يُعرف رجل الدين المسيحي من فراجيته "جلبابه" الأسود وعمامته ذات اللون نفسه. ملابسه المميزة، التي يظهر بها سواءً في الأعياد أو الشوارع العامة، لم تكن هكذا من قبل، إذ مرّ الزي الديني المسيحي بمراحل عدة إلى أن وصل إلى شكله الحالي.
وبقدر ما يحمل الزي الكهنوتي من دلالات روحية أو دينية، فهو يحمل أيضاً إرثاً من التشدد الممارس من قبل الدولة والحكام في عصور الخلافة منذ "الفتح الإسلامي".
الحال نفسه ينطبق على الزي الخاص بـ"أهل الذمة"، الوصف الذي أُطلق على المسيحيين واليهود في عصور الخلافة، إذ لم يكن مسموحاً بارتدائهم أزياء تشبه ما يرتديه المسلمون، بل كان يتم ممارسة التمييز ضدهم، ووضع الكثير من القيود عبر لوائح وقواعد، تخص ملابسهم/نّ وتحركاتهم/نّ.
لا هدف من إعادة النظر في هذه التواريخ إلا المعرفة بداية، والنقد الذاتي لممارسات في تاريخنا لم تتسم بالعدل، والاعتراف بأننا خطونا مراحل كثيرة إلى أن وصلنا إلى هنا، حيث ندعو إلى المساواة لكل الناس دون أي تمييز.
في كتاب "تطور الملابس في المجتمع المصري... من الفتح الإسلامي حتى نهاية العصر الفاطمي" كتب مؤلفه، الدكتور محمد أحمد إبراهيم: "سياسة الدولة بشأن ملابس (أهل الذمة) تعكس طبيعة العلاقة بين عناصر المجتمع وبين الإدارة السياسية داخل هذا المجتمع، إذ امتد دور الدولة للقيام بدور توجيهي بشأن تحديد الملابس لبعض العناصر (أهل الذمة) داخل المجتمع الإسلامي، وذلك لتحقيق قدر كبير من التبعية والالتزام لهذه العناصر تجاه السلطة الحاكمة وأهدافها السياسية والاجتماعية".
"منذ الفتح الإسلامي لمصر كانت السلطات السياسية تستهدف التمييز بين المواطنين من خلال ما يرتديه الأفراد، والتحكم في ملابسهم وإضفاء الهوية الإسلامية على المجتمع الجديد من خلال ما يرتديه، عناصره وطبقاته، ويتجلى ذلك من استعراض تطور ملابس أهل الذمة والأوامر والتعليمات التي صدرت لهم في هذا الشأن".
يعزوا مؤرخون اهتمام الحكام المسلمين بأزياء "أهل الذمة"، سواءً لاعتبارات سياسية أو تفسيرات دينية، إلى بعض الأحاديث النبوية، مثل: "من تشبه بقوم فهو منهم"، أو من خلال ما نقل عن الخليفة عمر بن الخطاب: "لا يمشين نصراني إلا مفروق الناصية ولا يلبس قباء (ثوب يلبس فوق الثياب)، ولا يمشين إلا بزنار (حزام يُشد على الوسط) من جلد، ولا يلبس طيلسان (كساء يضعه المشايخ على الكتف) ولا يلبس سراويل ذات خدمة، ولا يلبس نعلاً ذا علامة".
نعيد قراءة تواريخنا الشائكة حبًا بالمعرفة وفضولاً بداية، ورغبة ملحّة بالنقد الذاتي لممارسات لم تتسم بالعدل، وبهدف إيجابي أيضًا هو الاعتراف بأننا خطونا مراحل كثيرة حتى وصلنا إلى هنا، حيث ندعو إلى المساواة لكل الناس دون أي تمييز
كما جاء في مخطوط ابن زبر القاضي، "شروط النصارى": "ولا يتشبهوا بالمسلمين في لباسهم، ولا في هيئتهم، ولا في سروجهم، ولا نقش خواتيمهم".
وقيل إن الخليفة الأموي الثامن عمر بن عبد العزيز، الذي تتغنّى كتب التاريخ الإسلامي بعدله، حين رأى عدم التزام أهل الذمة في تطبيق الشروط السابقة، طلب من ولاة مصر منع أهل الذمة من لبس العمائم والطيالس والأقبية والنعال العربية، وأن يكون زنّارهم فوق ثيابهم غير مخفي، بحسب كتاب "تطور الملابس…".
الشروط أيضاً طالت الألوان، ولم تقتصر على طبيعة الملبس فقط، إذ كان المسلمون لا يرتدون الألوان الفاتحة بكثرة، بينما كان على "أهل الذمة" ارتداء ألوان واضحة، كالأصفر والأزرق والأخضر.
ورغم هذه القيود، أظهر الكثير من اليهود والمسيحيين فخامة في الزي المتاح لهم، الأمر الذي رفضه الخليفة المتوكل على الله (836- 861)، وأصدر أمراً بإلزام أهل الذمة بشروط الملابس المفروضة عليهم من قبل، وزاد عليهم بعض التعليمات، مثل: ارتداء طيلسان باللون العسلي، وشد الزنانير، وعمل رقعتين على لباس الرجال، تخالفان لون الثوب بمقدار 4 أصابع لكل رقعة، ولكل منها لون مختلف عن الآخر.
وبالنسبة للنساء، فُرض على المسيحيات واليهوديات ارتداء إزار (ثوب يلف به الجزء السفلي من الجسد) بلون مميز مثل العسلي، ولا يركبن الخيول (وهو محظور على الرجال كذلك)، بل الحمير والبغال فقط.
في كل هذه العصور كانت ملابس رجال الدين المسيحي على الأرجح كالعامة، ينصاعون للأوامر نفسها، ويرتدون ما يرتديه المسيحيون.
يشيع الناس أن الأقباط اختاروا اللون الأسود حزناً على دخول الإسلام، وما تذكره كتب التاريخ أن هذا اللون فُرِض قسراً على أزياء مسيحيي مصر
حتى جاء عهد الخليفة الحاكم بأمر الله (996- 1020)، الذي اتسم باختلاف في أسلوب حكمه، تزامن مع المزيد من التشدد في التمييز بين المواطنين أو "الرعية"، وبلغت رغبته في التفرقة بين المسلمين و"أهل الذمة" أشدها، لأسباب سياسية نتركها لمقام آخر.
ويذكر أنه في عام 395هـ. قُرئ سجل في جوامع القاهرة بأن يرتدي النصارى واليهود "الغيار"، ويشدوا الزنار، وكان الغيار باللون الأسود، الذي يعزوه بعض المؤرخين إلى لون الأعداء العباسيين، فأراد الخليفة بذلك تشبيههم بالعدو، وإنزالهم منزلة العصاة، وتقييدهم بألوان الخصوم، كما ذكر كتاب "الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية".
وزاد على ما سبق بأن ألزم اليهود بحمل القرامي (إشارة إلى رأس العجل الذي قدسه اليهود في الماضي)، من الخشب، ويكون ظاهراً فوق ثيابهم، وألا يمشي واحد منهم إلا باللون الأسود (الغيار) والعمائم السوداء.
كما منعهم من الخيل ولبس الخواتم في يدهم اليمنى، أو لبس العمائم البيضاء، وتم منع النساء من "أهل الذمة" من ارتداء النعال العربية واقتصار أحذيتهن على "السرموزة"، وهو حذاء قصير يشبه الخف، على أن يكون واحداً باللون الأحمر والآخر بالأسود، وفق ما ذكره كتاب "أهل الذمة في الإسلام".
أما في عهد الظاهر لإعزاز دين الله 1020-1035، اقتصر عهده على لبس الزنار والعمائم السود، وخفف من الغيار.
ومع مرور الزمن، ارتاح رجال الدين المسيحي للون الأسود كونه يحمل رمزية الوقار، والتزموا بارتداء اللون الأبيض في المناسبات والصلوات داخل الكنيسة.
ثم عاد التشدد بعد فترة هدوء نسبي مرة أخرى في عهد الخلفاء: الحافظ لدين الله، والفائز بنصر الله، والعاضد لدين الله. أعاد جميعهم التمييز بالزي مرة أخرى، وزاد الأخير بأن يميز النصارى برفع طرف عمائمهم، وأن يجعل اليهود خرقة صفراء على عمائمهم ليتميزوا بها عن النصارى.
أغطية الرأس والقمصان
كانت معظم أغطية الرأس لدى أهل الذمة تقتضي لا ذوائب لها من الخلف، لتخالف عمائم المسلمين، الملك الصالح بن رزيك على سبيل المثال أمر بألا تُرى ذوائب على عمائم غير المسلمين، للتفرقة بينهم بسهولة.
وأظهرت إحدى لوحات المتحف القبطي، قمصان القبط في العهود الإسلامية الأولى، التي تميزت بشريطين ملونين ينسدلان من أعلى الكتفين في الأمام والخلف، أما بالنسبة للألوان، فكان اللونان، الأخضر والرمادي الفاتح، سائدين في قمصانهم، كما ذكرت الباحثة ثريا نصر في كتاب "تاريخ الأزياء".
ونقش الكثير من الأقباط صور قديسين وزخارف على أشكال نباتات وحيوانات، زينوا بها قمصانهم.
أما المآزر فقد اتسمت بالاتساع، خاصة في العصر الفاطمي، إذ ألزم الحاكم بأمر الله النصارى أن يلبسوا المآزر الفسيحة، وأن تكون الصلبان من حديد بطول ذراع، فأقاموا على ذلك مدة حتى أعادهم لما كانوا عليه، كما ذكر المقريزي في كتاب "بدائع الزهور في وقائع الدهور".
النساء المسيحيات ارتدين في ذلك الزمن أزياء في مجملها تشبه أقرانهن المسلمات واليهوديات، مع بعض الاختلافات، والتزمن بالشروط التي قيدت بها ملابس "أهل الذمة"، فارتدت اليهوديات الأصفر، والنصرانيات غلب على أزيائهن اللون الأزرق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...