شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عن

عن "الخرَتي" وناقد تراحيل لا يردّ يدَ لامس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 8 فبراير 202202:52 م

لا أظن الجرّاح يحتاج إلى حاسّة شمّ أو تذوق معقولة، قد يستهين بالحاستين معاً. تكفيه أدوات الجراحة، عدّة القصّاب، وسائل الناقد الكسول، ناقد التراحيل الأرزقي. حاطب الليل لا يميز بين الحبال والأفاعي. وتجنّباً للالتباس على غير المصريين، وعلى مصريين لم يعاصروا ظاهرة عمال التراحيل ولم يسمعوا عنهم، يمكنهم قراءة رواية "الحرام" ليوسف إدريس، أو مشاهدة فيلم "الحرام" لبركات. لم تكن لدى هؤلاء المساكين رفاهية المفاضلة بين أشغال شاقة يقومون بها، ولا مكان العمل ولا صاحبه. سخرة اضطرارية أنهتها ثورة 1952. ليس للفقير، التملّي بمصطلحات تلك الأيام، حق الاختيار، فلماذا يرضى ناقد التراحيل بالهوان، ويقبل هذه السخرة، فلا يردّ يدَ لامس؟

ظاهرة عمال التراحيل الجدد، في طورها النقدي النشط، انتبهتُ إليها في كانون الأول/ديسمبر 2005. كانت ليلة باردة نظم فيها الروائي خيري عبد الجواد رحمه الله ندوة لمناقشة روايتي "أول النهار"، وقد احتفل بها في مقال في صحيفة "الراية" القطرية. تأخر أحد المناقشين قليلاً، وجاء يمسح عرقه من تعب المشوار. قال إن روايتي هي العمل الثاني والخمسين الذي ناقشه عام 2005. انشغلت عنه بحساب عدد أسابيع السنة، 52 أسبوعاً فقط، وتبقى للناقد أسبوعان لرواية أو اثنتين ربما تكون إحداهما باباً إلى ندوة تختتم عامه الحافل. الناقد يناقش رواية كل أسبوع، ويزدحم عام الأستاذ الجامعي بالمحاضرات، وتصحيح الامتحانات. فهل يكفي أسبوع لاستيعاب رواية؟

المجرم تساعده صحته، ولا يصاب بأنفلونزا تقعده ثلاثة أيام، ويخلو ذهنه من الانشغال بالأحوال العامة، ولا تعطله التزامات دراسية أو أسرية، ولا يبالي بهموم شخصية، ولا يقرأ شيئاً آخر إلا النصوص الروائية والقصصية المطلوب مناقشتها، ولا يعاني قلق الإحاطة المحدودة بمجالات معرفية أخرى، ولا تعنيه قراءة أعمال إبداعية تبصّره بعموم المشهد، ولا يستريح أسبوعاً في مصيف، حتى المرض يظل ترفاً مستبعداً فلا يتوقف دوران قادوس الطاحونة، وفي القادوس تختلط عناوين الأعمال الإبداعية، وتنصهر لدى ناقد التراحيل في كلام يشبه بعضه بعضا، فما يصلح منها لمجموعة قصصية يمكن بتعديلات بسيطة تطبيقه على رواية. كيف يحتمل حياة لا يردّ فيها يد لامس؟

من الابتذال أن يناقش ناقد 52 عملاً إبداعياً، ولن يدخّر لنفسه الأسبوعين الباقيين في آخر السنة ليستريح

عرفت مصر مبكراً طوائف الصنائع. لكل حرفة كبير، شيخ يعتمد الجدد، ويمنحهم شهادات صلاحية تضمّهم إلى "النقابة". ولا يجرؤ متخصص في حرفة على العمل بعيداً عن الحارة أو الحيّ نفسه، إثباتاً للجدارة وصموداً لشفافية مقارنة يشهدها الراغب في التعامل مع هذا منصرفاً عن ذاك. أما العمل في شارع مخصص لحرفة أخرى فيعني ضعف الكفاءة والاندساس والعشوائية. وتوالدت العشوائيات برحيل مشايخ النقد، كان مقال واحد لأحدهم يكفي لتعميد كاتب. بتلك الحماية استظلت "تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم، "فساد الأمكنة" لصبري موسى، "أيام الإنسان السبعة" لعبد الحكيم قاسم، "الزيني بركات" لجمال الغيطاني، "أصوات" لسليمان فياض، "بحيرة المساء" لإبراهيم أصلان، "الخطوبة" لبهاء طاهر.

اليأس وانعدام التحقق والبطالة وغيرها من الإحباطات دفعت البعض، بالخطأ والمصادفات، إلى انتحار كتابيّ، وانتهت الظاهرة بحصاد كميّ وافر، يستعصي على المتابعة، زَبَد يخفي اللؤلؤ، طفح كتابي لا تبدد فوضاه إلا جسارة "شيخ حارة" حقيقي، يحتفي بما يصمد لاختبار الزمن، ويتجاهل المتواضع، ويشير إلى التافه إشارات لا تدفع به إلى دوائر الضوء.

لا أكتب الآن عن هذا الطفح الذي يسدّ منافذ تعجز عن استيعاب فوائض ترهلاته، وإنما عن النقد. لم تعد الشكوى من قلة منافذ النشر. فتح الفضاء الإلكتروني نوافذ تتناسل، وأدى إلحاح الحضور والبجاحة إلى سلطة لا علاقة لمنتجيها بالنقد، بسوء نية يعوض عدم التحقق، وبحسن نية لحاطبي الليل.

من مظاهر "نقد" حاطب الليل أنه لا يفرّق بين "الحرافيش" وكتّاب أكثر مبيعاً. لا تميز أدوات الجراح بين الأجساد، لا حساسية ولا معايير ثقافية تكبح جرأة نقد يكتفي بتلخيص القصة، وثرثرات عن مراوغة الزمن، وحوار الضوء والعتمة. ورث حاطب الليل سلطة فاسدة احتكرها سابقاً متنفذون امتلكوا مهارات التواصل العابر للحدود، حلا لهم ضرب خيامهم بالقرب من خباء الكاتبات، وتصيّدوا أعمالهن بالمديح سابق التجهيز. مهارات الصقور المخصية والعجزة المتصابين احترفها مثقفو أغلفة الكتب، نشطاء غوغل، الخرتية الصغار المتربصون زيارات هذا الكاتب أو تلك الكاتبة بعبارات مديح خادعة تصف التعارف الوليد بالصداقة التاريخية، وتتضاعف الخرتتة حين تكون الكاتبة ذات عينين أكثر زرقة.

في عام 1962 قال هنري ميلر إن رواج أعماله لا يطيب له؛ "ليس شيئا بالنسبة إليّ أن أحظى بقبول العامة. بل هو أمر مؤلم. لأنني أحظى بالقبول بناءً على الأساليب الخاطئة" 

ينتبه حاطب الليل أحياناً إلى أهمية الاحتطاب نهاراً، فيتفادى الأفاعي، ولكن قدراته لا تؤهله إلى الاهتداء إلى اللآلئ، فيفرح بالزَّبَد، ويثقل ظهره بالحطب الخفيف. يتعقب المشاهير ظنّاً بأن بعضاً من الأضواء ستنعكس على بؤس "نقد" يبتذله ابتذالاً. ومن الابتذال أن يناقش ناقد 52 عملاً إبداعياً، ولن يدخّر لنفسه الأسبوعين الباقيين في آخر السنة ليستريح، يضنّ على نفسه، ويزاحم للفوز بندوة أخرى. هذا التهافت أنتج "نقداً" شفاهياً لن ينشره حاطب الليل. نشر الثرثرة فعلٌ فاضح. وليس لديه وقت للكتابة التي تستحق النشر، لا صبر ولا همة ولا كفاءة، فيغرق في ثرثرة جديدة، ثم يكتشف أن الحصاد الخمسيني، مضافاً إليه عملين، صفر.

أغلب الحطب "النقدي" لهاث وراء كتابة هي نفسها لهاث يتملّق قراءً لا يودّ كتّاب الـ"بيست سيلر" خسارتهم. لا يفرّط في مَن تعهدهم، وضبط مؤشر ذائقتهم على موجة محددة، متوقعة. في عام 1962 قال هنري ميلر إن رواج أعماله لا يطيب له؛ "ليس شيئاً بالنسبة إليّ أن أحظى بقبول العامة. بل هو أمر مؤلم. لأنني أحظى بالقبول بناءً على الأساليب الخاطئة". قول ميلر وثّقه كتاب "بيت حافل بالمجانين... حوارات باريس ريفيو"، ترجمة الشاعر المصري أحمد شافعي. وفيه يضرب بورخيس مثلاً بالنقد المبدع بقراءة كوليردج لشكسبير، "لا سيما عن شخصية هاملت، ترى أن هاملت جديداً قد خلق بين يديك". وبهذا أختم المقال.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image