"عراقي، وأفتخر!"
اختّطها أحدهم على جدار عتيق. قرأتها خلال زيارتي العاصمة الأردنية عمّان قبل سنوات. تخيّلت الصرير الذي أحدثه احتكاك الرأس المدبب بطلاء الحائط، وكم الإحباط والغضب الذي دفعه لتكريس الوقت والجهد لخدش جدار أصم بكلمات لا تعني الكثير، لكنها تستجيب لغريزة فخرنا، سهلة الاستثارة، مستحيلة الإشباع.
تمنيت لو أني شاهدت الكاتب وهو يحفر كلماته، تمنيت لو أني سألته عن أيّ عراق يتحدث، وما الذي يستدعي الفخر في انتمائه إليه. أغلب الظن أنّه فتى غضّ، سمع العبارة في مكان ما وراح يردّدها، دون أن يدرك أن "عراقنا" بحدوده التي نعرفها اليوم محض اختراع بريطاني، أبصر النور في العقد الثاني من القرن الماضي.
أرض الرافدين شهدت ولادة أولى الحضارات الإنسانية، لا شك في ذلك، لكن ساكنيها كانوا، في الجزء الأكبر من التأريخ، أقواماً لا تكاد نيران الحروب بينهم تنطفئ حتى تعود لتستعر من جديد، فكانت الغلبة لبابل على آشور حينا، ولآشور على بابل حينا، والهزيمة لهما معاً على يد غاز أجنبي في أحيان أخرى كثيرة.
ليس في العراق مكوّن واحد لم يُضطهد: الشيوعيون، الماسونيون، القوميون، الأكراد، التركمان، المسيحيون، الايزيديون، البهائيون، المسلمون من سنة وشيعة...
العراق الذي وصم الحجاج بن يوسف الثقفي أهله بـ "الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق"، في القرن الهجري الأول، ليس عراق القرن الحادي والعشرين الميلادي، ببغداده وموصله وبصرته وكركوكه وأربيله، لكن ذلك لا يعني أن تأريخنا المعاصر أفضل من سابقه، اذ دشّنت دولتنا الفتية عصرها بذبح آلاف الآثوريين في الشمال عام 1933، ثم امتد الاضطهاد ليشمل اليهود الذين قُتلوا ونُهبوا واغتُصبوا خلال أحداث "الفرهود" عام 1941.
دموية عراقنا المعاصر لم توفّر حتى مؤسّسيه من الهاشميين، فانقلبت الجموع الهائجة عليهم بفعل التحريض القومي الناصري، وقتلت أفراد الأسرة المالكة وقطّعتهم إرباً، ثم سحلت أشلاءهم في الشوارع والميادين في مشهد مريع، عام 1958.
ليس في العراق مكوّن واحد لم يُضطهد: الشيوعيون، الماسونيون، القوميون، الأكراد، التركمان، المسيحيون، الايزيديون، البهائيون، المسلمون من سنة وشيعة... إلخ. الجميع عانى من القمع والتنكيل في مرحلة ما، كلهم سُفِكت دماؤهم، لكن ماضينا ليس استثناء في مسيرة البشرية. نحن كسوانا من الشعوب، لسنا أسوأ ولا أفضل. كما أنّ الفخر فعل أحمق وفكر أجوف، كذلك هو استمتاع بعضنا بجلد الذات واللطم والعويل. كلا الأمرين في حقيقته هروب من مواجهة الواقع المرير.
دموية عراقنا المعاصر لم توفّر حتى مؤسّسيه من الهاشميين، فانقلبت الجموع الهائجة عليهم بفعل التحريض القومي الناصري، وقتلت أفراد الأسرة المالكة في مشهد مريع، عام 1958
الحاجة لإعادة قراءة التاريخ
ما نحتاجه الآن أكثر من أي وقت مضى أن نعيد قراءة تاريخنا بما فيه من سلبيات وإيجابيات، بهدوء وتجرّد، وأن نحدد المساوئ التي علينا أن ننبذها وآليات تحقيق ذلك، لكن هناك عقبات تقف في طريقنا إلى الخلاص، هي الفخر والكبرياء والعزّة بالإثم، فكلما تطرّق حديثي مع الأصدقاء إلى الوقائع الشنيعة في ماضينا، يكون رد الفعل الأول التبرّم ثم اللجوء إلى تبريرات مثل:
سكان قرية "حلبجة" الكردية التي تم ضربها بالأسلحة الكيمياوية تآمروا ضد الجيش العراقي خلال حربه مع إيران، وجرّوا بذلك على أنفسهم البلاء، أو أن الكويتيين خطّطوا لسرقة مواردنا الطبيعية وتحطيم اقتصادنا، أو أن يهود العراق مسؤولون عمّا حلّ بهم بسبب عمالتهم للبريطانيين والصهيونية العالمية، أو أن المسيحيين والأيزيديين استفزوا جيرانهم من المسلمين واضطروهم لمهاجمتهم، أو، أو، أو. دائماً هناك حجج لا تقل بشاعة عن الجرائم التي يُراد التعتيم عليها، بل نسيانها، وفي أفضل الأحوال، يكون التعليق بأننا لم نشارك في تلك المجازر، ولم نكن قد وُلِدنا عندما وقع بعضها، فبأيّ منطق نُحاسب على جريمة لم نرتكبها؟
كمعظم العراقيين، كان مجرد التفكير بالتقسيم يصيبني بالغثيان، لكن بعد كل ما حدث وما زال يحدث، اقتنعت أنه لو كان في تقسيم العراق حقناً للدماء، فليكن
صحيح، لكن معظم اليابانيين اليوم لم يكونوا قد وُلِدوا عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، وكذلك الألمان، ورغم ذلك، لا ينفي أي من الشعبين مسؤوليته عن الفظائع التي ارتُكِبت في تلك الفترة المظلمة من تاريخ البشرية، ولا يجد حرجاً في الاعتذار عنها، الأمر الذي مكّنهما من تجاوز الكبوة، الوقوف مجدّداً على أقدامهم وبناء دول حديثة ذات تعليم متقدّم واقتصاد مزدهر، والأهم من ذلك، تبنيهما قيماً إنسانية نبيلة، وتحوّلهما إلى نماذج يحتذى بها في الدعوة إلى السلام ونبذ العنصرية، ومسارعتهما إلى إرسال المعونات إلى الشعوب المنكوبة، واحتضان اللاجئين الفارّين من جحيم الحروب والعنف، ومنحهم صفة وحقوق المواطنين، كما فعلت ألمانيا مع مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إثر اندلاع الثورة ضد الحكم في بلدهم الأم عام 2011.
