يقف ماهر أبو صالح وهو مهجر من الغوطة الشرقية في ريف دمشق، إلى جانب منزل قيد الإنشاء. لا يعرف كيف يصف مشاعره. هل يفرح أم يزعل وهو يعمل في بناد "مستوطنة" لأبناء بلده المنتقلين من هجرة إلى أخرى. هل يفرح أم يزعل وهو يُراقب كيف يبتعد هو، يوماً بعد يوم عن المكان الذي نشأ فيه، عن بيته الأوّل والذي يبدو لن يكون الأخير يوماً.
يقف ماهر أبو صالح ويُراقب كيف فلسطين صارت في حلب، في لمحة بصر. يبتسم، يُشاهد كيف يُجهّز مشروع القرية السكنية لـ200 عائلة جلّها من الأيتام والأرامل، الذين وأخيراً سيتركون خياماً أرهقتهم لسنوات. سيهربون من الصقيع والعواصف والثلوج إلى مكان دافئ. هذا أقصى الطموح اليوم. "لا يعرف ماهر كيف يُعبر عن شُكره لفلسطين وأهلها".
تقوم بتنفيذ المشروع، الهيئة الفلسطينية العالمية في ريف حلب، شمال غرب سوريا، المنطقة التي شهدت انخفاضاً كبيراً في درجات الحرارة الشهر المنصرم، ترافق ذلك مع عواصف ثلجية وأمطار، أدت إلى زيادة معاناة النازحين القاطنين في الخيم، الذين يفتقرون للرعاية الطبية ووسائل التدفئة الصحية.
تقوم الهيئة الفلسطينية العالمية في ريف حلب، شمال غرب سوريا، مشروع القرية السكنية المخصصة لـ200 عائلة
قبل أيام، تُوفّيت الطفلتان فاطمة الحسين وعمرها 7 أيام، وأمينة سلامة وعمرها شهرين، في مخيمّات منطقة معرة مصرين، شمال إدلب، نتيجة البرد وعدم وجود وسائل تدفئة كافية. لم يُسعفهما الوقت للهرب من الموت.
حملات التبرع
دفع تردي الأوضاع الانسانية في المخيمات السورية، إلى إطلاق حملات تبرعات لنقل القاطنين في الخيم، إلى منازل سكنية تقيهم برد الشتاء وحرارة الصيف، كانت بدايتها عبر بث مباشر أطلقه "اليوتيوبر" الكويتي "أبو فلة"، فجمع أحد عشر مليون دولار. ووصلت الأرقام المجموعة في حملة فريق ملهم التطوعي "حتى آخر خيمة"، إلى المليوني دولار. هذا المبلغ بحسب القائمين على الحملة، سيكفي لبناء خمسمئة بيت بكلفة أربعة آلاف دولار أمريكي للبيت الواحد، بالإضافة إلى حملة "اليوتيوبر" والإعلامي المصري يوسف حسين المعروف بـ"جو"، التي أكملت كلفة بناء خمسين بيتاً بذات كلفة بيوت "ملهم".
ومنذ عدة أيام، انطلقت حملة الفلسطيني إبراهيم خليل تحت مسمّى "بيت بدل خيمة"، بالتعاون مع جمعية القلوب الرحيمة الفلسطينية، التي تتعاون مع عدة منظمات محلية (جمعية عطاء، منظمة الأيادي البيضاء) العاملة في شمال سوريا، لتنفيذ مشاريع بناء الكتل السكنية، واستطاعت جمع مليوني دولار أمريكي من فلسطينيي الداخل، لبناء عشرات المخيمات في شمال غرب سوريا.
أبو محمد بيشكو، مهجّر من منطقة القابون في ريف دمشق، انتقل منذ عدة أيام إلى سكنه الجديد في تجمع سكني تم بناؤه من تبرعات الفلسطينيين شمال حلب، يقول: "لا شك أن المنزل الذي له سقف وجدران أفضل من الخيمة"، وهو الذي ترك بيته منذ سنوات ولا يعرف إن كان سيعود إليه يوماً.
** يستقبلون المهجرين
يضيف: "كنا نسكن في خيمة في منطقة كفر تخاريم شمال غرب إدلب وهي منطقة جبلية باردة والخيمة لا تقي برد الشتاء ولا حرارة الصيف، انتقلنا لقرية حبيب الرحمن في منطقة مارع شمال حلب، التي تتوفر فيها كافة الخدمات، من صرف صحي ومياه وكهرباء ومسجد ومدرسة ومركز طبي، وهو ما اعتقدنا أننا لن نراه فيما تبقى من حياتنا".
أبو محمد ممتن للشعب الفلسطيني، ولن ينسى وقوفهم مع السوريين في هذه الظروف الصعبة، "نتمنى لنا ولهم الفرج والعيش بأمان واستقرار"، يتحدث بفرح، من دون أن يخفي الأسى. الأسى الذي لن يُفارقه.
فريق ملهم وفلسطين
وتصدر الفلسطينيون قوائم الأشخاص والهيئات الأكثر تبرعاً في حملة "حتى آخر خيمة" التي ينظمها فريق "ملهم التطوعي".
وكان مدير فريق ملهم التطوعي، عاطف نعنوع، قد أشار في فيديو مصور بث على صفحة الفريق منذ أيام، إلى أن "كل حملة يطلقونها، يتبناها ويتبرع لها أهالي فلسطين، تحقق الهدف وتتخطاه ونصل إلى عائلات أكثر"، مضيفاً أن "أهل فلسطين كانوا الداعم الأوّل والدائم لمشروع عزيز السكني الذي يضم 472 عائلة، ومشروع أوتاد الذي يتم بناؤه لـ 270 عائلة، بالإضافة إلى مشروع قرية "ملهم" لـ 300 عائلة من ذوي الأيتام وشملت التبرعات حفر آبار المياه ومدارس ومساجد وبنية تحتية".
الفلسطينيون كانوا الداعم الأوّل والدائم لمشروع عزيز السكني الذي يضم 472 عائلة، ومشروع أوتاد الذي يتم بناؤه لـ 270 عائلة، بالإضافة إلى مشروع قرية "ملهم" لـ 300 عائلة من ذوي الأيتام
ولفت نعنوع إلى أن أهل فلسطين كانوا "أول الداعمين لكل حملات الفريق منذ بداية تأسيسه عام 2012"، مؤكداً أن تبرعات الفلسطينيين لم تقتصر على فريق "ملهم التطوعي"، بل كانت على مدى الأعوام السابقة حملات وقوافل من فلسطين الداخل وخاصة من أهالي الداخل 1948، تضمنت خيماً وسلالاً غذائية ومواد تدفئة".
فلسطين ليست قياداتها
يقول الناشط الفلسطيني أيمن فهمي، وهو فلسطيني سوري مهجر من ريف دمشق لرصيف22، إن "هذه الحملات فضحت الأدوار المخزية للقيادات الفلسطينية التي ما فتئت وهي تحاول أن تفتح قنوات الاتصال والعلاقات مع النظام السوري، وخلال تجربة الثورة السورية نلاحظ أن غالبية مواقف القيادات الفلسطينية كانت تصب لصالح النظام".
ويلاحظ فهمي أن "غالبية متطوعي هذه الحملات موقفهم واضح من إجرام النظام، في حين أنه على الضفة المقابلة، نرى أن القيادات الفلسطينية للأسف تتمادى في إرضاء هذا النظام، وفي التغطية على جرائمه سواء كانت بحق السوريين أو الفلسطينيين السوريين".
ويرى أن الحملات تُعبر عن "العلاقة التاريخية الوثيقة بين الفلسطينيين والسوريين"، مشيراً إلى أن "هذه المرة الأولى التي يتم فيها توحيد كلمة الفلسطينيين في الداخل على قضية، والدليل على ذلك أنه خلال أيام قليلة شهدنا حجم التبرعات من قرى وبلدات مختلفة، وهذا يؤكد أن الشعبين المنكوبين لديهم قضية واحدة".
الشتات
من جهته، يقول الناشط الفلسطيني السوري ثائر أبو شرخ، لرصيف22: "يبلغ عدد العوائل الفلسطينية شمال غرب سوريا قرابة (1500) عائلة، تم تهجيرهم من مناطق مختلفة من جنوب دمشق وخصوصاً مخيم اليرموك والحجر الأسود وخان الشيح، متوزعين في مناطق شمال حلب في كل من أعزاز والباب ومنطقة دير بلوط، وشمال إدلب في كل من سرمدا والدانا وأطمة، ويبلغ عددهم حوالي 7000 نسمة، وهم في غالبيتهم من الفئات المستضعفة".
هي المرة الأولى التي يتم فيها توحيد كلمة الفلسطينيين في الداخل على قضية، والدليل على ذلك أنه خلال أيام قليلة شهدنا حجم التبرعات من قرى وبلدات مختلفة، وهذا يؤكد أن الشعبين المنكوبين لديهم قضية واحدة
ويعمل الناشطون في الشمال السوري اليوم على نقل المهجرين الفلسطينيين السوريين إلى كتل سكنية، ويشير أبو شرخ إلى أن "أوضاعهم الانسانية صعبة كما باقي أهلنا السوريين في المخيمات، لكن المشكلة أكبر من الجميع لأننا نتكلم عن أكثر من مليون وسبعمئة ألف مهجر يقطنون الخيام".
ويذكر "بفضل السوريين في عام 2006 وفي تسعينيات القرن الماضي "عندما شاهدنا كافة مناطق سوريا، تتسابق لدعم الشعب الفلسطيني، وأنا أعتبره ضمن السياق الطبيعي، فنحن أصحاب قضية واحدة وشعب واحد ولكن فرقتنا الأنظمة الديكتاتورية وقوات الاحتلال".
بلغ عدد المخيمات في محافظتي إدلب وحلب حتى مطلع العام الحالي 1409 مخيماً، بينها نحو 400 مخيم عشوائي
يؤكد شرخ أن ما يجري اليوم هو "حملات شعبية ليس لها علاقة بمؤسسات رسمية أو فصائل أو قيادة سياسية المتمثلة بالسلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطيني"، مشيراً إلى "تجاهل وتهميش الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، التي لا تقدم لهم أي من الخدمات الموكلة لها من قبل المجتمع الدولي".
شعوب المخيمات
بلغ عدد المخيمات في محافظتي إدلب وحلب حتى مطلع العام الحالي 1409 مخيماً، بينها نحو 400 مخيم عشوائي، يتركز جهد القائمين على الحملات الأخيرة من أجل مساعدة القاطنين فيها على تحسين ظروف العيش والانتقال إلى منازل مؤقتة.
وتضم هذه المخيمات، حسب آخر إحصائية لمكتب اللاجئين في الائتلاف الوطني نحو مليون و700 ألف نسمة، يشكّلون 321 ألف عائلة، بينهم 45 ألفاً من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهذا يجعل الرقم الذي تم جمعه غير كاف لنقل سوى ما بين 500 إلى 800 أسرة من الخيم إلى البيوت، مع الأخذ بعين الاعتبار أن حملة "أبو فلة" غير مخصصة لهذا النوع من المشاريع ولا تدخل في حساباتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين