هي من تلك الأشياء التي ما تزال صامدة رغم كل التغييرات التي طرأت على ثقافات البدو التونسيين، أذكارٌ ومفردها "ذِكْرٌ"، ولعلها في رابط مباشر بالذاكرة الجمْعية التي تعيش في هذه الأوقات "زهايمراً" عاماً، إلا من هذا الموروث الشفوي الذي يظل حاضراً حضور البداوة التونسية.
يُلتجأ إلى هذه الأذكار في مناسبات عديدة، ولعل أهمها ما يعرف لديهم بـ"الزردة" التي تقام حول الأضرحة وزوايا الأولياء الصالحين، وهي كلمة أمازيغية تطلق على يوم محدد من العام في فصل الربيع، كانت تخرج فيه العائلات إلى المروج الخضراء احتفالاً بانقضاء الشتاء الذي كان قاسياً، خصوصاً في المناطق الجبلية النائية.
الأذكار شكلاً
للأذكار التي تقام يوم الزردة خصائص عدة. فشكلياً يتم الأمر كالتالي: جلسة أرضية في شكل حلقة أو نصفها. بعض المكلفين بمسك الدفوف وتوقيعها متى اقتضى الإيقاع ذلك. بعض المكلفين بترديد لازمة تتكرر بعد كل مقطع. وذاكرٌ أو مذكرٌ يقود كل ما تقدم. طبعاً لا ينبغي أن ننسى كانون الجمر الذي تسخن عليه الدفوف حتى يظل جلدها متصلباً لا مرتخياً، وهو من شأنه أن يحدث الإيقاع المطلوب. أما في هامش حلقة "المذكرين"، فتجلس نسوة مكلفات بإطلاق زغاريد تشحن الأجواء بحماس متقد.
من الأشياء التي ما تزال صامدة رغم كل التغييرات التي طرأت على ثقافات البدو التونسيين، أذكارٌ ولعلها في رابط مباشر بالذاكرة الجمْعية التي تعيش في هذه الأوقات "زهايمراً" عاماً، إلا من هذا الموروث الشفوي الذي يظل حاضراً حضور البداوة التونسية
صوفية شعبية عفوية
هي صوفية شعبية وعفوية، تخاطب بآلياتها البسيطة الروح وأزماتها وأسئلتها وقلقها وحزنها أيضاً، قد تصل أحياناً إلى التطرف، فيبرز من بين الحاضرين "ملبوسٌ" يتحدث بلسان غريب، لغة غير مفهومة، يرقص رقصات أو يشطح شطحات قد تسيل دماءه أو تنتهي عادةً بإغماء حتمي، إغماء يتفهمه الجميع، ولعله ما يزيد "الشاطح" مرتبةً، فذلك دليل على صدقه ووفائه وورعه وصفاء روحه.
أبناء "وِلية" هم. هكذا يسمونهم. يأتون بما شاؤوا من أصوات وتصرفات. قد يزأرون مثل الأسود أو يبعبعون مثل الخرفان. قد يأكلون البلور إلى أن يكتفوا، يمشون على المسامير أو يغرزون إبراً من الخد الأيمن فتخرج من الأيسر، والذي يحول دون سيلان الدم أو الضرر هو مقدار الصدق لدى "ابن الولي أو ابنته"، فتمر هذه "المذبحة" دون نقطة دم واحدة، ويلتئم جرح غائر في لمح البصر.
أذكار الحزن والانصراف عن الحياة
تنتشر في هذه الأذكار الزهد والانصراف عن شؤون الحياة. يذكر فيها الذاكر بلا جدوى هذا اللهاث على الحياة الدنيا، فيصف القبر ويخاطبه. وما أكثر ما يخاطَب القبر في مثل هذه الأذكار، وما أكثر ما يتوسل إليه، مثل "ذكرة": "يا قبري بالله لا تردعْني"، حيث يقول:
"يا قبري بالله لا تردعْني/ جل علي الضيم وشجعني/ يا قبري بالله كون ونيسي/ وآنا جيتك ما تحشمنيشي [لا تحْبطني]"
يلتجئ التونسيون إلى الأذكار الموروثة في مناسبات عديدة، ولعل أهمها ما يعرف لديهم بـ"الزردة" التي تقام حول الأضرحة وزوايا الأولياء الصالحين
كما قد يخاطَب الواقف على القبر غداً: يا واقفاً على قبرنا.
ويخاطب أيضاً أي تفصيل في علاقة بالقبر، مثل الديدان المتربصة بالتهام أي قادم إلى باطن الأرض، أو ناكر ونكير اللذين يعدان أسئلة صعبةً تتطلب الاستعداد الجيد ورباطة الجأش، مثل اللحود أو الكفن.
ينتشر الموت في هذه الأذكار ويصل إلى حد الهوس أحياناً، وما ذلك سوى ترجمة واضحة لحالة من الرعب الذي يعيشه البدو من الفراغ والفناء. لذلك فقط يذكّر "الذاكر" الأحياء بالموت بأصوات حزينة وإيقاع مأتمي، قد تحيلنا أحيانا إلى مآتم الشيعة التي لا نستبعد تأثيراً مباشراً لها، فهذا المذهب انتشر في تونس طقوساً وثقافةً لمدة زمنية غير هينة في الحقبة الفاطمية، ولعل مخاطبة فاطمة الزهراء وعلي بن أبي طالب والحسن والحسين في هذه الأذكار، دليلٌ قوي على ذلك: "يا للا بنت الهادي، يا فاطمة يا زينة. نجينا من الصهادي [أي النار]". تخاطب خلالها فاطمة الزهراء مخاطبة تصل إلى تأليهها كدعوتها إلى "التنجية من النار!".
رأيت القبر بعيني!
يتضح إذن أن تسمية ذِكْر وأذكار تعود إلى الدعوة إلى تذكر الموت كمعنى أساسي، مثل الذكرة التي نوردها فيما يلي بكلماتها، وعنوانها: ريت [رأيت] القبر بعيني.
"يا قبري بالله لا تردعْني/ جل علي الضيم وشجعني/ يا قبري بالله كون ونيسي/ وآنا جيتك ما تحشمنيشي [لا تحْبطني]"
ريتْ القَبْر بعيني فيه العظم مْسَلْسِلْ/ غافل نعطيك وصية/ باري الفعل المرذل [بَارِي هنا التي ستكرر في المقطوعة تعني: تجنبْ/ ابتعد/ اجتنب...]
باري الفعل المذموم/ وقِم بالفرض المعلوم/ صل وزك وصوم/ الدنيا راهي ترحلْ/ الدنيا لا حال يدوم/ فين اللي سكنوها قبلْ؟
وين الناس اللي سكنوها؟/ ورحلوا منها وخلوها/ لا حد عليهم طلْ/ دخلوا قبورْ وسكنوها/ تراب عليهم منزلْ.
بارِي الدنيا اللعابة/ راهي ترجع بخيابة/ ما دامتش لسيدنا وأصحابَهْ/ وهو آخر الرسلْ/ دنيا راهي شقْلابة/ المر تردو عسلْ.
بَارِي الدنيا الخوانة/ ماهيشي دار أمان/ تزهى لبن آدم في زمانه/ إلا العبد العاقل/ في لخر يدي كتانة [قماشة]/ هذاكا اللي منها يحصلْ.
باري الفعل الخايب/ واقرى نهار اللي ادب [تذكر أنك سترحل يوما ما]/ عيالك تبكي، تنحِبْ/ انت عليهم راحلْ/ كونه تمشي زارب/ بعد العز ينذل.
ريت القبر وقيوده/ وفيها جثة ممدودة/ غطاء خمرة ولحوده [في إشارة للكفن]/ تراب عليه منزلْ/ كان حياتو مفقودة/ أولاده تبكي من الذل.
مات وخلى وليداته/ سكنْ القبر ولحداته/ سكن القبر وظلماته/ لا حد عليه طل/ الخ...
وهو تذكيرٌ متشابه في كل هذه الأذكار، فيمر عبر التذكير بالقدامى الذين لم يعد لهم وجود، بما في ذلك الأنبياء وأتباعهم المخلصون والأولياء، وحتى الذين عرفوا بصلابتهم، مثل الأبطال الشعبيين المنتشرين في قصص البدو التاريخية، ليصف تجربة العيش في "ظلمات القبر" وصفاً سيدل على الذعر الجماعي من حتمية الزوال.
قصص الأنبياء وملاحمهم
من ناحية أخرى، نجد استعادات عدة في هذه الأذكار لقصص الأنبياء، كما وردت في القرآن وغيره من الكتب الأخرى. من هذه الأمثلة قصة النبي يوسف الصديق:
يتم الالتجاء إلى هذا النوع أيضاً للتذكير بضرورة الاعتبار بالقصة، ففي قصة النبي يوسف، حيث غدر الإخوة كعبرة أساسية: "سبب القصة يا علامة/ السيد يوسف منم منامة [أي رأى حلماً]/ حداش نجمة يا علامة زيد معاهم القمرين/ بإذن الله جوا قدامه وخروا ليه ساجدين".
إنها ببساطة التجاء من البدوي البسيط لهذا الموروث الديني، كي يعوض عن نفسه ما يفتقده في حياته اليومية الحميمة. تروى قصص كثيرة في هذه الأذكار عن الأنبياء والأولياء، تفتتح جميعها بالصلاة والسلام على النبي، ثم الغرض من اعتماد هذه القصة أو تلك في الذكرة، يتوالى بعد ذلك سرد بديع للأحداث.
تتصف مجمل هذه الأذكار بالحزن العفوي. مؤلفها شعب بدوي يكابد قساوة ما حوله من طبيعة وبشر، ما زال تأثيرها عميقاً إلى اليوم، إلا أن تأثيرها في ماضي التونسيين كان أشد. وفي هذه الأذكار نلحظ سمة أساسية تتمثل في لا جدوى الحياة ولا قيمتها، تتجلى فيها صورة الإنسان غير راض عن نفسه، متشمت فيما يحدث من عذاب وما سيحدث له، مازوشية شعبية منصرفة، خلال هذه الأذكار، عن الحياة جملة وتفصيلاً.
لذلك التجأت إليها السياسة في مرحلة بناء الدولة بعد استقلالها، محولة الزعيم الحبيب بورقيبة إلى واحد من أولئك الأولياء السياسيين الصالحين الذين يمكن الاقتداء بهم. وكانت الأذكار تردد كل صباح، عبارة عن مدائح لصفات الزعيم وما عاش من أهوال وبطولات، منها الأغنية الشهيرة: "يا سيد الأسياد يا حبيبي بورقيبة الغالي". أذكارٌ سياسية حافظت على أسلوب الذكر البدوي مع بعض التغيير الطفيف، من أهمها الموسيقى المصاحبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 8 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت