"ألا تعيش هنا ولا هناك، ألا يشبهك هنا ولا هناك"؛ هكذا يختصر عماد ناصر الدين الذي أتى إلى ألمانيا لاجئاً في فترة الحرب الأهلية اللبنانية عام 1987، الواقع الذي يعيشه منذ 35 عاماً. فهو لم يستطع الاندماج في بلد الاغتراب، بينما لم يعد لبنان هو الوطن نفسه الذي تركه قبل أكثر من ثلاثة عقود.
ليس عماد وحده من ينتابه هذا الشعور، فكثيرون من اللبنانيين الذين جاؤوا في فترة ثمانينيات القرن الماضي وأوائل تسعينياته إلى ألمانيا، ما زالوا عالقين في تلك الفترة، ومتمسكين بما جاؤوا به من عادات وتقاليد لم تعد تصلح لواقعهم الجديد.
وإن كان من غير المنصف الحديث عن هذه الحالات من دون الالتفات إلى الخلفية الاجتماعية والثقافية والواقع الذي أتى منه اللبنانيون وقتها، والحيثيات التي أحاطت بهم، إلا أن حالة مقاومة "الاندماج" ورفضه مع المجتمع المحيط تبدو غريبةً، فالأفكار التي كانت سائدةً في الثمانينيات، بالتأكيد لم تعد صالحةً اليوم حتى في لبنان.
هذه الشريحة لم تتمسك بعاداتها فحسب، وهذا الأمر من حقها ولا يدينها، لكنها ازدادت تقوقعاً وتشدداً لـ"حماية" هذه العادات، ورفضت التطور الذي يسمح لها بالحد الأدنى من الاندماج الطبيعي في المجتمع الذي تعيش فيه. كما أنها ربّت أبناءها الذين وُلدوا في ألمانيا على عادات معيّنة عفّى عليها الزمن في لبنان نفسه، ما تسبب بحالات من الضياع، اجتماعياً وثقافياً، لدى العديد من الأبناء.
الكثير من اللبنانيين الذين جاؤوا في فترة ثمانينيات القرن الماضي وأوائل تسعينياته إلى ألمانيا، ما زالوا عالقين في تلك الفترة، ومتمسكين بما جاؤوا به من عادات وتقاليد لم تعد تصلح لواقعهم الجديد
على من يقع اللوم؟
لا يقع اللوم وحده على هؤلاء الأشخاص وأفكارهم، بل أيضاً على الدولة والمجتمع الألمانيين الذي لم يتقبلاهم، حسب ما يقول العديد من "لبنانيي الثمانينيات" لرصيف22، متحدثين عن قيود عدة فرضتها الدولة عليهم في ذلك الوقت، مما عرقل مسار اندماجهم بالشكل المطلوب منذ البداية.
هذا الأمر يتحدث عنه محمود شومر الذي وصل إلى ألمانيا في العام 1989، بهدف الدراسة بدايةً، قبل أن يقرر البقاء في ألمانيا. ويوضح محمود لرصيف22، أنه في تلك الفترة لم يكن يُسمح للبناني في كثير من الولايات الألمانية بالعمل إلا إذا كانت لديه إقامة دائمة، أو بعد مضي سنتين على وجوده في ألمانيا.
ويضيف: "لقد أعطونا عندما جئنا إقاماتٍ محددة المدة، ولم يطلبوا من أحد منا تعلم اللغة ولم يشجعونا على ذلك، على عكس ما هو سائد اليوم، وذلك على أساس أننا لاجئون غير مستقرين في ألمانيا، ومن الممكن أن يصدر قرار في أي لحظة بإعادتنا إلى لبنان إذا ما تحسنت الأوضاع هناك، ولذلك لا داعي للاستثمار فينا. اليوم تغيّرت كثيراً قوانين اللجوء، كما رأينا بالنسبة إلى السوريين الذين 'أُجبروا' مثلاً على تعلّم اللغة الألمانية".
لا يقع اللوم وحده على هؤلاء الأشخاص وأفكارهم، بل أيضاً على الدولة والمجتمع الألمانيين الذي لم يتقبلاهم، حسب ما يقول العديد من "لبنانيي الثمانينيات" لرصيف22.
ويرى محمود أن "هذه القيود ساهمت في بقاء اللبناني منغلقاً ضمن مجموعات خاصة باللبنانيين، ولم يتشجع على الاندماج وتعلّم اللغة. كما ساهمت هذه القيود في دفع الكثيرين للعمل 'بالأسود'، أي بطريقة غير شرعية بعيداً عن أعين الدولة، وتجنباً لدفع الضرائب، وهذا مرده إلى أن الدولة لم تسمح لكثيرين من اللبنانيين في البداية بالعمل، لذلك فضّل من بدأ العمل 'بالأسود'، أن يستمر في ذلك ويحقق أرباحاً من دون دفع ضرائب".
وعن مدى اندماجه في المجتمع الألماني بعد 33 عاماً على وجوده فيه، يقول محمود: "لقد تعايشت مع المجتمع الألماني، لكنني لم أصبح جزءاً منه، فهو يرفض بعض عاداتنا كما نرفض نحن بعض عاداته، ولذلك الاندماج الكلي مستحيل".
ويضيف: "بعدني ضيعاوي (ابن قرية) متمسك بعاداتي التي اكتسبتها وجئت بها، ونقلتها إلى أبنائي وأعمل على نقلها لأحفادي أيضاً. ما زلت الشخص نفسه منذ 1989، ولكن مع بعض التعديلات، واكتساب بعض العادات الحميدة، كالالتزام بالنظام والقانون وتهذيب سلوكي. الإنسان عليه أن يكون واعياً، يأخذ المنيح (الجيد) ويترك القبيح، فمن يترك أبناءه مثلاً ولا يحتويهم هنا، يكون مصيرهم الضياع، لذلك أوليت أنا وزوجتي اهتماماً خاصاً بأولادنا حتى لا ينجرفوا مع المجتمع الألماني".
ضريبة الحياة الآمنة بعيداً عن العائلة
ويتحدث محمود عن قيود تُفرض بطريقة مباشرة وغير مباشرة عليهم في ألمانيا، ويذكر على سبيل المثال أن هناك قيوداً سياسيةً على آرائهم، يقول: "نحن مجبرون على عدم إبداء آرائنا السياسية تجاه فريق معيّن في لبنان، بسبب السياسات التي تتبعها وتفرضها الدولة، وهذا نوع من الكبت للحريات. الحرية في ألمانيا مرسومة لك ضمن ما تفرضه الدولة وسياساتها التي تضع لك ضوابط لا يمكنك تخطيها، ولكن في النهاية أنت لست في بلدك حتى ولو حصلت على الجنسية، وحتى وإن اندمجت، فهم لا يتقبلونك إلا ضمن الإطار الذي وضعوه لك".
لا ينكر محمود "فضل ألمانيا عليه"، ويقول: "هذا البلد له فضل كبير علينا، فمثلاً الاستقرار الاجتماعي والراحة والاطمئنان والعمل والتأمين الصحي، هي أمور تخطيناها منذ زمن، بينما نرى أهلنا اليوم في لبنان يموتون على أبواب المستشفيات".
لكنه أيضاً يدرك ما فقده بوجوده بعيداً عن بلده لوقت طويل، وعن ذلك يقول: "دفعنا ضريبةً كبيرةً ولا سيما على المستويين النفسي والعاطفي، فقد فقدنا جزءاً من ارتباطنا بأهلنا، فأنا مثلاً توفيت أمي وأختي وأخي ولم أكن إلى جانبهم".
ويشير محمود إلى أنه فكر أكثر من مرة في السابق في أن يعود للعيش في لبنان، لكنه قبل عشر سنوات حسم أمره بأن لا عودة، فلبنان مكان مناسب للزيارة وليس للاستقرار، ويضيف محمود: "ابني يعدّ ألمانيا بلده وليس لبنان، ويقول إن هذا البلد هو من سيحمله عندما يكبر وليس لبنان".
لا تغفل مريم الخشن مسألة العادات والتقاليد والخوف عليها، فهي نفسها قد أخذت بناتها الثلاثة إلى لبنان لفترة معيّنة، عندما أصبحن في عمر المراهقة "خوفاً عليهن" من الخروج عن التقاليد والأعراف التي لا يجدونها في ألمانيا
عقبات في وجه الاندماج
أزمة الاندماج، تعيدها بدورها مريم الخشن، التي التحقت بزوجها في ألمانيا في بداية تسعينيات القرن الماضي، إلى الظروف والقيود التي كانت مفروضةً من قبل الدولة الألمانية في ذلك الوقت، ونبذ المجتمع الألماني للأجانب بشكل عام، ولا سيما العرب منهم.
وتقول لرصيف22: "عندما جئت، أبلغت المكتب المخصص للأجانب برغبتي في تعلّم اللغة الألمانية، فكان ردهم أن هذا شأنك، يمكنك التعلّم، ولكن على حسابك الخاص، ووقتها لم تكن معاهد اللغة منتشرةً بالشكل الذي هي عليه اليوم، وكانت التكلفة مرتفعةً وليس بإمكان أي شخص تسديدها، ولذلك لم أذهب إلى المدرسة واستعضت عن ذلك بتعلم الألمانية من خلال التلفاز والناس من حولي".
وتشير مريم إلى أن اللبنانيين الذين أتوا في الثمانينيات لم تكن الدولة تسألهم ما إذا كانوا يعملون أو لا، فإذا كانوا بلا عمل يأخذون مساعدات، كما لم تطلب منهم تعلم اللغة، حتى أنهم حصلوا على الجنسية من دون شهادة اللغة. تقول مريم: "الدولة كانت تقدم لهؤلاء كل شيء وهم في منازلهم، فلماذا سيُتعبون أنفسهم؟ الدولة هي من عوّدتهم على أن يكونوا عالةً عليها".
وترى مريم أن هناك فرقاً كبيراً اليوم بين الظروف التي أتى بها اللبناني إلى ألمانيا، وتلك التي أتى بها السوري، وعن ذلك تقول: " قُدّم الكثير للأخير على صعيد تشجيعه على الاندماج، ونرى سوريين اليوم في مناصب مهمة في وقت قياسي، وما يعرفه السوري اليوم من قوانين مثلاً، أنا وكثيرون مثلي لا نعرفه على الرغم من أننا سبقناه بعقود إلى هذه الدولة".
ولا تغفل مريم مسألة العادات والتقاليد والخوف عليها، فهي نفسها قد أخذت بناتها الثلاثة إلى لبنان لفترة معيّنة، عندما أصبحن في عمر المراهقة "خوفاً عليهن" من الخروج عن التقاليد والأعراف التي لا يجدونها في ألمانيا، كما أنها تؤكد على وجود العنصرية في ألمانيا، وبأنها تعايشها في تفاصيل حياتها اليومية، وتقول: "بعض الألمان يشعرونك بأنك غريبة، مهما كانت نسبة اندماجك، لدى بعضهم عنصرية وفوقية، خاصةً عندما يرونك مثلاً محجبةً أو لهجتك الألمانية تختلف عن لهجتهم".
"بعض الألمان يشعرونك بأنك غريبة، مهما كانت نسبة اندماجك"
وجه آخر للحكاية اللبنانية
على عكس محمود ومريم، فإن حبيب عيسى بات يعدّ ألمانيا بلده الأساسي. يقول لرصيف22، إنه كان يأتي بدايةً إلى ألمانيا للعمل كتاجر سيارات منذ عام 1975، ولكن في عام 1984 في إحدى زياراته السياحية إلى ألمانيا بصحبة عائلته، استعرت الحرب في لبنان أكثر، فقرر البقاء فيها.
ويشير حبيب إلى أنه عندما لجأ إلى الدولة الألمانية، تعاطفت معه، وأبدت السلطات رغبةً في مساعدته، ويتابع: "رفضتُ العيش على المساعدات وقلت لهم أنا لا أريد طعاماً، بل أريد عملاً. وهكذا حصلت على عمل، ثم اكتسبت مع أفراد عائلتي الجنسية، وكل شيء كان على أفضل حال".
ويرى حبيب أن كثيرين من اللبنانيين هم من رفضوا العمل، ولم يلجؤوا إلى الدولة بطريقة صحيحة، بل فضّلوا اتّباع الطرق الملتوية، فهناك اليوم أشخاص مضى على وجودهم في ألمانيا 30 و40 سنةً، ولا يتقنون الحد الأدنى من اللغة الألمانية للتواصل مع المجتمع الذي يعيشون فيه، ولا يريدون ذلك.
ويؤكد حبيب أنه يشعر بأنه ألماني، وبأن كل ما يحظى به المواطن الألماني من حقوق، يتمتع به هو أيضاً. لكنه لا ينفي كذلك وجود عاطفة لديه تجاه بلده وبلد أهله لبنان، غير أن لبنان مستبعد كلياً من خططه كبلد للاستقرار، في ظل الظروف التي يعيشها منذ الحرب الأهلية اللبنانية وحتى اليوم.
ويؤكد: "ربّيت أولادي على العادات الألمانية التي أراها غايةً في الرقي، ولكن بالطبع حافظت على مسألة الترابط الأسري، التي تبدو ضعيفةً في ألمانيا".
لا يمكن التقليل من التداعيات على أبناء العائلات اللبنانية الذين وُلدوا في ألمانيا وعاشوا فيها. إذ يعيش بعض هؤلاء في عالمين متوازيين؛ بين ما يريده الأهل وبين المجتمع الذي نشأوا فيه، وهو ما يحبس الأبناء في بعض الأحيان ضمن أفكار معلّبة لا تراعي حتى مسألة اختلاف الأجيال
عالمان متوازيان
لا يمكن التقليل من التداعيات على أبناء العائلات اللبنانية الذين وُلدوا في ألمانيا وعاشوا فيها. إذ يعيش بعض هؤلاء في عالمين متوازيين؛ بين ما يريده الأهل وبين المجتمع الذي نشأوا فيه، وهو ما يحبس الأبناء في بعض الأحيان ضمن أفكار معلّبة لا تراعي حتى مسألة اختلاف الأجيال، ما يعكس تشدداً لدى بعضهم ورفضاً للمجتمع المحيط بهم، أو تفلتاً من كل القيود حتى تلك التي يفرضها الألمان.
حسام (36 عاماً)، وصل إلى ألمانيا مع والديه عام 1986، وكان يبلغ حينها عاماً واحداً. يخبر رصيف22، عن فترة الضياع التي عاشها جراء اختلاف العادات داخل المنزل عن تلك التي خارجه. ويقول: "انتابتني الحيرة وتساءلت كيف يجب أن أعيش؟ فإذا عشت مثل الألمان أشعر بأن هناك أخطاءً في نمط الحياة، وإذا عشت على الطريقة اللبنانية في الثمانينيات، لا يمكنني أن أتطور هنا في ألمانيا".
وعن طريقة تنشئته أبناءه، يرفض حسام الطريقة المغلقة التي نشأ عليها، ويقول: "لا يمكنني أن أربّي أبنائي كما تربيت، فهذا الأمر سيبعدهم عني كما أبعدني سابقاً عن أهلي، كما أن الوقت يتغيّر وهذا ما لم تلتفت إليه أمي في أثناء تنشئتي".
وعلى الرغم من أن حسام نشأ في ألمانيا وهو متزوج من امرأة ألمانية، إلا أنه يتمنى أن يزوّج أبناءه من لبنان حصراً. ويقول: "لو أن الوضع في لبنان أفضل، فبالتأكيد ما بقيت دقيقةً في ألمانيا. فمع أنني عشت حياتي كلها هنا، لكنني أعرف أن هذا الشعب لا يعدّني منه".
"ابني يعدّ ألمانيا بلده وليس لبنان، ويقول إن هذا البلد هو من سيحمله عندما يكبر وليس لبنان".
وفي قصة مشابهة، ديانا (26 عاماً) التي وُلدت في ألمانيا لوالدين جاءا في أواخر الثمانينيات، تعيش "الضياع" نفسه، وهي تواجه صعوبات في تربية ابنها البالغ من العمر خمس سنوات، فهي على الرغم من تقبّلها للعادات الألمانية كافة، حسب تعبيرها، إلا أنها لا تريد لابنها أن يكتسبها وتقول: "لا أريد أن ينجرف ابني مع سلوكيات تنافي قيمنا".
وتحكي ديانا لرصيف22، عن الأزمة التي وجدت نفسها فيها يوم كانت خارجةً مع طفلها من محطة القطار، وسألها عن لافتة لرجلين يقبلان بعضهما. في تلك اللحظة فضّلت التهرب من الإجابة مع إقرارها بأن ذلك لا مفرّ منه لاحقاً.
أما رامي (27 عاماً)، فوجد نفسه عندما بلغ الـ18 من عمره متمرداً على كل ما حاول والده الملتزم دينياً، تنشئته عليه. لا بل قرر أن يقوم بكل شيء على نقيض الطريقة التي نشأ عليها، بعدما خرج من بيت أهله ليعيش بمفرده.
ويقول لرصيف22: "مع تقديري اليوم لموقف والديّ، وظنهما بأنهما يتصرفان لمصلحتي، إلا أنه على أهلنا الانفتاح واعتماد التوازن، والكف عن جعلنا ضحايا لأفكار وطرق تربوية انتهت صلاحيتها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...