"أملك قناةً على يوتيوب، لذلك جئت من مدينة فاس، لأواكب الحدث بغرض رفع نسبة المشاهدة لدي"، هكذا أعربت سيدة في مقتبل العمر عن هدف زيارتها لقرية إغران، في الجماعة الترابية تمروت، بإقليم شفشاون، حيث خيّم الحزن، وتجمع آلاف الأشخاص في محيط البئر التي سقط فيها الطفل ريان، ترقبا لحركة عمل رجال الإنقاذ وأملا في إخراجه سالما.
تصريح هذه المرأة العلني لأحد المواقع الإلكترونية، خلال عمليات الإنقاذ، قبل أن يعلن رسميا عن وفاة ريان ليلة السبت 5 شباط/فبراير، استفز رواد مواقع التواصل الاجتماعي، ممن نعتوها بـ"تاجرة المأساة"، على غرار كل من مضى إلى مكان الحادث فقط لغرض حصد المزيد من المشاهدات والتفاعل، للكسب المادي الصرف، ولو على حساب مأساة أبوين مكلومين، وبقية العالم الذي انشد قلبه إلى الحادث.
انطلقت حملات تبليغ على محتوى رقمي غير لائق، بشكل كبير، ليتم إغلاق قناتها بعد ساعات من كشفها لغرض الزيارة؛ كما تم إبلاغ إدارة يوتيوب بالمحتوى غير الأخلاقي لمديري قنوات أخرى قيل إنهم دفعوا أموالاً تراوحت بين 350 و450 دولاراً لأشخاص متواجدين في مكان الحادث لفتح "بث مباشر" لحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ولو في غير حضورهم، كي لا يضيّعوا عليهم فرصة الكسب السريع.
تجارة المأساة
في الوقت الذي تطوع فيه المئات للمشاركة في عملية الإنقاذ، ونزل بعضهم إلى قاع البئر الذي كان يهدّد بالانهيار، وشارك آخرون في عمليات الحفر على رأسهم "العمّ" علي الصحراوي (المتحدّر من مدينة أرفود شرق المغرب) الذي حفر رفقة زميلين له ثمانية أمتار أفقيا بآلات بسيطة لإنقاذ الطفل وخاطروا بحياتهم، وتطوعت نساء كثيرات من المنطقة لتوفير الأكل والماء لفرق الإنقاذ ورجال الأمن العاملين ليل نهار، وخدَم شباب الهلال الأحمر المغربي الساهرين على عملية إنقاذ الطفل ريان، كانت هناك "ذئاب بشرية" تتربّص بفرصة الكسب المادي فقط، من قبيل شخص استطاع فتح حساب بنكي لجمع الأموال باسم مساعدة والد الطفل ريان، لينفي هذا الأخير أن لا علاقة له بأي حسابي بنكي، وأن طلبات "الدعم المالي" المتداولة باسمه لا يعلم عنها أي شيء.
حسابات بنكية مزيفة وتجارة إلكترونية وصحافة صفراء... "ذئاب بشرية" استغلت مأساة الطفل ريان الذي سقط في بئر للربح السريع
وعلى غرار البث المباشر، والفيديوهات المُتداولة من طرف "المؤثرين" على المواقع التواصل الاجتماعي لإثارة الانتباه والحصول على نسب مشاهدات أعلى لكسب مادي أوفر، رُصِد تجار إلكترونيون يعرضون صورا رقمية للطفل ريان، وملابس طبعت عليها صوره، لبيعها بعملات رقمية، أو بمبالغ مالية تصل إلى 50 دولاراً، في عدد من مواقع التسوق الإلكتروني؛ محاولين صنع تجارة من عمق مأساة الطفل الذي كان يحتضر في قاع البئر، دون مراعاة حُرمة الجسد، وحقوق الطفل، وأخلاق الإنسانية.
وللحد من "تجار الفواجع ومستغلي الأزمات الإنسانية" فتح العديد من المغاربة جبهة ضد هذه الأقلية النشاز من تجار الموت. أشرف الركراكي، وهو بودكاستر مغربي مهتم بالشأن الاجتماعي، تابع الحدث منذ البداية، وفتح نقاشاً واسعاً في عدد من غرف الدردشة الصوتية على تطبيق كلوب هاوس للتنبيه بخطر هذا التلاعب بقضية الطفل، معربا عن أسفه من مستغلي الأزمات الإنسانية للحصول على المزيد من الأموال "الباردة"، كما وصفها.
وقال الركراكي عن الأمر: "أصبح من الضروري محاسبة جميع المرتزقة، وكل من روج للأخبار الزائفة وتقديمهم للعدالة لأنه ليس إنسانياً أن يتم استغلال الناس ومآسيهم".
ويضيف المتحدث، في حديثه لرصيف 22، أنه "يجب الآن التفكير بشكل جدي وحاسم في "برنامج ريان"، بمعنى أنه يجب الاشتغال على حملة كبرى لسد كافة الآبار المكشوفة في المغرب، من خلال تسطير برنامج عمل وخطة تفاعلية، لجعل كل شخص يعرف بمكان تواجد بئر مكشوف الإبلاغ عليه، وبالتالي الإسراع لتقديم المساعدة له بإغلاقه، كي لا نشهد فاجعة أخرى من هذا الحجم، لأنه من غير المُستبعد أن تكون المأساة التي عشناها مع ريان، تعيشها الكثير من الأسر البسيطة في صمت بدون أن يصلنا الخبر".
إعلام أصفر
بمجرد أن تداول الإعلام الوطني والعالمي، حدث سقوط الطفل في البئر، شدت الحشود رحالها إلى مكان الحادث، وكان العتاد هاتفاً محمولاً، لتوثيق الواقعة من طرف البعض، لكن آخرين كان هدفهم الربح من خلال نقل الفاجعة على شبكات التواصل الاجتماعي دون أيّ تحر للدقة وبجهل بأساسيات العمل الصحفي، فتناسل "البث المباشر" والعناوين "العفنة"، ومعهما الأخبار الزائفة، مما استدعى خروج المجلس الوطني للصحافة في بيان عاجل، يرصد عدداً من الخروقات في التغطية الإعلامية لقصة الطفل ريان.
استغلت الصحافة الصفراء في المغرب حادثة الصبي ريان ونشرت أخبارا مضلّلة بعناوين إثارة من أجل الحصول على أكبر عدد من المتابعين
وركز البيان على ما يسمى بالصحافة الصفراء، وهو مواقع إلكترونية هدفها الوحيد الحصول على أكبر عدد من "النقرات" ومعها الدخل المادي الإعلاني، وتعتمد التشهير والفضائحية والأخبار المضللة في عملها.
ولم يختلف حالها في تغطيةِ الحدث فاعتمد "صحافيوها" الإثارة، وهم ممن تناسوا المبادئ الإنسانية التي يتضمنها ميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة.
وأكد المجلس أن الأزمات والفواجع، لا يمكن أن تتحول، بأي حال من الأحوال، إلى مجال للربح المادي والإثارة الرخيصة لزيادة عدد المشاهدات وغيرها من أساليب المتاجرة في المآسي الإنسانية.
من جانبها، كشفت خدمة "تحقق" لتقصي صحة الأخبار، عن زيف صور كثيرة تداولت على أنها لإنقاذ الطفل المغربي ريان، وغيرها من الأخبار والفيديوهات وهي في حقيقة الأمر لا تمس للحادث بصلة، وإنما لفواجع أخرى حصلت عبر العالم، فتم على مدار الساعة رصد جُملة من الاختلالات نتجت عنها أخبار زائفة.
وفي هذا الصدد، قال غسان بن الشيهب، المتخصص في الإعلام والتسويق الرقمي، ومؤسس موقع تحقق للتصدي للأخبار الزائفة في حديثه لرصيف 22 "كانت هناك جهود لمؤسسات إعلامية وصحفيين مهنيين أبانوا عن حنكة وحياد تام في نشر الأخبار، ولكن للأسف الشديد غياب القنوات الإعلامية الرسمية بتغطيات مباشرة مع توفير لوجستيك خاص بالأمر، أعطى الفرصة لأشباه الإعلاميين للتصدر في الواجهة ونقل الأحداث واللعب بأعصاب المواطنين، إذ تم ذلك عبر عناوين مضللة، وإشاعات وأخبار زائفة، أو أخبار مجتزأة، الشيء الذي يحلينا إلى قضية الاعتماد الصحفي، إذ من الواجب إعادة النظر في العديد من المؤسسات التي تدعي المهنية، ومتابعتها إذا ثبت استغلالها لأحداث ومآس بغرض جلب زوار ومتابعين".
ويضيف بن الشيهب أنه "على مستوى الدولة، يجب أن تُطور آليات تواصلية للأزمات، واستثمار إحدى القنوات العمومية لتغطية مجريات وأحداث أي موضوع، لكي تقرب المواطنين وتعطيهم الحقيقة، هذا سيمنع انتشار الأخبار غير الدقيقة، وعلى المستوى التنظيمي، من الواجب الاستفادة من المشكلة الخاصة بتوافد المواطنين إلى مكان الفاجعة، هذا شكَّل عنصراً مربكا في عملية الإنقاذ وأيضا على مستوى نقل الأحداث، من الواجب تحديد دائرة كبيرة للمنطقة التي تحصل فيها الفاجعة، وإبعاد المواطنين وعدم السماح لهم بالاختلاط بالمنقذين والمتطوعين، أما على المستوى الصحفي، فيجب تحديد المنابر الإعلامية الوطنية أو الدولية، التي يمكن أن تغطي الحدث بناء على مهنيتها وليس اعتمادها، لأن التغطية هي السبيل الوحيد للمتابعة ومعرفة الحقيقة، حينما يختلط المهني بالعشوائي نعيش فاجعة إعلامية من نوع آخر".
من جهتها، أكدت سناء حاكمي صحفية مختصة في قضايا المجتمع، أنه كان يجب منذ البداية "كبح الحشود والعشوائية في التعاطي مع الحدث على الحواجز الأمنية، إذ أن المسئولين لم يستطيعوا منذ البداية إبعاد الناس وقطع الطريق، وانتشار الصحافة غير الرسمية (المنتحلين لصفة صحفي) كان من الأفضل أن ينزل بيان رسمي يمنعهم من تغطية الحدث، ثالثا كان يجب التسريع بوصول المختصين بدل الانتظار لليوم الثاني".
وأضافت المتحدثة "يعتبر هذا مستعجلا ويجب علينا كصحفيين مهنيين أن نراسل الوزارة والنقابات بإنزال بلاغ رسمي نلتمس من خلاله وزارة الداخلية بمنع هذا النوع من السلوك غير أخلاقي وغير الإنساني، الذي يشوه بصورة مُباشرة المهنة أولا، ويؤذي المعنيين بالأمر كالضحايا أو ذويهم، ونقطة أخرى مهمة يجب إعادة النظر في الفرق المختصة وتدريبها بشكل أكبر، لأن أول الأمر كان التعاطي مع الأمر بشكل نوع ما عشوائيًا كالجبال المستعملة وربطها بجذع شجرة". وإن كانت مأساة ريان أظهرت أن الخير موجود في ملايين المغاربة، فقد أظهرت أن هناك ضمنهم تجّار موت وصحافة صفراء همّها الوحيد هو الربح السريع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...