رفضنا الاعتراف بأخطائنا بسبب الفخر أو النكران أو تقديم مسوّغات دينية الصبغة لتبييض صفحات الطغاة، مثل "لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم" و"اذكروا محاسن موتاكم"، نتيجته أننا نبقى عالقين في دائرة مغلقة من التمييز والاضطهاد العرقي والديني والطائفي والفكري.
قد يبدو للبعض منا أنه بمأمن من شرور تلك الآفة، لكن العقود القليلة الماضية أثبتت أن الغالبية المسلمة في العراق قادرة على استهداف وتصفية مكوناتها هي الأخرى، والأمر لا يقتصر على حروب السنة مع الشيعة فقط، بل يتغلغل عميقاً ليشمل المواجهات الدامية المتكرّرة بين أفراد وجماعات كل طائفة ومذهب وفكر ضد بعضها البعض، وهو ما تعاني منه شعوب أخرى في الإقليم كاللبنانيين، وربما الفلسطينيين أيضاً، وسواهما.
خير لنا أن نكون جيراناً متوافقين متحابّين من أن نكون أبناء بيت واحد، لن يلبث أن يسقط على رؤوس ساكنيه بسبب الحروب التي لا تتوقف بين بعضهم البعض
كثرة من الشعوب العربية اليوم تقف أمام مفترق طرق يحتّم عليها الاختيار بين البقاء معا أو الافتراق. كمعظم العراقيين، كان مجرد التفكير بالتقسيم يصيبني بالغثيان، لكن بعد كل ما حدث وما زال يحدث، اقتنعت أنه لو كان في تقسيم العراق حقناً للدماء، فليكن. خير لنا أن نكون جيراناً متوافقين متحابّين من أن نكون أبناء بيت واحد، لن يلبث أن يسقط على رؤوس ساكنيه بسبب الحروب التي لا تتوقف بين بعضهم البعض.
حتى تتضح الصورة ويستقر القرار على الاستمرار معاً، أو الفراق، كعراقي مغترب يرى المشهد المريع عن بعد ويتمنى تغييره رغم قلة حيلته، كل ما بوسعي فعله أن أخط في ضميري وكتاباتي، عوضاً عن الجدران الصمّاء:
"أنا عراقي، وأعتذر!".
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ ساعةالمشكلة هي المجتمع واللغة انبثقت منه وتغذي هذا الفكر الذكوري. لن تتغير اللغة الا إذا نحن تغيرنا. وزيادة على الأمثلة التي قدمتها للغة العربية، الانكليزية ليست افضل حالا فيُقال للقميص الابيض الذي يُلبس تحت القمصان wife beater باللغة الانكليزية، والنق bitching. وعلى سيرة say no، يقول الذكور المتحدثون باللغة الانكليزية no means yes and yes means anal. على الدجاجة أن تكسر قوالب التربية لبيضها الإناث والذكور لان أحدا سواها لن يفعل.
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامit would be interesting to see reasons behind why government expenditure on education seems to be declining -- a decreasing need for spending or a decreasing interest in general?
Benjamin Lotto -
منذ 6 أيامجدا مهم البحث
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحلو نعرف ان كان اسلوب البرنامج ينجح في خلق نقاش حقيقي حول قضايا حقوق المرأة...
Chrystine Mhanna -
منذ اسبوعينصعب يا شربل.. معظم الناس لا يتحدثون صراحة عن تجاربهم الجنسية/الطبيّة وهذا ما يجعل من هذا الملف ضروري
Ahmed Gamal -
منذ اسبوعينتقديم جميل للكتابين، متحمس اقرأهم جداً بسبب المقال :"))