أقرّ مجلس الوزراء اللبناني، الخميس الماضي، مشروع قانون موازنة عام 2022، وقرر إحالتها الى المجلس النيابي، ووصل العجز إلى 17 بالمئة، وزيادة في أسعار السلع بين 3 و5 بالمئة. وشهدت الموازنة إقرار بعض المساعدات الاجتماعية مقابل زيادة ضرائبية واسعة تطال كافة شرائح المجتمع بالتساوي.
يتفاعل هذا القرار داخلياً ببطء، بالرغم من مضاعفتها للضرائب والرسوم على معظم السلع والخدمات، وهي أعباء تضاف على كاهل المواطنين اللبنانيين، في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة تعصف بالبلاد منذ عامين.
وكان لافتاً قول رئيس الحكومة نجييب ميقاتي، في رد على سؤال حول الكهرباء، "ما بقى نقدر نعطي كهربا ببلاش واتصالات ببلاش، لأن ما بقى في مصاري. وإذا قال المواطن أموالي بالمصارف نقول له معك حق، بس بدنا نتحمل بعضنا كلنا سوا".
يرى الكاتب الاقتصادي محمد زبيب أن "الموازنة يفترض أن تكون سلاح المالية العامة للتدخل من أجل إعادة بناء الاقتصاد وحماية المجتمع وإنقاذه، لكن الموازنة المطروحة تعكس قراراً لدى السلطة بالاستمرار بعملية رفع اليد، عبر التنكر لدور الدولة، وهذا بحد ذاته يعكس تدخلاً ينحاز لحماية مصالح الطبقة السياسية الاقتصادية الحاكمة، مع تدفيع المواطنين ثمن الانهيار".
ويمر فهم الموازنة المطروحة، عبر أربعة محاور هي الإطار العام لسياسة الدولة في التعاطي مع الأزمة القائمة، والإيرادات والنفقات وخطة الدولة لمعالجة عجزها عن تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين، كالكهرباء والنقل العام والتعليم والسكن والتغطية الصحية، وهو محور غائب.
صنف البنك الدولي أزمة لبنان الاقتصادية من الأسوأ في العالم خلال آخر قرنين من الزمن، بحيث دفعت بـ82% من اللبنانيين إلى فقر متعدد الأبعاد.
يرى زبيب في حديث لرصيف22 أن "المواد القانونية الموجودة في الموازنة، لا تشير إلى وجود نية بتصحيح السياسات المالية، بل الاستمرار في ذات السياسات السابقة التي راكمت الدين العام وأدت إلى الانهيار". وبلغ إجمالي الدين 183% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021 بحسب المرصد الاقتصادي للبنك الدولي، وهي نسبة تجاوزتها فقط اليابان والسودان واليونان.
وصنف البنك الدولي أزمة لبنان الاقتصادية من الأسوأ في العالم خلال آخر قرنين من الزمن، بحيث دفعت بـ82% من اللبنانيين إلى فقر متعدد الأبعاد وفق آخر تقارير الإسكوا.
يؤكد الكاتب الاقتصادي أن مصادر الإيرادات التي تضمنتها الموازنة، يتم تأمينها عبر ضرائب ورسوم تحصل من جيوب الجميع بالتساوي، بدل الذهاب نحو الضريبة التصاعدية وفرض الضريبة على الأرباح وعلى الثروة.
وفي باب النفقات، يلاحظ زبيب أن حصة الصحة والتعليم في نفقات الموازنة لم ترتفع سوى بنسبة 50%، في وقت باتت كلفة التعليم والطبابة تستوفى بما يناسب سعر صرف الدولار في السوق، والذي ارتفع 15 ضعفاً في عامين، "ما يعني تخلي الحكومة عن أكثر من 75% من المغطيين صحياً وليترك هؤلاء لمصيرهم".
ميزانية في سياق انتخابي
يرى حسن سنو، عضو المكتب السياسي في الحزب الديمقراطي الاجتماعي "لنا"، أن المشكلة ليست فقط في تفاصيل الموازنة وأرقامها، بل في غياب الرؤية لدى السلطة الحاكمة، "التي كتبت الموازنة برؤية 'محاسبجية' بدل أن تضعها وفق رؤية اقتصادية واضحة وبعيدة المدى".
ويعتبر أن رفع الضرائب والرسوم بهذا الشكل "لا يمكن فهمه إلا من باب أن هذه السلطة التي فرغت خزينتها بفعل الأزمة، تريد ملأها اليوم من جيوب اللبنانيين لتوظيفها انتخابياً وتعزيز فرصها في الانتخابات المقبلة".
ويتجه لبنان نحو انتخابات برلمانية في أيار/مايو المقبل، تتنافس فيها أحزاب السلطة التقليدية، وأحزاب معارضة، ومجموعات نشأت بعد ثورة 17 تشرين في عام 2019، إضافة إلى قوى وتنظيمات من المجتمع المدني.
يوضح سنو لرصيف22 أن أحزاب السلطة تعتمد على استغلال خدمات الدولة بمنطق زبائني قبل كل انتخابات، "من خلال تقديم خدمات هي حقوق، كبعض الصيانات للبنى التحتية والخدمات المناطقية، وهو ما تسعى من خلاله هذه الأحزاب إلى رفع الرصيد الانتخابي لمرشحيها".
ظهر المنطق الزبائني فاقعاً في الموازنة في بند النفقات الذي تضمن تقديم مبالغ مالية لفترة سنة واحدة لموظفي الدولة، لضبط هذه الفئة الكبيرة من الموظفين التي تضخم حجمها بفعل التوظيف المبني على الولاء السياسي للزعيم
ويعتبر أن "المنطق الزبائني ظهر فاقعاً في الموازنة في بند النفقات الذي تضمن تقديم مبالغ مالية لفترة سنة واحدة لموظفي الدولة، تحت عنوان مساعدات اجتماعية لضبط هذه الفئة الكبيرة من الموظفين التي تضخم حجمها عبر سنوات بفعل التوظيف المبني على الولاء السياسي للزعيم، واليوم يتم تمنينها بهذه التقديمات التي لا تؤمن حياة كريمة لها".
ورغم ضرورة إعادة هيكلة رواتب الموظفين في القطاعين العام والخاص بعد أن تبخرت قدرتها الشرائية بفعل التضخم غير المسبوق، فإن السلطة اللبنانية "تلفق موازنة لمصالح سياسية وانتخابية قصيرة المدى، سيكون انعكاسها على المجتمع وعلى الاقتصاد كارثياً وتدميرياً لمرحلة مقبلة".
بطاقة تمويلية "حزبيية"
وضمن بند النفقات، تضمنت الموازنة صرف مبلغ 400 مليار ليرة لتمويل البطاقة التمويلية، وهي مساعدة مادية تعد بها السلطة منذ بداية العام الماضي كتعويض عن وقف دعم المواد الأساسية، لكن الأحزاب المعارضة تخشى استغلالها لإعادة شراء الولاء السياسي اليوم، خصوصاً مع طول الحديث عنها خلال العامين الماضيين وصولاً إلى طرحها على أبواب الانتخابات.
يقول سنو إن المساعدات النقدية قد يكون لها آثار إيجابية على الأشخاص الذين يعيشون حالات فقر وعوز، إن وصلت إلى مستحقيها دون الوقوع في شبكات المحسوبية والزبائنية القائمة، "لكنها تبقى قاصرة عن تأمين الحاجات الغذائية لهم بشكل كاف، فضلاً عن عجزها عن تأمين الرعاية الصحية فما بالك بالتعليم الذي هو أساس تمكينهم من الخروج من الفقر في مرحلة لاحقة".
بحسب اليونيسيف فإن الأزمة اللبنانية دفعت 40% من الشبان إلى تخفيض الإنفاق على التعليم وانقطع 30% منهم عن التعليم كلياً.
وبحسب اليونيسيف فإن الأزمة اللبنانية دفعت 40% من الشبان إلى تخفيض الإنفاق على التعليم وانقطع 30% منهم عن التعليم كلياً.
يؤكد سنو أن التحويلات النقدية لا يمكن أن تؤدي إلى تحسين رفاهية الناس بشكل مباشر "لكنها أداة انتخابية في يد السلطة وستغذي حتماً جيوب المصارف التجارية وشبكة المستفيدين من سياسيين وأزلام من خلال التلاعب بسعر الصرف المعتمد".
ويرى أن إنقاذ المجتمع من الفقر والعوز لا يتحقق اليوم إلا من خلال الرؤية الاقتصادية الشاملة "التي تضع المجتمع في أولوياتها وتبدأ من خلال تطبيق نظام التعليم المجاني الإلزامي والتغطية الصحية الشاملة ووضع برنامج الدخل الشامل لتغطية احتياجات العائلات، للاستمرار خلال الفترة الانتقالية، وبالتالي منح المواطن الأمان الكافي وتخفيف الأعباء عنه، فيتمكن من صرف أمواله على الاستهلاك وتنشيط الاقتصاد".
ويتراوح تقدير مثل هذه الخطة بحسب سنو بين 1.2 و2 مليار دولار أمريكي، "بينما بلغ حجم الإنفاق على دعم السلع سنوياً 6 مليارات دولار ذهبت لصالح كارتيلات التجار المرتبطة بالطبقة السياسية قبل أن يتم وقفه لاحقاً بعد استنزاف احتياطي الدولارات".
استمرار تذويب الودائع
يرى البنك الدولي في أحدث تقرير له أن كساد الاقتصاد اللبناني من تدبير قيادات النخبة في البلاد، ومنذ بدء الأزمة الاقتصادية في لبنان، تعتمد السلطة اللبنانية سياسة اقتصادية تبدو في اتجاه متسق مع موازنة اليوم، حيث شرعت بطبع الليرة اللبنانية بشكل كبير ما أدى إلى تضخم هائل، وقالت وكالة "بلومبيرغ" في أيلول/ستمبر الماضي إن معدل التضخم السنوي في لبنان ارتفع إلى أعلى معدل في جميع البلدان التي تتابعها الشبكة، متجاوزاً زيمبابوي وفنزويلا.
وبلغت الكتلة المالية المتداولة في الاقتصاد اللبناني نهاية الشهر الماضي 45 ألف مليار ليرة بعد أن كانت بحدود 17 ألف مليار ليرة فقط عام 2019، ويتم هذا الطبع بدون غطاء من الذهب أو العملات الصعبة، ما يترجم انهياراً في قيمة الليرة من 1515 ليرة عام 2019 إلى نحو 21000 ليرة اليوم مقابل كل دولار.
بلغت الكتلة المالية المتداولة في الاقتصاد اللبناني نهاية الشهر الماضي 45 ألف مليار ليرة بعد أن كانت بحدود 17 ألف مليار ليرة فقط عام 2019
وفيما تم تهريب 9.5 مليار دولار أمريكي منذ ظهور بوادر الأزمة عام 2019 حتى أيلول/سبتمبر 2021، بحسب وكالة التصنيف العالمية موديز، هي أموال كبار المودعين من سياسيين واقتصاديين، تفرض المصارف التجارية قيوداً صارمة على سحب المودعين العاديين لأموالهم منذ أواخر العام نفسه، ويفرض مصرف لبنان سحبها بالليرة وفق سعر صرف لا يتعدى 33% من السعر الحقيقي للدولار في السوق، "في إمعان بسرقة مدخراتنا وكذلك تعويضات الموظفين وأموال الصناديق النقابية"، وفق نزار غانم، عضو رابطة المودعين اللبنانيين.
ويقول غانم في حديث لرصيف22 إن السياسيين اللبنانيين ليسوا جديين في معالجة الأزمة أو إعادة الحقوق لأصحابها، مؤكداً أن "الاستمرار في تذويب الودائع المتوسطة والصغيرة يزيد الفوارق في تركز الثروة داخل المجتمع، ويقضي على الطبقة الوسطى التي عادة ما تستثمر أموالها في الاقتصاد الوطني، وتعد الأكثر استهلاكاً فيه، ووحدها قادرة على تنشيطه".
إغضاب الزعيم مكلف
في مقابل هذا الواقع المستمر، يبدو أثر المعارضة متواضعاً في التأثير على هذه السياسات، يشرح أدهم الحسنية من تنظيم "لحقي" أن الحكومة الحالية "تعتبر حكومة حزب الله وهو الطرف الأقوى فيها، وبالتالي فإن خصوم حزب الله من القوى التقليدية مرتاحون لموازنة تزيد الضرائب والرسوم على حساب الناس، فيما نحن على أبواب الانتخابات، ما من شانه رفع الأسهم الانتخابية لهذه القوى، وهذا ما يفسر صمت القوات اللبنانية مثلاً على إمرارها".
المعارضة التغييرية من أحزاب وتنظيمات غير قادرة على حشد التظاهرات اليوم، بعد أن تم ترهيب الناس، فمن يجرؤ على التظاهر في مناطق قوى الأمر الواقع؟
في المقابل، يشرح الحسنية لرصيف22 أن المعارضة التغييرية من أحزاب وتنظيمات "غير قادرة على حشد التظاهرات اليوم، بعد أن تم ترهيب الناس، متسائلاً: من يجرؤ على التظاهر في مناطق قوى الأمر الواقع؟".
ويضيف أن التظاهر والعمل السياسي يصبحان ترفاً وامتيازاً بالنسبة للمواطنين بينما هم منهمكون بتأمين حاجاتهم الحياتية، "فحينما تكون مشغولاً بالبحث عن لقمة عيش أبنائك، أنت بحاجة للزعيم كي يحن عليك بعطية، وغضبه يصبح مكلفاً بالنسبة لك"، ويتابع العضو في "لحقي" بأن الاحتشاد في الساحات "يحتاج إلى أن يؤمن الناس بنتيجة التظاهر وأنهم قادرون على التغيير من خلاله".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...