شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
ماذا لو عاد

ماذا لو عاد "أبو سمير" إلى الحياة اليوم وشاهد الجميع يلتقطون "سيلفي"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 21 فبراير 202210:51 ص

الإنسان حيوان مصوِّر. لم يخطر في بال التفاصيل والمشاهد والكائنات والمواقف، يوماً، أن هذا المشاغب سيقبض عليها متلبّسةً في الضوء، ثم يُدخلها إلى حجرة معتمة، ومثل ساحر متمرس يرشها بالكيمياء، ثم يعلّقها لتجفّ في العتمة، فتصير حبيسة الورق المقوّى.

الإنسان حيوان مصوِّر.

في أحد تعريفات التصوير، وآلية عمل الكاميرا، يقال مصطلح جميل كأنه عبارة هاربة من مقطع شعري: "حبس الضوء"، أو "الرسم بالضوء"، "فوتو" تعني الضوء، و"غرافيك" تعني رسم. تخيّل كم هي جميلة هذه العملية: أنت تمسك الضوء، وترسم به.

تثبيت أي جسم أو كائن من خلال الضوء والإشعاع، على مادة حساسة، لنحصل على النيغاتيف، وتعالَج لاحقاً لتثبيت الشكل، كل هذا شرطه الظلام كي لا يفسد. هناك حيث الأصابع تعمل بدقة عالية، وذكاء، وخبرة تحفظ المواقع والمسافات، كأنها يد كفيف، "غرفة التظهير" التي استثمرتها السينما والفيديو كليب على نطاق واسع، على الرغم من أن عصر "تحميض أفلام الكاميرات"، وتظهيرها، قد ذهب تقريباً.

لطالما خطر ببالي "سكيتش" قصير يظهر فيه "أبو سمير" المصور الجوال في اللاذقية، الذي كان يجوب الأحياء الفقيرة، ويذهب إلى الكورنيش البحري حاملاً في عنقه كاميراه "الزينت"، ليلتقط للناس صوراً بمقابل مادي بسيط. كان هذا في ثمانينيات القرن الماضي. ماذا لو رجع أبو سمير إلى الحياة الآن، ونزل إلى الكورنيش ليقوم بعمله المعتاد؟ أيّة صدمة ستصيبه؟ وما هي شكل ملامحه حين يُفاجأ بأن الجميع يمسك كاميرا بيده، ويصوّر كل شيء؟

في أحد تعريفات التصوير، وآلية عمل الكاميرا، يقال مصطلح جميل كأنه عبارة هاربة من مقطع شعري: "حبس الضوء"، أو "الرسم بالضوء"، "فوتو" تعني الضوء، و"غرافيك" تعني رسم. تخيّل كم هي جميلة هذه العملية: أنت تمسك الضوء، وترسم به

أتذكر الوصل الذي كان يسلمني إياه محل إستديو التصوير، بعد أن أعطيه فيلم الكاميرا (36 أو 24 كانت أشهر الماركات "كوداك وفوجي")، لأعود بعد أسبوع لاستلام الصور، وأبدأ بتقليبها والتدقيق في تفاصيل كل واحدة منها بهدوء وحماسة. أنت في هذه العملية تدخل مقامرةً غير محسوبة، ولا مضمونة النتائج، إذ من الطبيعي أن تفشل غالبية الصور، إما بسبب اهتزاز اليد لحظة التقاطها، أو بسبب عدم التركيز الكافي، أو بسبب حركة غير محببة في ملامح الوجه، أو غيرها من الأسباب التي انتفت تماماً في هذا العصر، إذ إن الإستديو كله صار مجرد تطبيق في جهازك الخليوي؛ كانت صدمةً حقيقيةً حين اكتشفنا أن جارنا يملك كاميرا فوريةً، ما أن يلتقط حتى تلفظ الآلة كارتاً سميكاً هو الصورة. لاحقاً صارت الكاميرات بأنواعها المتعددة والغريبة، وحتى بكرات الأفلام، مجرد أنتيكا يمكن عرضها ضمن مقتنيات نوستالجيا الأدوات في المحالّ أو في البيوت.

طُبعت أول صورة فوتوغرافية عام 1827، إذ استطاع العالم الفرنسي، جوزيف نيسيفور، بعد تجارب عدة، الحصول على أول صورة فوتوغرافية. احتاج نيسيفور إلى ما بين ثماني وعشر ساعات من التعرّض للشمس، لأخذ الصورة، وقد قام "جاك داجير"، وهو عالم فرنسي آخر، بابتكار عملية يستخدم فيها اللوحات النحاسية لالتقاط الصور، وسريعاً ما أصبحت الوسائط "الدجرية"، الوسط الفوتوغرافي المفضل لتصوير الأشخاص والأجسام الأخرى. كانت تجارب ونجاحات نيسيفور وداجير مرحلةً لاحقةً ومتقدمةً لتجارب من سبقوهم، مثل جون هرشيل، وتوماس ويدجدوود، ويمكننا أن نرجع إلى الخلف في الزمن وصولاً إلى ابن الهيثم (945م-1040م)، إذ يُعتَقَد أن فكرة الغرفة المظلمة قد بدأت ضمن تجاربه في البصريات. هذا عرض سريع للإرهاصات الأولى في فكرة التصوير وأدواته؛ ثم لاحقاً استمر هذا الفن مرحلةً طويلةً بالأبيض والأسود، إلى أن انتقل ما بين عامي 1869و1907، إلى التصوير الملّون، وبقيت الكاميرات الميكانيكية الحركة حتى عام 1975، حين أطلقت مختبرات شركة كوداك العالمية أول كاميرا تصوير فوتوغرافي رقمية، فكان أن أدّى هذا الاختراع إلى تطور سريع للتصوير. ثمّة الآن محاولات للعودة إلى مرحلة الأفلام.

كانت للتصوير وتطوراته وانتشاره على نطاق واسع جداً -إذ أصبح في متناول الجميع- عواقب اجتماعية ونفسية عديدة.

كانت للتصوير وتطوراته وانتشاره على نطاق واسع جداً -إذ أصبح في متناول الجميع- عواقب اجتماعية ونفسية عديدة، لسنا هنا في صدد تناول هذه الإشكالية، واستعراض ما ناقشه علماء الاجتماع والنفس والفلاسفة، ولا يتّسع المقال لتناول فلسفة الصورة وعلاقتها بالواقع، على الرغم من جاذبية ما قدّمه بعض المفكرين وأهميته. كثر من ناقشوا إشكالية الصورة وفلسفتها، وعلى رأسهم جان بودريار (1929-2007)، الذي تلقف مصطلحاً مهماً ومعبّراً عن رمزية الصورة في عالم الإعلام والسياسة خصوصاً، ومقدرتها. فحسب تعبير بول كلوديل: العين تسمع، بل ربما أكثر "العين تلمس"، كما يقول جاك فونتاني. تلقّف بودريار تعبير "الواقع الفائق"، وعدّه "أُس" بحوثه ودراساته حول الصورة كرمز وسلطة، الواقع الفائق بمعنى المبالغة التي ليست موجودةً في الحقيقة تماماً، لتصير بذلك الصورة هي الحقيقة التي يُفرض على جمهور المستهلكين تقليدها والاشتغال على واقعهم لينطبق عليها تماماً، كنمط مثالي، ما نلاحظه في ملايين الأمثلة اليومية وأشهرها عمليات التجميل وبرامج التعديل والفوتوشوب وغيرها، حيث تُحاكم/ تُقارَن تلقائياً صورنا بصور العارضين المعدلة رقمياً التي لا تطابقها حتى أجساد العارضين الأصلية. ولا حاجة هنا إلى بيان أضرار ذاك الضغط النفسي على حياة مئات الملايين حول العالم.

مهما يكن، فإن الصورة تمسك التاريخ من عنقه... على الرغم من أنها أشهر أداة للتضليل، لكنها تقع بتلقائية في فخ التوثيق، بحيث لا يستطيع التاريخ أن ينكر وحشيته في الحروب، وفي أزمنة الدكتاتورية. مثال على ذلك، صورة الولد الذي يحمل على ظهره أخاه الميت عقب التفجير النووي في هيروشيما ونكازاكي، أو صورة البنت الفيتنامية الهاربة بهلع، عاريةً على أحد الطرقات، وما فعلت صورة الطفل الكردي إيلان مرمياً على رمل الشاطئ، أو صورة الطفل الحلبي عمران الجالس على كرسي بعد أن أُنقذ من تحت الأنقاض، أو صورة المحامي العجوز الناجي من قصف لمدينة الرقة، أو صورة الجنود الواقفين كنسق بصمت مهيب منتظرين إعدامهم من قِبَل تنظيم داعش في مشفى الكندي في حلب، وصور التعذيب الوحشي في السجون، وغيرها الآلاف من الصور للسوريين في كل مكان، هذه الصور التي تحتبس الحقيقة كما احتبست الضوء.

ربما التصوير مسألة أهم من الخلق، إذ إن الله يخلق ويترك مخلوقاته للفناء، بينما الصورة يتم حفظها... تلاعب لذيذ في معضلة الخلود. ها هم الأموات يسكنون جدران بيوتنا معلّقين في قلب إطارات مذهّبة

"المصوّر" أيضاً من أسماء الله. يحمل هذا الاسم معنى التكوين من عدم. إنه الخلق، وهذا لا يتعارض مع التصوير الذي يمارسه الناس، إنه كذلك نوع من الخلق على الرغم مما يشاع عن أنه مجرد نسخ، أو كما يقول أفلاطون "تشويه المشوّه"، عادّاً أن الواقع ما هو إلا نسخة مشوّهة عن عالم المثل الذي يمثّل الحقيقة. ربما التصوير مسألة أهم من الخلق، إذ إن الله يخلق ويترك مخلوقاته للفناء، بينما الصورة يتم حفظها... تلاعب لذيذ في معضلة الخلود. ها هم الأموات يسكنون جدران بيوتنا معلّقين في قلب إطارات مذهّبة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard