على نواصي الطرقات يمضون وقتهم سعياً إلى كسب قوت يومهم منذ طليعة فجر كل يوم، حاملين بأيديهم معدات النظافة لتأدية مهامهم في جمع النفايات، في وقت يدركون فيه أنهم يسيرون في عملهم بعد تجريدهم من أدنى حقوقهم العمالية.
هذا هو واقع عمال النظافة في قطاع غزة؛ يعملون في ظروف مجحفة، ويطال الإجحاف حقوقهم حتى في حال تعرضوا للإصابة في أثناء العمل، ليجدوا أنفسهم مضطرين إلى دفع كلفة مصاريف العلاج من جيوبهم الخاصة، فلا ضمان اجتماعي، ولا تأمين صحي يغطّيانهم، بل يتجاوز الأمر ذلك، ويصل إلى طردهم بإصدار قرار "الاستغناء عن خدمات"، حين يصيرون غير قادرين على العمل.
يعمل هؤلاء الغزّيون بموجب بند العقود المؤقتة لدى البلديات في القطاع، وتوكل إليهم مهام تجميع النفايات من الطرقات العامة ومن الأحياء، من خلال استخدام عرباتهم الخاصة التي تجرّها الدواب، في ظل عدم توفير أدنى شروط السلامة الصحية لهم من قبل البلديات، وتجريدهم من أدنى الحقوق.
مخاطر ولا تأمينات
عمل سلام الملالحة (39 عاماً)، في مهنة جمع النفايات على مدار ستة أعوام، بموجب عقد مؤقت لدى بلدية غزة، ولكن حصل ما لم يتوقعه في آب/ أغسطس 2018، حين تعرّض لإصابةٍ في أثناء عمله في شارع الرشيد غرب غزة. جُرحت يده اليسرى نتيجة وجود زجاج بين أكوام القمامة، واضطر إلى إجراء عملية جراحية لربط الأوردة والشرايين التي قُطعت، ما أفقده الحركة في خنصره، ولم يكن يعلم أن قرار الاستغناء عن خدماته ينتظره.
يروي سلام لرصيف22، أنه التحق بوظيفة عامل نظافة بعد محاولات عديدة. يقول: "أعيل أسرةً مكونةً من خمسة أفراد، وأتحدر من عائلة متوسطة الدخل، ما دفعني للجوء إلى هذا العمل على الرغم من حصولي على شهادة جامعية في الرياضيات، لأُدرج ضمن عمال البلدية على بند العقود المؤقتة، ضمن مشاريع صندوق إقراض مجالس البلديات".
عن واقع العمل، يقول: "نجد أنفسنا أمام عقود لا تضمن أدنى الحقوق في حالات الإصابات في أثناء العمل، ولا التأمين الصحي، وهذا ما قيّد قدرتي على المطالبة بأي تعويض، نتيجة إصابة العمل".
ولم يقف الأمر عند إصابته وتضرر إصبعه بشكل دائم، بل استغنت البلدية عن خدماته من دون إعلامه. حاول مرات عدة إقناع إدارة البلدية بأنه قادر على تأدية مهامه، ليصطدم بردها: "أنت صرت غير صالح للشغل".
سويلم الرضاوين، عاش تجربةً مماثلةً؛ عمل لمدّة تسع سنوات قبل أن يخسر عمله في تموز/ يوليو 2020، جراء تعرضه لحادث سير في أثناء عمله على إحدى طرقات مدينة غزة. كُسرت قدمه، ونُقل إلى المستشفى لتلقي العلاج، ليفاجأ بقرار حسم أيام عمل من قبل إدارة نقل النفايات الصلبة في البلدية، تحت بند الخروج خلال ساعات العمل من دون مبررات، على الرغم من علم إدارته بإصابته.
وما يزيد الطين بلّةً، أنه فُصل من العمل، ولم يحصل على أدنى الحقوق، على الرغم من محاولاته وتوكيله محامياً. قيل له إن موجبات العقد تحرمه من أي حقوق.
يقول لرصيف22: "تستغل البلديات حاجتنا إلى العمل في ظل الظروف الصعبة، ولا نملك أي نسخ عن العقود، إذ نمضيها وتبقى لدى البلدية من دون أن نحصل على نسخة لنا، ونعمل ساعات عمل إضافيةً لا تُحسب كزيادة على الراتب".
شروط البلديات للقبول
لا تقتصر انتهاكات البلديات على حرمان عمال العقود المؤقتة من حقوقهم، بل تطال شروط قبولهم. يوضح ناصر أبو كميل، عامل نظافة وفق العقود المؤقتة، أن "البلدية تضع مجموعة شروط لقبول الأشخاص الذين يستفيدون من العقود المؤقتة، من ضمنها امتلاك الفرد دابّةً خاصةً به، تطّلع لجنة على مواصفاتها، وسبق أن رُفض عمال نتيجة تقييم الدواب، هذا بالإضافة إلى امتلاك عربة جيدة"، مضيفاً أن "الخدمات التي تقدمها البلدية تقتصر على صندوق خاص لتجميع النفايات، وأدوات تجميع (مكنسة ومشاطة وجردل)".
ويتابع أن تكاليف الدابة كافةً يتحملها العامل، وتصل شهرياً إلى قرابة 90 دولاراً، بالإضافة إلى تكاليف صيانة عربة النقل. وفي حال نفوق الدابة، يتحمل خسارتها العامل، في وقت يتراوح فيه ثمنها بين 400 و550 دولاراً.
أما الرواتب الشهرية على بند المشاريع، فهي 300 دولار، وفي حال انتهاء المشاريع يتم تحويل العمل على بند البلدية برواتب قدرها 220 دولاراً.
"تضع البلدية مجموعة شروط لقبول الأشخاص الذين يستفيدون من العقود المؤقتة، من ضمنها امتلاك الفرد دابّةً خاصةً به، وتطّلع لجنة على مواصفاتها، وسبق أن رُفض عمال نتيجة تقييم الدواب"
ولطالما طالب عمال النظافة بتضمين العقود المؤقتة بتداً بصرف البلديات رواتبهم بشكل شهري، ولكن لم تتحقق غايتهم، إذ تُصرف رواتبهم بشكل غير منتظم، كما يطالبون بتوفير البلديات أدوات الحماية والسلامة في أثناء العمل، من قفازات وأحذية ومعاطف، ما يقلل من المخاطر التي تحدق بهم خلال تأديتهم مهامهم الوظيفية، ودائماً تنتهي مطالباتهم إلى وعود مضللة.
البلديات تبرر موقفها
استطاعت مجالس البلديات في محافظات قطاع غزة الخمس، الهروب من أزمة "ترحيل النفايات"، أي نقلها إلى المكبات، عبر الاعتماد على نظام العقود المؤقتة.
ويشير رئيس قسم ترحيل النفايات الصلبة في بلدية غزة، ماجد سكر، إلى أن البلدية تعتمد على عمال النظافة المدرَجين على بند عقود البطالة، والبالغ عددهم قرابة 250 عاملاً، بدافع سد نسبة العجز الكبيرة في عملية تجميع النفايات.
يقوم قسم ترحيل النفايات، يومياً، بتجميع 700 طن من النفايات في غزة، ويبلغ إجمالي عدد العاملين في القسم 450 عاملاً، منهم 200 موظفين بعقود ثابتة، ويعمل منهم 150 عاملاً في تجميع النفايات وترحيلها، و50 في وظائف إدارية.
ويبلغ عدد العاملين ضمن العقود المؤقتة 250 عاملاً، ويقومون بتجميع 250 طناً، أي بما يزيد عن طن لكل عامل، ويعملون ضمن 35 نقطة تجميع مركزية موزعة في المدينة، ويبلغ عدد ساعات العمل ست ساعات يومياً من دون إجازات.
كل هذه المهمات الحيوية يؤدّونها في وقت لا توفر عقودهم أي حقوق عمالية، سواء على مستوى التأمين أو المعاشات، ويكون عملهم على بند المشاريع بحيث يحق للبلدية الاستغناء عن خدمات أي عامل منهم، من دون قيود تلزمها بأي شيء.
"طرحت بعض الهيئات المحلية طلباتٍ للتعاقد مع عمال نظافة لفترة 66 يوماً فقط، مؤخراً، وهذه الفترة حسب قانون العمل في قطاع غزة، ليست كافيةً حتى يحصل المتعاقد على حقوق عمالية... هذا تحايل على القانون"
ويقول مدير الصحة والبيئة في بلدية خان يونس، جنوب قطاع غزة، عمر مطر، إن عملية ترحيل النفايات تُعَدّ المسؤولية الأهم والأصعب أمام البلديات، في ظل الكميات التي تُجمع يومياً من القطاع، والتي تتجاوز 1،400 طن من النفايات الصلبة، وذلك يدفع البلديات للمضي خلف العقود المؤقتة التي عُدّت الحل الأنسب لتخفيف التكاليف المالية على البلديات، في وقت لا يوجد عدد ثابت لأعداد العاملين بموجب هذه العقود، لتغيّره وفق المشاريع القائمة والأوضاع الاقتصادية.
عقود مخالفة للقانون
يرى المحامي والمستشار القانوني، عبد الله شرشرة، أن "الإشكاليات حول عقود البطالة المؤقتة، ومن بينها عقود عمال النظافة، تنتج جراء تلاعب البلديات بالتغطية المالية كونها مؤقتةً وتشمل فترة المشروع فحسب".
ويلفت إلى أنه "على سبيل المثال، طرحت بعض الهيئات المحلية طلباتٍ للتعاقد مع عمال نظافة لفترة 66 يوماً فقط، مؤخراً، وهذه الفترة حسب قانون العمل في قطاع غزة، ليست كافيةً حتى يحصل المتعاقد على حقوق عمالية. ففي حالة التعاقد لأقل من عام، لا يحصل العامل على حقوق عمالية مالية، وهذا تحايل على القانون".
يطال الانتقاص من حقوق العمال أيضاً، مسألة إصابات العمل، ذلك لأن القانون نص على أنه إذا حالت إصابة العمل دون أداء العامل عمله، يستحق العامل 75% من أجره اليومي.
ويقول المحامي والمستشار القانوني، أنور عاشور، "إن الهدف من العقود المؤقتة هو حرمان العامل من حقوقه بمكافأة نهاية الخدمة، إذ يتم تحديد العقد لمدة أقل من سنة".
وتُخضع البلديات موظفيها الرسميين لقانون الخدمة المدنية، في حين أن عقود العمل المؤقتة، والتي تتم بين البلدية كمشغِّل، وبين العامل، تخضع لأحكام قانون العمل الفلسطيني رقم 7/ 2000، والذي يضمن الحقوق الدنيا للعامل.
وعليه، يشير إلى أن قانون العمل كفل حق العامل بالتعويض عن إصابة العمل، وله حق المطالبة به، بغض النظر عن مدة عمله، ولا يمكن لصاحب العمل التهرب من التزاماته متى ثبت أن العامل المصاب كان يعمل تحت مسؤوليته وإشرافه، وللعامل إثبات ذلك بكافة طرق الإثبات.
وينتقد عاشور سعي أصحاب العمل إلى طرق احتيالية، بهدف حرمان العامل من حقوقه، سواء المكافأة أو التعويض جراء الإصابة، ويؤكد أن القانون وضع مجموعةً من العقوبات على مخالفة أي من القوانين والأنظمة الواردة في قانون العمل، في الباب العاشر منه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون