شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عرفت من

عرفت من "الأحمر" ألواناً كثيرةً، ومن العشّاق "شمسة وحسن"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 14 فبراير 202207:30 م

أيّة مصادفة جعلت الأحمر رمزه الأشهر؟ هناك في كل مكان سيل جارف من الدباديب الحمر، والشموع الحمر، والقلوب الحمر، والورد الأحمر الصناعي منه والحقيقي، والقلوب المخترقة برمح يحمل حرفين، تلك التي لا يخلو منها دفتر مدرسي أو جدار في الأحياء الفقيرة، وعادةً ما تكون نازفةً لقطرات الدم.

في كل الأساطير، وفي كل الحضارات، ثمة آلهة متخصصة في الحب والعشق والشهوة والخصب، ولم يصلنا أي تلميح عما إذا كانت هذه الآلهة ترتدي ستراتٍ أو شالاتٍ حمراء. ليس لأفروديت أو فينوس أو عشتار أو اللات أو إنانا أو كوني ولا إيروس أو كيوبيد ولا لإساف ونائلة، أية صور ملونة. حتى حين تصلنا معلومة وحيدة تخص الأحمر، عن إله الحب الصيني "يو لاو"، الذي يربط شخصين معاً بخيط أحمر، لسبب ما يكون الخيط غير مرئي، وعادةً ما ارتبطت آلهة الحب بالحرب والخراب، كما ارتبطت بالجنس، وهل من حب بعيداً عن الجنس والشهوة؟!

ثمة دراسات نفسية تميل إلى عدّ "الحب العذري " نوعاً من المرض النفسي، وليس هناك أي دليل يؤكد أن جميل لم يشتهِ بثينة، وثمة دراسات ترجع هذه الظاهرة، أي "الحب العذري"، إلى اسم القبيلة "عذرة"!

في كل الأساطير، وفي كل الحضارات، ثمة آلهة متخصصة في الحب والعشق والشهوة والخصب، ولم يصلنا أي تلميح عما إذا كانت هذه الآلهة ترتدي ستراتٍ أو شالاتٍ حمراء. ليس لأفروديت أو فينوس أو عشتار أو اللات أو إنانا أو كوني ولا إيروس أو كيوبيد ولا لإساف ونائلة، أية صور ملونة

غريب هذا التفسير، وغير مقنع. ألم يكن ثمة عشاق وعلاقات عاطفية في بقية القبائل؟! كذلك فسّرت دراسات اجتماعية نفسية أن المشكلة كانت تكمن في الضوابط الاجتماعية لتلك المرحلة، مثل الحياء والكتمان، إذ يخسر الحبيب حبيبته إن صرّح بهذا العشق. أتخيل ليلى العامرية بوشاح أسود، يلف عنقها شال أحمر، وتقف مسدلةً يديها وبعنق مائل مثل زهرة، وتقول بحرقة: "باح مجنون عامر بهواه... وكتمتُ الهوى فمتُّ بوجدي... فإذا كان في القيامة نودي... من قتيل الهوى تقدّمت وحدي".

وصلنا عن القديس فالنتاين ذو الرداء الأحمر، أنه ذلك الرجل الطيب الذي ساعد العشاق، وكان راعياً لهم، فدفع حياته ثمناً لهذا... الأحمر لون الفرح والطاقة، والبكاء، والقلق، والخوف، والظلم، والإثارة، والجريمة، والمجزرة، والشعوب، والقهر، ورايات الثورات، والحب؛ أيكون العشق كل هذا دفعةً واحدةً؟

الأحمر لون الخوف القديم: لون الغدر والخيانة، ولون الجرائم التي تُرتكب بهدوء وطبيعية ومن ثمّ تصبح منسيّةً...

ماذا يفعل الأحمر بيننا كل هذا الوقت؟! يشرب ويأكل ويضحك وينام ويصحو ويتمدد على الكنبة. هذا اللون الصارخ... المتمرد... المتوفر... الصامت كقاتل، والمبهج كطفل يركض، دائم الحضور.

قل لي: "أحمر"، أستحضرُ الظلم الفاجر! الظلم الأشهر في التاريخ، كما سأتذكر مارلون براندو حين رفض جائزة الأوسكار وأرسل ممثلّةً صبيّةً تنتمي بأصولها إلى الهنود الحمر، لتقرأ رسالته إلى المشاهير المجتمعين في الحفل، ويوضّح السبب على شكل احتجاج ناعم ومؤثّر على جريمة الغرب تجاه الهنود الحمر. الصبيّة ترتدي الزيّ الشهير، وعلى رأسها ريش ملوّن، وشعرها مضفور بجديلتين متروكتين، تقرأ بهدوء وثقة كأنّها غزالة نائمة في قفص الكرة الأرضيّة.

