خلال الأسابيع الأخيرة، أثارت أزمة المهاجرين الأكراد الذين تقطعت بهم السبل في البرد القارس على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، اهتمام الباحثين الذين اكتشفوا أنهم يفرون من بلادهم ليس بسبب الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في إقليم كردستان العراق فحسب، بل أيضاً بسبب مخاوف تتعلق بموقف الولايات المتحدة منهم والعلاقة بين دول الخليج وتركيا.
وأفادت إذاعة بي بي سي البريطانية بأن بعض الـ27 مهاجراً الذين لقوا مصرعهم خلال عبور بحر المانش إلى بريطانيا الشهر الماضي في زورق، هم من أكراد العراق.
وتشير أرقام جمعية اللاجئين في كردستان العراق إلى أن نحو 30 ألف كردي غادروا الإقليم إلى أوروبا خلال العام الجاري، ونحو 4000 منهم في الأشهر الثلاثة الماضية. وتقدّر الجمعية أن 803 من هؤلاء اعتُقلوا تمهيداً لترحيلهم إلى البلاد، فيما فارق قرابة 33 الحياة.
هجرة ذات طابع عائلي
اللافت أن هجرة الأكراد ذات طابع عائلي إذ إن كثيراً من المهاجرين هم عائلات باعت كل ما تملك في كردستان العراق أملاً في حياة أفضل في أوروبا.
في غضون ذلك، يصرّ رئيس الوزراء في حكومة إقليم كردستان، مسرور بارزاني، على القول إن الهجرة الجماعية الأخيرة لأكراد العراق إلى أوروبا "ليست قضية مهاجرين، بل قضية إجرامية للاتجار بالبشر، إذ يتم استغلال المهاجرين من قبل شبكات إجرامية ووقوعهم في نزاع بين بيلاروسيا والاتحاد الأوروبي".
ويزيد عدد سكان الإقليم المتمتع بحكم ذاتي على خمسة ملايين، يعمل نحو 1.3 مليون منهم في وظائف حكومية، وهذا ما يعكس مدى الضرر الذي أصاب الكثير من الأسر إثر خفض الحكومة رواتب القطاع العام 21% مطلع العام الماضي.
وفشلت حكومة الإقليم لاحقاً في دفع رواتب موظفيها طوال عدة أشهر بسبب الأزمة المالية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا وانهيار أسعار النفط وخلافات مع الحكومة الاتحادية في بغداد على مخصصات الموازنة.
نحو 30 ألف كردي هاجروا إلى أوروبا خلال 2021. علماً أن الأكراد العراقيين الذين يسافرون إلى أوروبا لا يعانون بالضرورة ضائقة اقتصادية وإنما "انعدام الثقة في المستقبل"
في الشهر الماضي، نزل آلاف طلاب الجامعات والمواطنين إلى شوارع أكبر مدينتين في الإقليم، أربيل (عاصمة الإقليم) والسليمانية (شرقه) للمطالبة باستعادة المنح الشهرية التي عُلّقت عام 2014 بعد انخفاض أسعار النفط وبدء الحرب ضد تنظيم داعش. واتصف بعض الاحتجاجات بالعنف، إذ أضرم مواطنون النار في مبانٍ حكومية ومكاتب لأحزاب سياسية.
ويعتقد مراقبون أن أبرز أسباب هجرة العائلات الكردية إلى أوروبا هو "اليأس" من تحسن الأوضاع السياسية والاقتصادية والمعيشية، علاوة على غياب العدالة والحريات، وعجز المسؤولين عن إيجاد حلول لهذه الأزمات.
وقالت امرأة لبي بي سي إن زوجها الذي خدم في البيشمركة (القوات العسكرية الكردية) عدة سنوات، لم يتقاضَ راتبه منذ شهور. لذا غادرت الأسرة إلى أوروبا "أملاً في حياة أفضل ومستقبل جيّد لأطفالنا".
غدر الحلفاء
فضلاً عن الأوضاع المحلية، نبّه باحثون إلى ظهور عوامل إقليمية لعبت دوراً في زيادة أعداد المهاجرين الأكراد إلى أوروبا برغم تراجع الحكومة الكردية عن خفض الرواتب في تموز/ يوليو الماضي، وانتعاش أسعار النفط راهناً واتجاه الإقليم نحو التعافي الاقتصادي.
في رأي المحلل السياسي والباحث المختص في شؤون الأمن والطاقة، يريفان سعيد، فإن "حالة من الخوف" انتابت الأكراد من "تخلّي الحلفاء" عنهم، لذا شرعت العائلات في ترك الوظائف وبيع المنازل والسيارات التي لم تعد تعني شيئاً في ظل غياب الاستقرار السياسي.
نقل سعيد في تقرير نشره "منتدى فكرة" التابع لمعهد واشنطن لبحوث الشرق الأدنى، في 7 كانون الأول/ ديسمبر، أن القيادة الكردية والجمهور يعبّران عن شعور متزايد بعدم اليقين بشأن المستقبل عقب إعادة الولايات المتحدة موضعة قوتها العسكرية باتجاه آسيا.
وأضاف: "لا مبالغة في التأكيد أن انعدام الثقة بالمستقبل كان محفّزاً قوياً للهجرة من إقليم كردستان"، مستدركاً أن "عوامل الاقتصاد والفساد والحوكمة تلعب دوراً في هجرة الأكراد إلى أوروبا، ولكن يبقى انعدام الثقة في المستقبل السياسي للإقليم الكردي هو السبب الرئيسي".
وأوضح سعيد أن تصريحات متكررة للمسؤولين الأمريكيين شددت على أن "مصالح واشنطن الإستراتيجية لم تعد قائمة على بناء دولة في الإقليم" وهذا ما جعل من التزام الولايات المتحدة حماية حلفائها "موضع شك كبير".
وذكّر الباحث أن إقليم كردستان لا يملك منفذاً بحرياً وهو محاط بدول عدائية تسعى إلى تقويض استقلال الأكراد السياسي والاقتصادي والثقافي، بما في ذلك الجماعات المليشياوية العراقية.
في ظل مصالحة دول الخليج وتركيا وغدر الولايات المتحدة بهم، يخشى أكراد العراق فقدان الحماية من الدول الغربية ومواجهة مصيرهم في واحدة من أكثر المناطق الجيوسياسية غدراً وعدائية في الشرق الأوسط
ولفت إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي تسعى إلى التطبيع مع خصومها وتنويع علاقاتها استجابةً للتحول الملحوظ في أولويات واشنطن، وهذا ما يزيد مخاوف الإقليم. فخلال السنوات الماضية، كانت الإمارات تنتقد سياسات تركيا تجاه الأكراد، ورفضت مراراً مخططات أنقرة لإنشاء منطقة عازلة في شمال شرقي سوريا واعتبرت هذه الجهود مثيرة للقلق.
وتقول بي بي سي إن الأعمال العدائية المتصاعدة بالقرب من الحدود الشمالية مع تركيا تزيد الهجرة من الإقليم.
وعليه، يتبيَن أن "اختيار بعض الأكراد الهجرة رداً على ما سبق ليس مفاجئاً. فالأكراد الذين يسافرون إلى أوروبا لا يعانون بالضرورة ضائقة اقتصادية. هم يبيعون كل ما يملكونه للحصول على آلاف الدولارات لدفع مصاريف رحلاتهم بغية الوصول إلى بوابات الاتحاد الأوروبي"، وفق المحطة الإذاعية.
ودلل الباحث سعيد على ذلك في حديث له مع أسرة كردية، مكونة من أربعة أفراد، سافرت إلى الاتحاد الأوروبي عبر بيلاروسيا، مبرزاً أن الرجل وزوجته تركا وظيفتيهما وباعا منزلهما وسيارتهما وممتلكات أخرى من أجل الهجرة إلى أوروبا مع أطفالهما.
هل الحماية الدولية هي الحل؟
خضع إقليم كردستان للحماية الغربية منذ عام 1991. وقد منحت هذه الحماية الأكراد فرصة لتشكيل حكومة وتشييد بنيتهم التحتية، وجعل المنطقة الشمالية من العراق المكان الأكثر جاذبية للاستثمار الأجنبي في البلاد.
لكن سعيد يرى أن هذه الإنجازات مهددة، خاصة مع تنامي الاقتناع الكردي بأن العراق ليس على قائمة أولويات الولايات المتحدة، لذا يخشى الأكراد فقدان حماية الدول الغربية ومواجهة مصيرهم في واحدة من أكثر المناطق الجيوسياسية غدراً وعدائية في الشرق الأوسط، بحسب وصفه.
في أيلول/ سبتمبر الماضي، تعرضت عاصمة الإقليم، أربيل، لهجمات طائرات بدون طيار بعد هجمات صاروخية في شباط/ فبراير، وهو ما اعتبره الباحث نذيراً لما قد يواجهه الأكراد عندما تغادر القوات العسكرية الغربية العراق.
"تلعب عوامل الاقتصاد والفساد والحوكمة دوراً في هجرة الأكراد إلى أوروبا، ولكن يبقى انعدام الثقة في المستقبل السياسي للإقليم الكردي هو السبب الرئيسي"
وحذّر سعيد من أن هجرة الأكراد لا تضر بموارد رأس المال البشري في كردستان فحسب، بل أيضاً أدت إلى تحديات أمنية وتوتر بين الاتحاد الأوروبي وبيلاروسيا، ومعضلة أخلاقية وجّهت "صفعة قوية لسمعة الاتحاد الأوروبي كملاذ لحقوق الإنسان".
وللحد من أزمة تزايد هجرة الأكراد إلى أوروبا اقترح سعيد أن يتدخل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا لـ"معالجة انعدام ثقة الأكراد بمستقبلهم"، عبر استصدار قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لحماية إقليم كردستان من الاعتداءات الداخلية والخارجية.
ورجح الباحث أن يثني قرار كهذا العديد من الأكراد عن المخاطرة بهجرة غير نظامية إلى أوروبا، مستنداً إلى قرار مجلس الأمن لعام 1991، الذي وعد بحماية العراقيين المقموعين، ومهد الطريق لملايين الأكراد العودة إلى ديارهم من الدول المجاورة بعد فرارهم من الاضطهاد العسكري في العراق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ يوملم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري