تشتدّ علينا ضغوط الحياة بسبب عملٍ لا نحبه أو جهدٍ نبذله فيه دون طائل، أو حلم لا يتحقق رغم طول السعي، ونجد أنفسنا فريسة لحالات الإحباط والحزن والألم، بسبب الفقد والوحدة وضياع الأمل والرغبة في الأشياء بعيدة المنال.
ونحاول البحث عن معنى، عن فكرة، عن شيء نتعلّق بأذياله للخروج من الهوّة المظلمة السحيقة، فنجد الملاذ في فيلمٍ يشتبك مع مشاعرنا ويتماهى مع مشاكلنا وحكاياتنا، أو يأخذنا إلى منطقةٍ أخرى يمكنها أن تفتح لنا رؤية جديدة لعالمٍ مختلف، وتعطي لمشاعرنا وأرواحنا براحاً أوسع تتحرك فيه بحرية أكبر.
"مشاهدة الأفلام هي ممارسة مزاجية في المقام الأول، فاختياراتنا للأفلام التي نشاهدها، سواء في دور العرض مع الأصدقاء أو وحدنا في البيت، تتأثر بشكلٍ كبيرٍ بالحالة المزاجية والشعورية التي نمرّ بها، يقول الناقد رامي عبد الرازق لرصيف22، "مشاهدة الافلام هي فعل حميمي خاص يحمل جانباً غريزياً يشبه تناول الطعام أو ممارسة الجنس، والأفعال الغريزية حتى لو كانت ملحّة في احتياج تلبيتها إلا إنها تحتوي على جانبٍ مزاجي لا يمكن إغفاله أبداً، بل أن خضوعها للجانب المزاجي يبدو أكبر من تأثرها بالاحتياج اللازم لممارستها من أجل البقاء أو الإشباع".
"مشاهدة الأفلام فعل حميمي خاص يشبه الأكل أو ممارسة الجنس"
وبسبب هذه المزاجية في اختيار نوعية الأفلام التي نشاهدها على سبيل الإلهاء عن مشاكل الحياة، لجأت العديد من المواقع المهتمة بالكتابة عن السينما بإعداد قوائم للأفلام تتبع الحالة الشعورية للمتلقي، فهذه قائمة بأفلام لا تشاهدها وأنت في مزاج سيئ، وتلك قائمة بأفلام تشاهدها حينما تشعر بالإحباط، وأخرى للمرح، حتى أن الأمر قد تطور لإنشاء تطبيقات للهاتف تختار لك الأفلام حسب حالتك المزاجية.
الملل والإحباط والمزاج السيئ
لا توجد قاعدة ثابتة لاختيار الأفلام التي نشاهدها حسب الحالة المزاجية، فهي تختلف من شخصٍ لآخر، هناك من يكون مزاجه سيئاً فيبحث عن فيلمٍ كوميدي خفيف، يشعره ببعض البهجة، وهناك من يحب الاستغراق في مشاعره فيبحث عن أفلامٍ أكثر كآبة، وآخر يبحث عن الأفلام التي تتماس مع تجربته الشخصية ليشعر أنه ليس وحيداً في هذا العالم.
تقول منى فهمي، في بداية الثلاثينيات مترجمة من مدينة بمحافظة الغربية في مصر، لرصيف22 أنَّ مشاهدتها للأفلام تخضع بشكلٍ أساسي لمزاجها الشخصي، فحينما تكون في حالةٍ مزاجيةٍ جيدة ورائقة البال تبحث عن فيلم كوميدي أو كوميدي رومانسي مثل (حينما التقى هاري بسالي) أو (العطلة)، وحينما تشعر بالكآبة وتكون في مزاجٍ سيء تلجأ لأفلام الدراما مثل (الطيب ويل هانتينغ)، وأحياناً كثيرة تصاب بالملل ولا تشعر بالرغبة في مشاهدة فيلم محدّد فتترك نفسها لريموت التلفاز، وحينها غالباً ما تنجذب لأفلام الإثارة والحركة مثل سلسلة (السريع والغاضب).
"في ليالٍ كثيرة تنتابني مشاعر الوحدة والفراغ والرغبة في مغادرة الواقع والوعي، حينها أبحث عن أفلام يمكن تلقيها دون أي مجهود ذهني، وبأقل مستوى من المشاعر أو التورط النفسي"
أما عبد الرازق فله قصة مختلفة حول تجربته في "المشاهدة المزاجية" للأفلام، يقول: "حينما أكون في حالةٍ مزاجيةٍ سيئة أو كئيبة يصبح الاختيار الأول بالنسبة لي هو مشاهدة فيلم خفيف، أكشن أو مغامرات فضائية أو فيلم كوميدي، وفي ليالٍ كثيرة تنتابني مشاعر الوحدة والفراغ والرغبة في مغادرة الواقع والوعي، حينها أبحث عن أسهل الأفلام التي يمكن تلقيها دون أي مجهود ذهني، وبأقل مستوى من المشاعر أو التورط النفسي".
وتشارك الشاعرة والروائية هدى عمران طريقة عبد الرازق في الاختيار فتقول "إذا كنتُ في مزاجٍ كئيب وشعرتُ بزخم شعوري صعب عليّ مشاهدة الأفلام التي لها ثقل نفسي، عادة في هذا التوقيت ألجأ لأفلام كوميدية أو لأفلام ذات طابع عاطفي، خاصة أفلام الجريمة لهيتشكوك وديفيد فينشر، فهي تساعد على تحسين مزاجي".
البعض قد تختلف خياراته في الحالة المزاجية الواحدة، يقول الروائي شريف ثابت لرصيف22 أنه أحياناً لا يشاهد الأفلام المُرهِقة شعورياً، أو التي تحتاج إلى تركيز كبير حينما يكون محبطاً أو مرهقاً، لكنه أحياناً أيضاً يلجأ لمثل هذه الأفلام حينما يكون مزاجه سيئاً حتى تسحبه من عالمه الواقعي إلى عالمها الافتراضي، وتشغله بأفكارها العميقة عما يحبطه، أما إذا كان في مزاج مرح، خاصة في الخروج واللهو مع الأصدقاء، يكون الفيلم الكوميدي هو أفضل اختيار.
مشاهدة تجاربنا الشخصية
بشكل عام تتأثر مشاعرنا وأمزجتنا بالأفلام التي نشاهدها سواء كانت مشاهدات هروبية أو للتسلية أو من أجل ممارسة متعة المشاهدة في حد ذاتها، ولولا ذلك ما قامت أنظمة ودول بصنع أفلام معينة من أجل توجيه مشاعر الجمهور نحو قضية يدعمونها، ولا ظهرت طريقة في الطب النفسي للعلاج عن طريق الأفلام (Movie Therapy)، وبالتالي ينطبق الأمر على المشاهدة المتعمدة لنوعية معينة من أجل تحسين المزاج أو معايشة حالة شعورية نحن بحاجة لها، أو بحاجة للهروب منها.
تتذكَّر منى تجربة مشاهدتها لفيلم (الطيب ويل هانتينج) الذي تماس مع تجربتها الحياتية بشكل ما، الأمر الذي جعلها تشعر بأنها ليست وحدها، وأن هناك من يشاركها أزماتها.
وعن تجربته مع الأفلام التي تأثر بها، وساهمت في تحسين مزاجه، يقول عبد الرازق: "مؤخراً عندما ينزرع جدار ما بيني وبين الكتابة خاصة على المستوى الشعوري، أو تنتابني مشاعر الإحباط نتيجة مجريات الأمور في الواقع المتردي لسوق العمل والإنتاج، أصبحت لا أمارس حيل المشاهدة الهروبية، بل صرت أبحث عن الأفلام المعجونة موضوعاتها بما يخص أهل المهنة أو المهنة نفسها".
"منحني الفيلم دفقة أمل في أن تتحسن علاقتي بالعالم عن طريق الكتابة"
ويضرب عبد الرازق مثلا بفيلم (ثائر في حقل الشوفان) والذي يحكي جانباً من حياة الكاتب الأمريكي الشهير جي دي سالينجر، يقول: "في الحقيقة فإن مزاجي العام وحالتي المرتبطة بالعمل والكتابة تحسَّنت كثيراً عقب مشاهدتي لهذا الفيلم، فقد منحني الفيلم دفقة أمل في أن تتحسن علاقتي بالعالم عن طريق الكتابة، حتى لو لم أتمكن من تحقيق كافة الأغراض المهنية منها".
مثلما استطاع فيلم أن يبعث أملاً جديداً في عبد الرازق ويصالحه مع مهنته وشغفه من جديد، كانت مشاهدة الأفلام أيضاً ملاذاً ومنقذا لشريف ثابت، روائي وكاتب مصري، من أزمته النفسية ومشكلاته الحياتية، واعتبر الفترة التي ينقطع فيها للمشاهدة هي فترة نقاهة يتخلّص فيها من أدران الحياة التي علقت به وأخلّت بسلامه النفسي، فقد مرَّ بظرفٍ قاسٍ اضطره لترك العمل منذ سنوات، وشعر حينها بإحباط شديد، وخلال تلك الفترة عاود مرة أخرى الذهاب إلى السينما ومشاهدة الأفلام بشكل منتظم، يقول "كانت هذه الفترة بمثابة فترة نقاهة واسترجاع للسلام العقلي والنفسي بعد سنوات من الشد والضغط، وكانت الأفلام بمثابة علاج من الإحباط، فارتبطت المشاهدة عندي بحالة النقاهة من الهموم والإحباطات والأزمات التي لا تنتهي".
خلال هذه الفترة أنشأ ثابت صفحة له على الفيسبوك أطلق عليها (أفلام فترة النقاهة)، وبدأ بنشر مراجعات منتظمة للأفلام التي يشاهدها، ثم أصدر بعضاً منها في كتاب يحمل ذات الاسم.
"هناك من يكون مزاجه سيئاً فيبحث عن فيلمٍ كوميدي خفيف، يشعره ببعض البهجة، وهناك من يحب الاستغراق في مشاعره فيبحث عن أفلامٍ أكثر كآبة، وآخر يبحث عن الأفلام التي تتماس مع تجربته الشخصية ليشعر أنه ليس وحيداً في هذا العالم"
رفقاء البهجة والألم
ويصل الأمر للبعض أن تتحول الأفلام لمكانة الأصدقاء، يقول رامي عبد الرازق: "في وقت من الأوقات كان لدي بالفعل أصدقاء من الأفلام، في العشرينيات كنت أعيد مشاهدة (ماذا تريد النساء) و(الأرق في سياتل) و(لديك بريد)، كنت أشعر أن الحياة يمكن أن تمنحنا ذات يوم ما قد يجعل واقعنا يشبه تلك الأفلام، وفي الثلاثينيات كنت أعيد مشاهدة مقاطع من "سيد الخواتم" خاصة، تلك المرتبطة بالسياقات الفكرية والفلسفية للفيلم وليس الجانب المبهر تقنياً، كنت أحب أيضاً مشاهدة الجزء الأول من "كابتن أمريكا" عندما أكون في الطائرة منتقلاً من بلد لبلد، كنت أشعر به مثل صديق السفر الذي يشبع بعض الوقت بثرثرةٍ لطيفة، مؤخراً لم يعد لدي الكثير من هؤلاء الأصدقاء الأفلام، صرت أبحث عن التأثيرات الإيجابية عبر الأفلام الجديدة التي لم يسبق لي مشاهدتها، ربما لشعوري أن الوقت في مثل هذا العمر أصبح أكثر ضيقاً من أن يحتمل لقاء الأصدقاء القدامى".
وتجد هدى عمران في أفلام مثل (التانغو الأخير في باريس) و(بعيداً عن أفريقيا) و(الأب الروحي) رفقاء لحالات الإحباط وتضارب المشاعر.
تساهم مشاهدة الأفلام في تحرير مشاعرنا المكبوتة سواء بالضحك أو البكاء، خاصة بالنسبة لهؤلاء الذين لا يمكنهم التعبير عما يعتمل في نفوسهم بسهولة، وتريح عقولنا من الانغماس في مشاكلنا اليومية وهمومها ولو لبعض الوقت، وكثيراً ما تزرع فينا نبتة أمل جديد، وتعقد الصلح بيننا وبين واقعنا الذي يدق عظامنا كل يوم، فبالنسبة لهؤلاء الذين يجدون سلواهم في مشاهدة فيلم يلمس شغاف قلبهم، إذا كان العالم بدون سينما كيف يمكن أن يكون؟!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...