سيمون الموسيقي، والانخراط فيه. هذا العالم الذي دفعني لتأمل الحقيقة التي تمثلها كل أغنية، واختلاف الأغاني عن بعضها البعض... فاستمعت إلى كل ما أنتجته نينا سيمون على سطح كوكب الموسيقى العالمية، لكن أغنية "أتمنى أن أعرف كيف سيكون الشعور بالحرية"، هي الأكثر تميزاً، من حيث الكلمات والمعنى وكيف كان لها تأثير كبير في حياتي.
في الثانية عشرة من عمري، عندما استمعت إلى كلمات هذه الأغنية التي أثارت لدي الكثير من التساؤلات حول ما هو المسموح به لي أو ما هو المرفوض لي كفتاة؛ أمي كانت شخصيةً حازمةً تضع لي القوانين ولا أملك مساحةً للترفيه، وعليّ أن أكون خاضعةً للعلم والتعلم
في الثانية عشرة من عمري، عندما استمعت إلى كلمات هذه الأغنية التي أثارت لدي الكثير من التساؤلات حول ما هو المسموح به لي أو ما هو المرفوض لي كفتاة؛ أمي كانت شخصيةً حازمةً تضع لي القوانين ولا أملك مساحةً للترفيه، وعليّ أن أكون خاضعةً للعلم والتعلم.
أذكر جيداً أنني كنت ألاحظ الشبه الكبير بين الشخصيات النسائية في منزلنا بشكل واضح، وفي المجتمع من حولنا، فألوانهن وملابسهن وطريقة تحديد مستقبلهن كانت واحدةً.
أبلغ اليوم من العمر 33 عاماً، ولا أحد يعلم عدد المعارك اليومية التي أخوضها حتى تكبر مساحة حركتي في المدينة.
والمدينة التي نسكنها معروفة بضيق المساحات آنذاك للمرأة فيها، ولربما هناك تغيير ملحوظ اليوم بنسبة قليلة، ولاحظت أيضاً أن بعضهن كانت مساحتهن في التحرك تُخصَّص من قبل الآخرين، وتحديداً الرجل أو المرأة التي تكون في موضع المسؤولية، غير أن الأمر لم يكن غريباً في نظري مع تقدّمي في العمر، فنحن نعيش داخل مدينة مصغرة تحتويها مدينة أكبر، وذلك بسبب ارتباط كل فرد بالآخر، وأحياناً ليس بالضرورة أن تكون الصلة بيننا بمثابة رابطة دم، بل إن المكون الثقافي الأساس هو الثقافة السائدة بطبيعة الحال من العادات الاجتماعية.
كان اصطدامي الأول بسؤال "الحركة"، وأنا في عمر الثامنة عشر: هل أستطيع أن أخرج وحدي لزيارة صديقاتي؟ يومها لم أجد من يرافقني، فتم الرفض بالإجماع على خطورة خروج المرأة في هذه السن وحدها، ولم أعترض على ذلك، إلا أنه كلما تقدمت في العمر، بدأ سؤال الحركة يتوسّع، ليشمل السؤال عن المساحات المسموح لي بالتحرك فيها.
وجدت كل المساحات "المسموحة" ضيقةً جداً؛ تعليمياً ووظيفياً وحتى منزلياً، وارتباط المرأة غير المنتهي باستعمالات نمطية تحددها تلك المدينة الصغيرة المسماة "المنزل"، والتي تأثرت بتلك المدينة الكبيرة، وهنا السؤال الذي توصلت إليه اليوم: ما هي المساحة التي أستطيع فيها أن أمارس حياتي الطبيعية من خروج ودخول من دون أن أشعر بالخوف؟ يحملني هذا إلى سؤال مرتبط بهل ستوافق عائلتي على خروجي من المنزل؟ وإن سمحوا لي بذلك في عمر متأخر، لا زلت أنظر إلى قوانين المنزل المتعلقة بساعة العودة إلى المنزل، وماذا سيحدث إن تأخرت قليلاً؟ وهل سيعاقبونني؟
هذه الأسئلة رافقتني حتى اللحظة التي أردت أن أسافر فيها للعمل، لكن واجهت مشكلة الرفض؛ "ما عندنا بنات يسافرون بروحهم". لكن محاولاتي المتكررة دفعتني للسفر للمرة الأولى وحدي، ومن خلال هذه الرحلة فكرت كثيراً في مستقبل المرأة وما هي المساحة التي خُصصت لها؟ في هذه الرحلة، كنت في حالة قلق نفسي دائم، ولم أكن أتوقف عن التصوير والتوثيق والاتصال لإخبارهم بأنني بخير، وبأنني "أمشي في طريق مستقيم"، ولن أقول عن أي فعل يقع تحت "مسمى العار".
أبلغ اليوم من العمر 33 عاماً، ولا أحد يعلم عدد المعارك اليومية التي أخوضها حتى تكبر مساحة حركتي في المدينة. وفي معاركي هذه، لا أقول إن العائلة والرجل غير مهمين، لكن العادات الاجتماعية التي رسمت صورةً نمطيةً ساهمت في تضييق مساحة المرأة بشكل كبير.
كم واحدةً منا تود أن تقول لزوجها المعنِّف كفى؟ كم واحدةً منا تريد أن تشتم القوانين التي تمنعها من التجنيس؟ كم واحدةً منا تريد أن تعاقب من ضربها؟ كم واحدةً منا تريد أن تبصق في وجه من ضيّق عليها الحياة؟ لا سكن يكفلها ولا قانون يسندها ولا أمان عند مرورها في الشارع!
وجدت كل المساحات "المسموحة" ضيقةً جداً؛ تعليمياً ووظيفياً وحتى منزلياً، وارتباط المرأة غير المنتهي باستعمالات نمطية تحددها تلك المدينة الصغيرة المسماة "المنزل"، والتي تأثرت بتلك المدينة الكبيرة
غنّت نينا سيمون أغنيةً واحدةً تتحدث فيها عن الحرية، من خلال حديثها عن نفسها كامرأة سوداء، لكنها كانت كفيلةً بأن تعيد إلي النظر في حياتي، حتى تتحول كلماتها إلى واقع أريد أن أعيشه حتى وإن كانت الأغنية لم تُخصص للنساء العربيات مثيلاتنا، إلا أنها حقيقية جداً، وذلك لأننا كلنا نودّ أن نعرف ما معنى الحرية بأوجهها الصحيحة، وأن يكون في مقدورنا أن نقول ما نراه من دون خوف، وأن نكون أحراراً من دون خوف، وألا نعيش حيواتنا كلها تحت سلطات تمنعنا من حقّنا في أن نرفض ما لا نريده، وأن نحكي ونغني بسهولة.
تقول كلمات أغنية نينا سيمون:
أتمنى أن أعرف كيف سيكون شعوري بالحرية
أتمنى أن أتمكن من كسر كل السلاسل التي تمسك بي
وأتمنى أن أقول كل الأشياء التي يجب أن أقولها
بصوت عالٍ وبوضوح، حتى يسمعها العالم بأسره
بدوري، أتمنى لي ولكِ ولكَ مطلق الحرية في هذه المساحات الضيقة... استمتع/ ي بالأغنية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 17 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين