كنت أقف قبل أيام في انتظار دوري لإجراء فحص الكورونا، إذ لم تعد هذه الجائحة أمراً مستجدّاً في ألمانيا، فمنذ أن أصبح دخول معظم الأماكن العامة مشروطاً بفحص سريع "سلبي"، ازداد عدد مراكز الفحوصات في جميع المدن. الخطوات بسيطة وعملية. قبل الدخول، تقرأ الكود الخاص بالمركز عن طريق الهاتف، وتقوم بتسجيل معلوماتك، وتحديد موعد فوري.
راقبتُ تبدّل الأدوار بين الأم والطفل، هذا التبدل الذي يحدث بشكل متكرر في جميع العائلات التي هاجرت مع أطفالها في سن مبكرة.
في أثناء انتظاري الموعد، لاحظت مشهداً مربكاً ليس الأول من نوعه؛ امرأة عربية في الأربعينات من عمرها، بجانب طفلها الذي لا يتجاوز الثانية عشرة من العمر، أوقفتها الموظفة لتسألها عن حجز الموعد. حاولت الأم في بادئ الأمر أن تجيبها بألمانيتها الضعيفة، على الرغم من عدم فهمها الكامل لما تحدثها به، لكنها أحست بعد دقائق بالحرج، وتوجهت نحو طفلها قائلةً له بالعربية: "فهملي شو بدها، قلّا بدنا نعمل فحص سريع". بدوره، أجاب الموظفة على أسئلتها، وشرح الأمر لوالدته. كنت أحدّق في وجه والدته التي بدت ضائعةً ومتوترةً، تنظر إلى طفلها باستفهام كأنه منقذها الوحيد أمام عائق اللغة. راقبتُ تبدّل الأدوار بين الأم والطفل، هذا التبدل الذي يحدث بشكل متكرر في جميع العائلات التي هاجرت مع أطفالها في سن مبكرة، إذ يجيد الأبناء تعلم اللغة بسرعة قياسية مقارنةً بالأهل، فيتولوا مهمات عديدة، كالترجمة في المقابلات، وقراءة الأوراق البريدية، والرد على اتصالات الأرقام الغريبة، وغيرها. يشعر الوالدان غالباً بالعجز في المواقف المشابهة لموقف كهذا، ومع تكرارها يعتريهم الخوف من فقدان احترام أبنائهم لهم، أو قلة ثقتهم بهم، كونهم ضعفاء وجاهلين بالأحداث من حولهم، خاصةً بعد انخراط الأبناء في الحياة الاجتماعية والثقافية البعيدة البعد كله عن مجتمعاتنا.
حاولت الأم في بادئ الأمر أن تجيبها بألمانيتها الضعيفة، على الرغم من عدم فهمها الكامل لما تحدثها به، لكنها أحست بعد دقائق بالحرج، وتوجهت نحو طفلها قائلةً له بالعربية: "فهملي شو بدها، قلّا بدنا نعمل فحص سريع". بدوره، أجاب الموظفة على أسئلتها، وشرح الأمر لوالدته
صعوبة تعلم اللغة هي إحدى الصدمات التي نتلقاها، نحن المغتربين، شباباً وكباراً، عند وصولنا إلى الغربة، وعلى عكس توقعاتنا، لا يختفي عائق اللغة فور تخرجنا من المعاهد، وحصولنا على الشهادات، بل يرتقي هذا العائق درجةً جديدةً بجانبنا في كل مرحلة نعيشها، بدءاً من تعلم الأساسيات، وصولاً إلى تعلم لغة العمل وبناء شخصية مختلفة تتناسب مع تجاربنا في ممارسة اللغة الجديدة. بعد سنوات من العيش في ألمانيا، يبدو هدف إتقان اللغة قريباً وبعيداً في آن واحد. حين نتخطى عقدة المفردات الجديدة، نقع في فخ التداخل بين اللغة والمشاعر، فعلى عكس لغتنا الأم المرتبطة بالذكريات والعواطف، والتي تخفي بين تعابيرها ثقافة مجتمعاتنا، نواجه لغةً مجردةً من المشاعر، وخاليةً من المعاني بالنسبة إلينا، يتطلب منّا التحدث بها مجهوداً مضاعفاً، ويعرّضنا للمزيد من الضغوط النفسية.
في صلب معاركنا مع اللغة، نجد نحن العرب، منفذاً صغيراً للتخفيف عن أنفسنا في مجتمعات صغيرة غير مغلقة تماماً، نتشارك فيها ما يصيبنا من مواقف محرجة، بطرقٍ ساخرة أحياناً، ودرامية أحياناً أخرى.
كثيراً ما نرهق أنفسنا بمقارنات غير عادلة، في الجامعة والعمل وغيرهما، إذ تُضعف اللغة من قدراتنا، وتُعيق تمكنّنا من الإنجاز مقارنةً بالأصدقاء المتقنين لغة البلد، ويُحدث هذا شرخاً صغيراً في ثقتنا بأنفسنا، فنعاقب ذواتنا عليه بلا وعي، وبإجحاف، كأن لا حق لنا بالقليل من الوقت الضائع حتى نستعيد لياقتنا في أرض غريبة عنا، لا يتم استقبالنا فيها غالباً برحابة صدر.
في صلب معاركنا مع اللغة، نجد نحن العرب، منفذاً صغيراً للتخفيف عن أنفسنا في مجتمعات صغيرة غير مغلقة تماماً، نتشارك فيها ما يصيبنا من مواقف محرجة، بطرقٍ ساخرة أحياناً، ودرامية أحياناً أخرى. تحدّثني صديقتي، التي اعتادت منذ طفولتها على التفوق وتحقيق النجاحات، عن شعورها بالدونيّة بسبب ارتباكها الدائم في أثناء وجودها مع الألمان، وبعد كل قصة تلقيها، تردد قولها: "بهل بلد الواحد ما بدو حظ، بس بدو لغة... لغة اعطيني، وبالغربة ارميني". نستعيد في جلساتنا هذه شيئاً من الماضي، نكسر فيه وطأة الغربة، في حين لا يشبه واقعنا في أوروبا الواقع الذي اعتدناه في الدول العربية، ويتطلب منّا القليل من العمل، فيه الكثير من الطاقة النفسية قبل الجسدية، تعيدنا مشاركة القصص التي تواجهنا إلى حلبة شبه آمنة، لسنا الوحيدين فيها.
متى تنتهي هذه المرحلة؟ حين نتحدث لغةً أجنبيةً، نفقد معالم شخصياتنا بين مفرداتها، وتهتز الصورة التي اعتدنا أن نكون عليها أمام الآخرين، الصورة التي عملنا على بنائها لأنفسنا منذ الطفولة، بالكثير من التجارب، وبعد عدد من التغييرات في سنوات المراهقة. لذا، نحتاج إلى إقامة علاقة حقيقية مع اللغة، وخلق ذكريات تربط تعابيرها بمشاعرنا. نحتاج إلى أن نتناسى لغتنا الأم حين نفكر ونقرأ ونتحدث بلغة ثانية، أي أن نعيد بناء أنفسنا مجدداً بالصورة ذاتها.
أذكر كيف كنا نتعامل مع العملات في بداية قدومي إلى ألمانيا، إذ كنا نقارن الأسعار بالليرة السورية، لنحكم على ثمن الأشياء، وكلما أردنا شراء شيء، نسأل أنفسنا: "كم تساوي بالليرة؟"، هذه تماماً الطريقة التي نعامل بها اللغة؛ نحاول ترجمة حياتنا بقواعدها العربية إلى اللغة الألمانية
أذكر كيف كنا نتعامل مع العملات في بداية قدومي إلى ألمانيا، إذ كنا نقارن الأسعار بالليرة السورية، لنحكم على ثمن الأشياء، وكلما أردنا شراء شيء، نسأل أنفسنا: "كم تساوي بالليرة؟"، هذه تماماً الطريقة التي نعامل بها اللغة؛ نحاول ترجمة حياتنا بقواعدها العربية إلى اللغة الألمانية، وكما وصلنا يوماً إلى القدرة على تقييم الأسعار كما هي، من دون مقارنات، ومن دون استرجاع ذكريات الماضي، ربما تكون لعلاقتنا مع اللغة نهاية موفقة أيضاً. وحتى ذلك الحين، لنتقبّل كوننا أقل قدرةً على التعبير، وأكثر حاجةً إلى العمل، من دون الخوض في دوّامات من المشاعر السلبية، وقد نلتقي يومياً بمن يشاركوننا تصادماتنا مع الاختلافات في الغربة، علّ وجودهم يسرّي عنّا، حتى ذلك الحين الذي نجد فيه طريقةً لعيش حياة طبيعية، لا تقلل اللغة من شأننا وقدراتنا فيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون