"ثم من ألطف ما تلاحظه بالشام النواظر، وتقرّ به العين ويروق الخاطر، خانات القهوة، فإن بها لكل شجن سلوة، فقد جمعت معاني الظرافة، وأشرقت بمجامع اللطافة، فحوت من السقاة كل غصن تشتاق من ورده قطافه".
هذا ما قاله الرحالة ابراهيم الخياري في وصف تلك الأماكن الجديدة التي سميت بـ"بيوت القهوة"، والتي لم يعهدها من قبل أثناء رحلاته وزياراته في سائر البلدان.
فالقهوة، تلك النبتة الذي تم اكتشافها في أثيوبيا في بدايات القرن الخامس عشر، وانتقلت من اليمن ثم عبر الحجاز إلى دمشق، تميزت بتاريخ ثقافي لا يمكن أن نجده في الشاي أو المتّة أو غيرها من المشروبات الأخرى. ربما كانت طبيعة المشروب والهيئة التي كان يشرب فيها وراء هذا الاختلاف الواسع في الموقف من القهوة، والجدال الكبير الذي حصل بسببها، والذي قسّم الفقهاء بين مؤيد ومعارض لشربها خلال عدّة قرون من الزمن. فالقهوة أصبحت قضية عثمانية وإسلامية عامة، وليست قضية محلية تقتصر على مدينة دمشق وحدها.
عندما وصل أمر شربها إلى السلطات العثمانية، بدأت الفتاوى تصدر من هناك لتحريمها، ثم فتاوى أخرى لتحليل شربها، واستمرّ الأمر هكذا لوقت طويل. لم تكتف السلطات العثمانية بتحريم شرب القهوة فقط، بل أمرت بإغلاق المقاهي وحرقها، وفي فترة حكم السلطان مراد، صدرت فتاوى بإعدام كل من يشربها.
كانت طبيعة القهوة والهيئة التي كان تشرب فيها وراء الاختلاف الواسع والجدال الكبير الذي حصل بسببها، والذي قسّم الفقهاء بين مؤيد ومعارض لشربها خلال عدّة قرون من الزمن
لم يكن للقهوة أن تمرّ بما مرّت به من جدال التحليل والتحريم لو أن الذين اهتدوا إلى هذه النبتة منحوها اسماً غير الاسم الذي منحوها إياه، فالقهوة في اللغة العربية، كما جاء في القاموس المحيط ولسان العرب، هي اسم من أسماء الخمر. يروي لنا الأديب والمؤرخ الدمشقي، ابن طولون، أول معلومة عن شرب القهوة في دمشق، بمناسبة زيارة قاضي مكة ابن الضياء سنة 1534م. لدمشق، ويؤكد قائلاً: "القهوة المتخذة من البن، ولا أعلم أنها شربت في بلدنا قبل ذلك".
قهوة المناخلية قرب قلعة دمشق
مؤسسة اجتماعية جديدة
عندما خطر للدمشقيين في ذلك الوقت الاستفادة من الطلب المتزايد على شرب القهوة، قاموا ببيع هذا المشروب في الأماكن العامة، خارج خصوصية المنزل، وبعيداً عن سيطرة المؤسسة الدينية المتمثلة بالمسجد آنذاك. لم يخطر ببالهم أيضاً أنهم مقدمون على خلق مؤسسة اجتماعية جديدة، ستحدث مع الوقت تغييراً جوهرياً في البنية الاجتماعية والعمرانية لمدينة دمشق.
القهوة في اللغة العربية، كما جاء في القاموس المحيط ولسان العرب، هي اسم من أسماء الخمر
ظهور القهوة وطقوس شربها بالمقاهي لم يخلق صراعاً مع السلطة الدينية فحسب، وإنما مع السلطة السياسية أيضاً. فالاجتماعات في المقاهي خلقت أجواء جديدة، سهّلت الحديث عن الأوضاع السياسية والاجتماعية، عن غلاء الأسعار، وعن مظالم الحكام وفسادهم، كما خلقت أجواء مناسبة للتآمر على الدولة ورموزها. لذلك نجد أن إغلاق المقاهي وتحريم القهوة لم يكن دائماً بدافع ديني شرعي، ولو أنه، ظاهرياً على الأقل، كان استخدام الأدلة الشريعة كذريعة لتحقيق غرض سياسي وهو بالنهاية منع التجمعات وتكبيل الحريات العامة.
ساهمت المقاهي في صهر الفوارق الطبقية في المجتمع الدمشقي. هنا يجلس الأغنياء والفقراء، الأعيان والعامة، بالإضافة إلى الأديان التي بدأت تختلط في هذا المكان، بعيداً عن الأماكن الدينية.
صورة للرحالة الإنكليزي ويليام هنري بارتلت الذي زار دمشق في مطلع القرن السابع عشر، يصور انتشار المقاهي على نهر بردى وشرب القهوة والتتن
أول مقهى في العالم
ذكر العديد من المؤرخين في القرن السادس عشر وجود المقاهي بكثرة في دمشق، وهناك إشارة واضحة لدى المؤرخ نجم الدين الغزي، تفيد بوجود "بيت للقهوة" في محلة السويقة بدمشق، قام بفتحه وبيع القهوة فيه الشيخ محمد اليتيم قبل سنة 1568م. هذا ما جعل دمشق سباقة بافتتاح أول مقهى في العالم، قبل افتتاحها بإسطنبول بما يقارب الخمسين عاماً، وقبل وصولها إلى أوروبا في القرن السابع عشر.
كما يكشف كتاب البديري الحلاق "حوادث دمشق اليومية" عن قيام الوالي درويش باشا ببناء "بيت للقهوة" في جوار السوق الذي أنشأه سنة1572م بدمشق قرب الجامع الأموي، وذلك في إطار وقفه الضخم الذي اشتمل على حمام وقيسارية وجامع. ويشير المصدر السابق أن هناك مكاناً معدّاً لطبخ القهوة في سوق السباهية أو سوق الأورام الذي أضيف سنة 1574م إلى الوقف الضخم الذي أنشأه الوالي أحمد شمسي باشا خلال وجوده في دمشق.
وتدل وثيقة حصلت عليها من "مركز الوثائق العثمانية بدمشق" تحمل تاريخ العام 1596م على أن والي دمشق سنان باشا أوقف ثلاثة مقاهٍ على منشآت دينية. والمهم في هذه الوقفية أنها تحدد موقع بيت القهوة الأول في سوق العمارة والذي لايزال موجوداً في دمشق، والثاني في سوق السنانية، بينما أنشأ الثالث في خان عيون التجار، الذي كانت تقصده القوافل لأهميته التجارية لأنه كان يفترق منه الطريق القادم من دمشق إلى اتجاهين: القدس جنوباً، ومصر غرباً.
الرحالة الفرنسي جان تيفينو
حانات جديدة أبهرت المستشرقين
جذبت مقاهي دمشق بجميع مقوماتها الرحالة العرب والمستشرقين ليكتبوا عنها، فوصفوها بتفاصيلها وكتبوا عن روّادها وأحوالهم، وكانت كتاباتهم المرجع الوحيد الذي تبقى لنا لنتعرف على المقاهي في القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر، إلى أن ظهر اختراع التصوير الضوئي الذي أخذ مكاناً هاماً في توثيق المدينة عمرانياً.
ظهور القهوة لم يخلق صراعاً مع السلطة الدينية فحسب، وإنما مع السلطة السياسية أيضاً. فالاجتماعات في المقاهي خلقت أجواء جديدة، سهّلت الحديث عن الأوضاع السياسية والاجتماعية، عن غلاء الأسعار، وعن مظالم الحكام، كما خلقت أجواء مناسبة للتآمر على الدولة ورموزها
لعل أقدم نص يصف المقاهي في مدينة دمشق، كتبه الرحالة الفرنسي جان دي تيفينو، الذي زار المدينة عام 1664م، والذي لاحظ أن المقاهي كانت مزدهرة ومنتشرة بأعداد كبيرة، فيقول: "كل مقاهي دمشق جميلة وتتميز بوفرة في المياه، لكن أجمل المقاهي تجدها في الضواحي، أي خارج سور المدينة القديم، وبينها مقهى السنانية ويطلق عليه اسم (القهوة الكبرى) لاتساع مساحته، ويزيد من رونقه ذلك العدد الكبير من النوافير الدافقة في بحراتها الكبيرة، ولكن قد تفوقها بالأناقة تلك القهوة التي بقرب باب سرايا، هذا لوجود جدول يجري بأحد جوانبها، كما أن بها أشجاراً على طول امتدادها، وفي ظلالها ترى الرواد جالسين على المساطب يستمتعون بالنسائم المنعشة وبمرأى الجدول الجاري تحتهم".
كما ورد في نص الرحّالة والشاعر الفرنسي، لامارتين، الذي زار دمشق عام 1833م، بأن الآغوات كانوا يذهبون إلى المقاهي القائمة على ضفاف الأنهار التي تخترق المدينة المظللة بأشجار الحور الجميلة، وهناك يدخنون ويتبادلون الأحاديث مع أصدقائهم. وذكر أيضاً أن المقاهي تشكل وسيلة التواصل الوحيدة المتوافرة لسكان دمشق باستثناء المسجد، وهناك تطبخ في الخفاء تقريباً الثورات المتكررة التي تسفك دماء أبناء العاصمة.
اليوم، وبعد أن أصبح المقهى عنصراً أساسياً من النسيج العمراني المألوف للمدينة الحديثة، لا يخطر على بال أحد عند الجلوس في المقاهي لاحتساء القهوة أن لهذه الحالة الاجتماعية الطبيعية والمألوفة تاريخاً طويلاً وحافلاً. كما لا يخطر لهم مرارة المعاناة الاجتماعية التي صاحبت تطور هذه الظاهرة الجديدة في المدن العربية والعثمانية على مدى ثلاثة قرون من الزمن، قبل أن يتقبلها المجتمع كممارسة اجتماعية مألوفة ومطلوبة، ويخصص لها عنصراً عمرانياً أساسياً في المدينة.
كما خلقت المقاهي أضواء جديدة كانت تطفأ بالليل أو تشعل بالمناسبات الدينية والاجتماعية، خلقت حياة اجتماعية ليلية خاصة، أضاءت معها أسواق المدينة ومقاهيها لساعات متأخرة من الليل. فالمقهى ليس مكاناً لبيع واحتساء القهوة فقط، وإنما بحد ذاته فكرة اجتماعية جريئة، طريقة جديدة في الحياة، نمط مبتكر في العلاقات الاجتماعية؛ حالة اجتماعية غيّرت شكل المدينة، بل فلسفة اجتماعية إن صحّ التعبير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...