الأحمر لون القلق: أتذكّر جوقة المنتظرين عند باب خالتي التي كانت عروساً قبل دقائق، يعضّون على أصابعهم، وينظرون إلى بعضهم بطريقة من يسند الآخر، ثم فجأةً تقترب امرأة عجوز وتدقّ باباً اختفت خلفه خالتي العروس قبل دقائق، وبعد ثوانٍ ظننتها ساعات، أنا الطّفل الذي لا يراه أحد، امتدت يد بشعة من عتمة الداخل معلّقة فيها خرقة بيضاء ملطّخة بالدّم!

وقعتُ مغشيّاً عليّ بعد أن صرخت بين زغاريدهم الوقحة التي لم أفهمها: ذبحها الوحش! ذبحها المجرم! لماذا تضحكون؟ ذبحها! ألم أقل لكم منذ البداية إنه بشع وكريه بينما هي زهرة عبّاد شمس.

الأحمر لون الخوف القديم: لون الغدر والخيانة، ولون الجرائم التي تُرتكب بهدوء وطبيعية ومن ثمّ تصبح منسيّةً... كنّا صغاراً وكان أبي كلّ عام يشتري لنا خروفاً صغيراً يصبح صديقنا في المروج الحلوة، ويكبر مثلنا سنةً كاملةً، ونتشقلب معاً على العشب ونختبئ خلف الأشجار ثم نعود منهكين في الليل. نحن فحسب من ينام في الفراش بعد حمام دافئ، بينما هو يبقى عند العتبة مربوطاً بحبل لا معنى له، إذ كنّا نعتقد جازمين أنّه لن يهرب، ولا يمكن أن يغدر بصداقتنا الحلوة. يكبر معنا سنةً كاملةً، ثم وبكلّ هدوء وطبيعية في صباح يوم محدد على الروزنامة البشرية يقف أبي بعد أن يشرب قهوته، ويمسك السّكينة ذات النصل الطويل (تلك التي قضى سهرة البارحة يسنّها)، ويبتسم لنا ولأمّي ابتسامةً حلوةً، ثم يسحب صديقنا الذي كبر معنا سنةً كاملةً، ويبطحه في مدخل البيت، ويتمتم بكلام تتبيّن منه مفردة الله فحسب، وينحني ويحزّ عنقه بكلّ بساطة وسهولة، ثم يبتسم لنا ولأمّي الفرحة، فيصير صديقنا الدم القاني، الدم الدافئ، الدم الذي ستشطفه أمي لتنظف الأرضية ومدخل البيت.

الأحمر لون الرعب: لون تلك اللحظة التي جاء فيها رجال خشنون وأجلاف، رجال يصفعون كل شيء، ودخلوا من دون أن يطرقوا الباب (كما علّمتنا الآنسة سهى في المدرسة). دخلوا من دون أن يقولوا: "صباح الخير!"، وتوجّهوا إلى غرفة أخي الكبير، واقتادوه بينما يفتلون يده إلى الخلف بطريقة تجعله ينحني حتى ركبتيه ويصرخ من الألم في كل خطوة. لم يسمعوا الأسئلة المتكررة من أبي، ولا بكاء أمّي وصوت ارتطام يديها على رأسها وأردافها، حتى ظنناهم، نحن الصغار، غزاةً من الفضاء. كان أحدهم ينبش المكتبة وينتقي منها الكتب ذات الغلاف الأحمر ويرميها في كيس متسخ من الخيش.

الأحمر لون الفرح: لم أكن أعلم أن هناك يوماً اسمه عيد العشّاق، أنا ابن قرية صغيرة لا تعرف إلا عاشقَين اثنين بالاسم: شمسة وحسن.

شمسة ملهمة البنات المنتظرات ليصرن صبايا، بينما حسن يخصّنا نحن الذكور الذين يتحسسون أعضاءهم كل صباح ويحلقون الزغب الجديد في عانتهم.

لم نكن نعرف أنّ هناك عيداً للعشاق، وكنّا نظنّ أنّ لهم فقط شتائم تقولها الأمّهات حين يفتضح لقاء حسن وشمسة عند المغيب، إلى أن دخلتُ الجامعة، وقالت لي: "هابي فالنتاين!"، بصوت يشبه شعر شمسة، ولون عينيها

لم نكن نعرف أنّ هناك عيداً للعشاق، وكنّا نظنّ أنّ لهم فقط شتائم تقولها الأمّهات حين يفتضح لقاء حسن وشمسة عند المغيب، إلى أن دخلتُ الجامعة، وقالت لي: "هابي فالنتاين!"، بصوت يشبه شعر شمسة، ولون عينيها. لم أفهم العبارة حتى شرحت لي التفاصيل كاملةً، ثم مالت إلي بغنج شهي، وابتسمتْ بخبث لذيذ، وقالت بعد أن فكّت زرّ قميصها: "ليك... حتى لبستلك سوتيان أحمر!".

أيكون الحبّ والعشق كلّ هذا دفعةً واحدة؟!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard