نافس مصطلح binge-watch والذي يعني "المشاهدة الشرهة"، كلمة "سيلفي" التي كانت شائعة بما فيه الكفاية ليتم إدراجها في النسخة الإلكترونية من قاموس أكسفورد، وفي العام 2013 تم الإعلان عن كلمة "سيلفي" باعتبارها كلمة العام من قبل القاموس الشهير.
وعلى الرغم من فوز كلمة "سيلفي" في نهاية المطاف، إلا أن إدراج "المشاهدة الشرهة" يشير إلى صعود ما أصبح نشاطاً شائعاً لفكرة مشاهدة حلقات متعددة من برنامج تلفزيوني أو مسلسل على منصة نتفليكس أو HBO مثلاً في جلسة واحدة، فنسمع من يقول: "لن أنام قبل أن ينتهي المسلسل"، والآخر يردد: "أنهيت موسماً كاملاً في يوم واحد".
ولكن هل يمكن أن تصبح المشاهدة الشرهة إشكالية أو تسبب الإدمان؟ وكيف يمكن السيطرة على أنفسنا لعدم الوقوع في هذه الظاهرة؟
المشاهدة الشرهة في تزايد
في وقتنا الحاضر، أصبح الملايين من الناس يستهلكون بانتظام المسلسلات والبرامج التلفزيونية، وقد سهل ذلك من انتشار خدمات البث على مدار السنوات الأخيرة.
وقد أظهرت الأبحاث، أنه أثناء فترة الإغلاق بسبب جائحة كورونا، قضى الكثير من الأفراد وقتاً أطول في المشاهدة الشرهة أكثر من المعتاد، واللافت أن بعض الناس كانوا يشاهدون موسماً كاملاً لمسلسلهم المفضل في غضون يوم أو يومين فقط.
وفقاً للتعريف الذي قدمته منصة نتفليكس في العام 2013، فإن المشاهدة المفرطة هي ظاهرة مشاهدة حلقتين على الأقل من مسلسل تلفزيوني خلال جلسة واحدة، معتبرة أن المشاهدة المفرطة ليست اتجاهاً أو سلوكاً ناشئاً، بل "إنها الاتجاه السائد والطبيعي الجديد".
أثناء فترة الإغلاق بسبب جائحة كورونا، قضى الكثير من الأفراد وقتاً أطول في المشاهدة الشرهة أكثر من المعتاد، واللافت أن بعض الناس كانوا يشاهدون موسماً كاملاً لمسلسلهم المفضل في غضون يوم أو يومين فقط
ويشير استطلاع نتفليكس إلى أن غالبية الأشخاص يعرّفون المشاهدة الشرهة على أنها "مشاهدة ما بين 2-6 حلقات من نفس البرنامج التلفزيوني في جلسة واحدة"، وكشف 61% من المشاركين في الاستطلاع أنهم يقومون بهذه العادة بانتظام.
ولكن في الواقع، لا يتم تحديد إشكالية المشاهدة الشرهة من خلال عدد الحلقات التي تمت مشاهدتها (على الرغم من أن معظم الباحثين يتفقون على أنها عبارة عن حلقتين متتاليتين على الأقل)، أو بعدد محدد من الساعات التي يقضيها المرء أمام شاشة التلفزيون أو الكمبيوتر، بل يتعلق الأمر بعوامل أخرى يجب أخذها في الحسبان.
إدمان فعلي؟
على مدى سنوات عديدة من دراسة الإدمان، لاحظ مارك غريفيث، أستاذ الإدمان السلوكي في جامعة نوتنغهام ترينت، بأن جميع السلوكيات التي تسبب الإدمان تتكون من ستة مكوّنات أساسية، وبالنسبة للمشاهدة الشرهة، قد يعني ذلك:
- المشاهدة المفرطة هي أهم شيء في حياة الشخص.
- ينخرط الشخص في المشاهدة الشرهة كطريقة لتغيير مزاجه بشكل موثوق: ليشعر بتحسن على المدى القصير أو للهروب مؤقتاً من شيء سلبي في حياته (تعديل الحالة المزاجية).
- تعرض المشاهدة المفرطة للخطر الجوانب الرئيسية من حياة الشخص، مثل العلاقات والتعليم أو العمل (الصراع).
- زيادة عدد الساعات التي يقضيها الشخص في المشاهدة الشرهة كل يوم بشكل ملحوظ مع مرور الوقت (التسامح).
- يعاني الشخص من أعراض انسحاب نفسية و/أو فيزيولوجية إذا كان غير قادر على المشاهدة بنهم (انسحاب).
- إذا تمكن الشخص من التوقف مؤقتاً عن المشاهدة المفرطة، فعندما ينخرط في النشاط مرة أخرى، يعود مباشرة إلى الدورة التي كان عليها سابقاً (الانتكاس).
وعليه، اعتبر مارك أن أي شخص يستوفي هذه المكوّنات الستة هو مدمن حقاً على المشاهدة الشرهة.
مثل العديد من أنواع الإدمان السلوكي الأخرى، كإدمان الجنس أو العمل أو التمارين الرياضية، فإن إدمان المشاهدة المفرطة غير معترف به رسمياً في الكتب والمراجع النفسية، ليس هناك أيضاً تقديرات دقيقة لانتشار إشكالية المشاهدة الشرهة، لكن البحث في هذه الظاهرة آخذ في الازدياد.
في أحدث دراسة حول هذا الموضوع، أجرى فريق بحثي في بولندا مسحاً على 645 شاباً وصبية، أفادوا جميعاً أنهم شاهدوا حلقتين على الأقل من عرض واحد في جلسة واحدة. أراد الباحثون فهم بعض العوامل الكامنة وراء إشكالية المشاهدة الشرهة.
استخدم المؤلفون استبياناً طوروه في دراسة سابقة لتقييم إشكالية المشاهدة المفرطة بين المشاركين، وشملت الأسئلة: "كم مرة تهمل واجباتك لصالح مشاهدة المسلسلات؟"، "كم مرة تشعر بالحزن أو الغضب عندما لا يمكنك مشاهدة المسلسل التلفزيوني؟ وكم مرة تهمل نومك في مشاهدة المسلسلات بنهم؟".
كان على المشاركين تقديم إجابات على مقياس من ست نقاط يتراوح من واحد (أبداً) إلى ستة (دائماً). تم اعتبار النتيجة التي تزيد عن عتبة معيّنة مؤشراً على إشكالية المشاهدة المفرطة.
من خلال استخدام مجموعة من المقاييس الأخرى، وجد الباحثون أن صعوبات التحكم في الانفعالات، وعدم وجود سبق الإصرار (صعوبات في التخطيط وتقييم عواقب سلوك معيّن) والمراقبة للهروب ونسيان المشاكل، والمشاهدة لتجنب الشعور بالوحدة، كانت من بين أكثر العوامل الكامنة وراء المشاهدة الشرهة.
من خلال استخدام نفس البيانات، أفاد الباحثون في دراسة سابقة أن إشكالية المشاهدة الشرهة لها ارتباط كبير بمتلازمة القلق والاكتئاب، بمعنى آخر، كلما زادت أعراض القلق والاكتئاب، كلما زادت اشكالية المشاهدة المفرطة.
وفي السياق نفسه، وجدت دراسة أجريت على البالغين التايوانيين، أن المشاهدة الشرهة تنطوي على مشاكل مرتبطة بالاكتئاب والقلق بشأن التفاعل الاجتماعي والشعور بالوحدة، وقد أظهرت معظم الدراسات أن الهروب من الواقع هو الدافع الرئيسي للمشاهدة المفرطة.
كسر هذه العادة
كما هو الحال مع السلوكيات الأخرى التي تسبب الإدمان، فإن الأهم هو ما إذا كانت المشاهدة المفرطة لها تأثير سلبي على جوانب أخرى من حياة الشخص.
كشف الطبيب العام الدكتور بول ستيلمان أن المشاهدة الشرهة يمكن أن يكون لها تأثير حقيقي للغاية على هرموناتنا، والتي بدورها يمكن أن تؤثر على صحتنا النفسية: "يمكن أن تؤدي مشاهدة التلفزيون بنهم إلى ارتفاع ثم انخفاض كبير في المشاعر عندما ننتهي من المشاهدة".
يحدث ذلك بسبب إنتاج مواد كيميائية مثل الدوبامين التي يتم إطلاقها أثناء أي نشاط ممتع، ويشمل ذلك مشاهدة البرنامج التلفزيوني المفضل: "مجرد الانغماس في حياة الشخصيات وخطوط القصة والاهتمام بما يحدث في برنامج تلفزيوني يمكن أن يصبح إدماناً".
وأضاف أنه إذا كنّا نتخلى عن الأصدقاء والعائلة أو نلغي التفاعلات الاجتماعية لمشاهدة مسلسل ما، فقد يكون ذلك علامة على أننا أصبحنا معتمدين جداً على نشوة المشاهدة المفرطة، ومن العلامات الأخرى التي يجب الانتباه إليها تناول الوجبات الخفيفة بدلاً من طهي الوجبات وعدم النوم أيضاً.
"مجرد الانغماس في حياة الشخصيات وخطوط القصة والاهتمام بما يحدث في برنامج تلفزيوني يمكن أن يصبح إدماناً"
في حديثها مع رصيف22، أوضحت المعالجة النفسية والمساعدة الاجتماعية غنوة يونس، أن سهولة الوصول إلى المسلسلات والأفلام من خلال انتشار منصات عديدة مثل نتفليكس، عززت الوقوع في إدمان المشاهدة الشرهة، مشيرة إلى أن أزمة كورونا مع ما ترتب عنها من حجر منزلي فاقمت هذه الظاهرة.
وعن الآثار السلبية، كشفت يونس أن المشاهدة الشرهة قد تسبب الاكتئاب والقلق والعزلة بسبب انقطاع الشخص المعني عن العالم الخارجي: "ينصب كل تركيز المرء واهتمامه على المسلسل أو الفيلم الذي يتابعه"، منوهة بأن التشويق الذي يرافق عملية المشاهدة يجعل الجسم يفرز مادة الدوبامين والتي تعطيه إثارة داخلية، هذا بالإضافة إلى تأثر ساعات النوم، ما ينعكس على إنتاجية الفرد وعلى وظائفه الجسدية والنفسية.
وكتعويض عن الشعور بالندم الذي قد ينتابه، ينغمس الشخص مجدداً في مشاهدة الأفلام والمسلسلات، ما يجعله يدور في حلقة مفرغة.
وعليه، إذا كنتم من الأشخاص الذين يرغبون في تقليل عدد الحلقات التي تشاهدونها في جلسة واحدة، فإن القاعدة الذهبية هي التوقف عن المتابعة في منتصف الحلقة، بالإضافة إلى تنظيم وتحديد أوقات المشاهدة وذلك فقط بعد الانتهاء من مهام العمل والالتزامات الاجتماعية، مع ضرورة قضاء وقت الفراغ في ممارسة الرياضة أو الخروج برفقة الأصدقاء بدلاً من الجلوس وراء الشاشة لساعات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...