شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لم تعلّمنا غزّة أن نقول وداعاً

لم تعلّمنا غزّة أن نقول وداعاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 10 يناير 202210:05 ص

وصلتُ إلى باريس في أيلول/ سبتمبر 2017، قادماً من غزة، بعد أن أمضيت أكثر من خمسة أعوام غارقاً في أحلام يقظة تبدأ بسريري، وتنتهي بالمصباح الذي يعلو برج إيفل، وخبز الباغيت، وحلوى الـ"ماكارون". ولا أنكر امتناني للحياة من دون كهرباء في غزة، التي أغرقتني أكثر في عالمي الافتراضي، وقضاء ساعات وليالٍ وعيناي متسمرتان في سقف غرفتي، بصحبة مقطوعات موسيقية عنوانها "موسيقى جاز في مقاهي باريس"، لأتخيل حياتي القادمة الخالية من الحروب والحدود ورجال الشرطة المتنكرين بملابس شيوخ.

اتّسم الشهران الأخيران لي في غزة، بمحاولاتي المستمرة للخروج من "الوطن"، وملامسة الحرية، سواء عبر معبر رفح مع مصر، أو حاجز إيرز مع الأراضي المحتلة.

اتّسم الشهران الأخيران لي في غزة، بمحاولاتي المستمرة للخروج من "الوطن"، وملامسة الحرية، سواء عبر معبر رفح مع مصر، أو حاجز إيرز مع الأراضي المحتلة.

في ذلك الوقت، قبل تحسن العلاقات بين حكومة غزة والسلطات المصرية، كان معبر رفح يفتح مرةً كل شهرين، أو ثلاثة، لفترة لا تتعدى ثلاثة أيام. أما تجربة الوجود في "صالة الانتظار" في الجانب الفلسطيني من المعبر، فكانت أشبه بمشهدٍ من فيلم عن الحرب العالمية الثانية. أطفال ونساء وشيوخ يتكدسون تحت سقف من الصفيح، يحميهم في الشتاء من المطر، ويتّقون في الصيف ببعض ظلّه حر الهجير. تتدلى من الحائط سماعة أكلها الصدأ، تتعلق بها كل آمالهم، فمن خلالها تعلن السلطات عن الأسماء المدرجة للسفر، فيسارعون في التوجه إلى الحافلات، ليبدأ فصل جديد من المعاناة للوصول إلى وجهتهم النهائية، مروراً بصحراء سيناء، وهذا شأن آخر.

كنت وغيري ننتظر منذ السادسة صباحاً في آب/ أغسطس 2017، وآذاننا تترقب ما قد يصدر من هذه السماعة، إلى أن نسمع تشويشها مع بداية الظهيرة، فيسود الصمت، وتكتم الأمهات بكاء أبنائهن، وتتسارع نبضات القلوب، وتتوتر الأعصاب في معاناة بين الخيبة والأمل بأن يسمع كل منهم اسمه من بين المسافرين، أو بالأحرى، من بين الناجين من "السجن الأكبر في العالم".

كان يتم ذكر القوائم مرتين، والمشهد الذي يتبع صمت "سماعة الحرية" متوقع جداً: عائلات تودّع بعضها سريعاً للمرة شبه الأخيرة، وأخرى تندب حظها، وتواجه حتمية البقاء في السجن.

لحسن حظي، لم تصدح هذه السماعة باسمي، على الرغم من استعدادي لدفع 2،700 دولار لأحد سماسرة ما يعرف "بالتنسيق الأمني" في حينه. ولحسن حظي أيضاً، تكفلت القنصلية الفرنسية بإخراجي من غزة عبر حاجز إيرز "معززاً مكرماً"، لأرى بعضاً من فلسطين، ولو عبر نافذة سيارة دبلوماسية لم يُسمح لي بمغادرتها.

أقف في محطة القطار في باريس، وأراقب الناس وهم يودعون ويستقبلون أحبّاءهم، بالدموع والضحكات. وأتساءل: أين تعلموا أن يقولوا وداعاً؟ كيف يستطيعون تقبّل المسافات؟ وما طبيعة اللحظات التي عاشوها خلال أيامهم الأخيرة قبل الفراق؟ وهل يملكون خمسة تطبيقات مختلفة لمحادثات الفيديو؟ 

حطّت طائرتي في باريس، ومضت الحياة كعادتها. أستيقظ كل صباح، وأستقلّ المترو للذهاب إلى جامعتي، أو عملي، أتصفّح الصور على هاتفي وأتساءل: لماذا لا أملك أي صورة مع أمي؟ لماذا لم ألتقط أي صورة لمنزلنا؟ لماذا لم أصوّر أبي وهو يسقي جوريّتنا؟ ماذا كنت أفعل خلال أشهري الأخيرة في غزة؟ ألم أعلم بأنني لن أعود، على الأقل في المستقبل القريب؟

أقف في محطة القطار، وأراقب الناس وهم يودعون ويستقبلون أحبّاءهم، بالدموع والضحكات. وأتساءل: أين تعلموا أن يقولوا وداعاً؟ كيف يستطيعون تقبّل المسافات؟ وما طبيعة اللحظات التي عاشوها خلال أيامهم الأخيرة قبل الفراق؟ وهل يملكون خمسة تطبيقات مختلفة لمحادثات الفيديو؟ أم أنهم يفضّلون التواصل عبر البريد المكتوب كنوع من رفض "رقمنة" المشاعر؟ لا أجد أي إجابة على هذه الأسئلة، لكن تجربتي أوحت لي بأن محطات القطار والمطارات هي أكثر الأماكن التي قد تصيب الغزّي بالإعياء، من "فرط الحرية"، أو ببساطة لأنه لم يتمكن من السفر لأسباب بيروقراطية وأمنية.

محطات القطار والمطارات هي أكثر الأماكن التي قد تصيب الغزّي بالإعياء، من "فرط الحرية"

في غزة، لا نودّع المسافرين ولا نستقبلهم. فلا المغادر من القطاع المحاصر، ولا القادم إليه، متأكدان من وصولهما إلى وجهتيهما، لذلك نوفر على أنفسنا مشقّة الدموع والضحكات والذكريات، متّكئين على النظرية الغزّية الخالدة: "تقلقش".

الحقيقة التي لم تتوقف عن لكمي منذ وصولي إلى مدينة الأنوار وأحلامي، هي أن غزة لم تعلّمني أن أقول وداعاً. لم تقل لي إني سأشتاق إليها، ولم تخبرني بأن رائحة بحرها المعجون بالمياه العادمة ستصفعني في حياتي "الباريسية". ولم يلفت أحدٌ نظري إلى أن أحفاد العائلة سيكبرون، وأنا بعيد. ولم أتخيل أن الشيب سيتضاعف في رأس أبي، وأن أمي ستزيد من صلواتها ودعائها للأحياء والأموات، وأن زوجة شقيقي ستنجب ابنتين لن أقابلهما، ولن أعزف لهما على عودي، وأن ابن شقيقتي سيصبح ضابطاً للإيقاع، من دون أن أكون بجواره قبل صعوده على المسرح للمرة الأولى. لم تخبرني غزة بأن أصدقائي سيغادرونها، وسيتوزعون على دول العالم "الأول"، وأن حواراتنا ستصبح عن الغابات والبحيرات التي نزورها، والضرائب التي ندفعها، وعن تطبيقات المواعدة، وقصصنا معها.

تواصل معي صديق قُبل في منحة دراسية للعام القادم، ليستفسر عن الحياة في أوروبا، وعن الملابس التي يجب أن يشتريها من غزة، وأي أفلام أو مقالات مقترحة للمتابعة، ليهيئ نفسه لإيقاع الحياة السريع. قلت له: "اصطحب أمك إلى مقهى الباقة على شاطئ غزة، وفي طريقك اشترِ بعض الفلافل من أبي طلال، واستمتع بمشاهدة الغروب. ولا تنسَ التقاط الكثير من الصور".

في غزة، لا نودّع المسافرين ولا نستقبلهم. فلا المغادر من القطاع المحاصر، ولا القادم إليه، متأكدان من وصولهما إلى وجهتيهما، لذلك نوفر على أنفسنا مشقّة الدموع والضحكات والذكريات، متّكئين على النظرية الغزّية الخالدة: "تقلقش"

قبل نحو عام، كنت أجلس مع صديقة في أحد المقاهي بالقرب من المكتبة الوطنية في باريس، وبعد أن احتسينا مشروباً ساخناً خالياً من المنتجات البقرية -لأسباب سياسية يصعب شرحها لعائلتي- لم أجد حقيبتي، وسُرق حاسوبي المحمول، وفيه خلاصة عام كامل من بحثي للدكتوراه، وكل ملفاتي من هواتفي القديمة، أي كل ذكرياتي في غزة. كلها تخلت عني، وذهبت بلا عودة.

لأسابيع طويلة بعد خسارتي الفادحة، رافقني إحساس مستمر بالاختناق، والوحدة الشديدة. شعرت بفراغ ملموس في صدري، وكأنني قد سُلبت سنوات من عمري. لذا كان عليّ أن أواجه الحقيقة، وأحاول تصييرها لمصلحتي. صحيح فقدتُ كل صوري، ومقاطع الفيديو الخاصة بحياتي في غزة، لكنها كانت فرصةً لإعادة بنائها، وتجميعها من الأصدقاء والعائلة، محاولاً ترميم صورة ذلك المكان في مخيّلتي، من دون الاكتراث إذا ما كنت سأنجح في ذلك أم لا، فلا الصور المسروقة مثالية، ولا ذكرياتي عن غزة.

لم تعلّمنا غزّة أن نقول وداعاً، واكتفت بلفظِنا خارجَها، فوجدنا أنفسنا موزعين حول العالم البارد، من دون ذكريات واضحة لأيامنا الأخيرة في الوطن/ "السجن"، ولا صور مع أماكننا المفضلة، لتبقى الومضات الأخيرة العالقة في أذهاننا عن ذلك المكان، هي لدموع أمهاتنا، والأسوار التي تحيط بالمدينة من كل اتجاه. أما نحن، فلم نكن سوى سجناء هاربين نحو ما اعتقدنا بأنه الحرية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard