في رحلته حول العالم يتطرق محمد الثابت إلى نساء العالم من منظور رجل شرقي طاف البلدان بحثاً عن التضاد والبون الشاسع بين المرأة المصرية ونظيراتها في العالم، في وقت كان الشرق فيه ينظر إلى الغرب نظرة المحتل الغاصب، وشعوبه لا سيما نساؤه يعشن متحررات من كل قيد. إنها رحلة المصري محمد ثابت في ثلاثينيات القرن الماضي، التي دونها في كتابه "نساء العالم كما رأيتهن".
محمد ثابت... رحالة ندر التعريف به!
بالبحث عن سيرة محمد ثابت لم نظفر بالكثير من المعلومات سوى فصل قصير للكاتب محمد رضوان في كتابه "سندباد العصر أنيس منصور". يقول رضوان إن محمد ثابت ولد في القاهرة سنة 1900، وتعلق قلبه منذ نشأته بالرياضة البدنية يمارسها في كل زمان ومكان، كما تعلق بالأسفار يقوم بها ليطلع على أحوال البلاد المختلفة ويزيد من معلوماته عنها، وعندما بلغ الثالثة عشرة من عمره، وكان إذ ذاك طالباً بالمدرسة السعيدية الثانوية، قام بأول رحلة له على ظهر جمل من الجيزة إلى سقارة، كإرهاص لما سيقوم به من رحلات فيما بعد.
لما تخرج ثابت في مدرسة المعلمين العليا عُيّن مدرساً للجغرافيا في المدارس الثانوية، ثم مراقباً للنشاط الاجتماعي في وزارة المعارف العمومية، وبعدها عمل عميداً لمعهد المعلمين الابتدائي بالزيتون، ووقع عليه الاختيار لتدريس المواد الاجتماعية في كلية النصر بالمعادي.
يقول محمد رضوان أيضا، إن رحلات محمد ثابت كان يقوم بها في العطلات الصيفية من كل عام، بمجهوده الشخصي وإمكاناته المحدودة، في وقت لم تكن تتوافر فيه وسائل المواصلات الحديثة، حتى أطلقت عليه الصحافة وقتئذ لقب "الرحالة المصري".
وخلاصة رحلات محمد ثابت، وضعها في سلسلة كتب أسماها "العالم كما رأيته"، ووصلت لخمسة عشر كتاباً، منها: "الموجز في الجغرافية القديمة"، و"جولة في ربوع أوروبا"، و"جولة في ربوع آسيا"، و"جولة في ربوع الدنيا الجديدة"، و"العالم الديمقراطي كما رأيته"، وغيرها من الكتب.
انتهت مسيرة محمد ثابت نهاية مأساوية، حين كان يحاضر تلاميذه سنة 1958، وأصيب بنزيف في المخ لم يلبث أن توفي على إثره، بحسب ما ذكره محمد رضوان في "سندباد العصر أنيس منصور".
نساء العالم بعيون محمد ثابت
عام 1940 أصدر الرحالة المصري محمد ثابت كتاب "نساء العالم كما رأيتهن"، وصدّره بمقدمة اعتبرها هدية لنساء مصر، وقد قصّ فيها نبأ أقرانهن في مختلف بقاع الدنيا، بغرض "تقويم ما اعوجّ من ناشئتنا؛ فهن لا شك أمهات المستقبل، وعلى جهودهن الصادقة في خدمة الأسرة المصرية والأخذ بيدها يتوقف كثير من رجائنا في رفع شأن هذا الوطن"، بحسب ما أورده في مقدمة كتابه.
لم يهتم ثابت في حديثه عن رحلاته لرؤية نساء العالم بتوثيق كواليس تلك الرحلات، ولكنه شرع سريعاً في سرد مشاهداته ورؤاه لكل بلد على حدة، بعد أن قسّم كتابه إلى ثلاثة فصول بعناوين رئيسية، هي: "الجنس الأبيض القوقازي"، وقصد به أوروبا والأمريكتين الشمالية والجنوبية، وأستراليا، وإفريقية (دول المغرب العربي)، وآسيا.
أما القسمان الآخران، فهما: "الجنس الأصفر المغولي"، وقصد به اليابان والصين، و"الجنس الأسود الزنجي"، وقصد به ربوع قارة إفريقيا.
وداخل ذلك التقسيم اللوني لنساء العالم، وضع محمد ثابت صوراً لسيدات تلك البلدان، بعضها عاريات تماماً، معقبا أسفل كل صورة بجملة تحمل بعض الغزل، مثل وصفه لإحدى الصور "من آيات الله تسطع في سماء أمريكا"، وأحياناً بجمل تنمرية، كتلك التي يقول فيها أسفل صورة سيدة من أمريكا الجنوبية "سيدات الأروكانا بِسحنهن المُنفّرة"!
بين الافتتان ببعض النساء والتنمر على أخريات
وصف محمد ثابت نساء فرنسا بأنهن "خلعن العِذار وأسرفن في المجون، وتغالين في طلاء الوجوه بشكل مبتذل (...) فنساء فرنسا بحقٍّ قادة العالم في فن الجمال، أما في جمال الوجوه فهن في مؤخرة نساء أوروبا".
على الجهة المقابلة، افتُتِنَ ثابت بجمال المرأة الإسبانية، التي وصفها بأنها "أنثى ليس غير (...) فالإسبانية تعرف بطراوة تقاطيعها وسحر عيونها الدُّعج، وانسجام قوامها، ورقة دلالها، تأخذك برشاقة مشيتها وبديع قدميها وشفيف بشرتها الخمرية، التي تنم عن حُمرة الدم الجذاب".
في حين رأى محمد ثابت المرأة الإيطالية "خمرية اللون، باسمة الثغر، غير متكلفة، رشيقة، هادئة، رزينة، نظيفة، نشيطة، تقوم عند الفجر وتتعهد منزلها"، مؤكداً أن نصف نساء إيطاليا "نصف محجبات لا يُكثرن من الخروج بعيداً عن دورهن؛ فهن أشبه بالشرقيات، وسلطة الأزواج عليهن ملموسة".
في المقابل كانت الألمانية في نظره "لا تعدّ من الجميلات، فهي أقل رشاقة من الباريسية، وخفة من النمساوية، ودلالاً من الأمريكية"، والسبب في ذلك ـ كما يرى ثابت ـ أن المرأة الألمانية "قاست من مساوئ معقبات الحرب طويلاً"!
وعقد ثابت مقارنة بين المرأة في لندن ونظيرتها في فرنسا، بقوله: "النساء في لندن رشيقات، يمشين في وقار ولا يتكلفن في أرديتهن، ولا يطلين وجوههن بشيء إلا نادراً، على عكس ما تفعل الباريسيات. والجمال فيهن نادر، لكنه إن وُجِد كان مفرطاً ساحراً، على أن نسبة الجميلات أكبر منها في باريس، واختلاطهن بالشبان كثير جداً في المتنزهات، وبشكل يَهولنا نحن الشرقيين (...) ونساء إنجلترا ماهرات في نصب الأفخاخ لصيد أزواجهن، ولكن لا يستطعن إقامة أقفاص لحبسهم فيها كما تفعل الفرنسيات"!
ولعل أعجب مقارنة عقدها ثابت في كتابه، تلك التي وضعها بين الرومانيات اللاتي رآهن "نظيفات مسرفات في الخلاعة"، وبين نساء البلغار واليوغسلاف، اللاتي وصفهن بأنهن "أميل إلى القذارة والسذاجة"!
ورصد محمد ثابت ظاهرة طريفة في هولندا، مفادها أن الفتيات اللاتي في سن الزواج يقفن في جانب والفتيان في جانب آخر، ثم تبدأ بين الفريقين حرب بالوسائد، وخلالها يتخير كل زوجته!
عبّر ثابت عن دهشته لما رآه في الدنمارك، من أن النساء هناك يتساوين في المستوى الثقافي مع الرجل تماماً في الناحيتين العلمية والعملية على حد سواء "حتى الأثرياء منهن لا يجدن عاراً في العمل للكسب مع الرجال"!
رأى ثابت الطابع العربي يسود أهل أمريكا الجنوبية "فالملامح العربية واضحة في تقاطيعهم، وخمرية ألوانهم، وسُمرة عيونهم، وسواد شعورهم"، وهو عكس ما رآه في أمريكا الشمالية، أو كما يقول: "كأن الإباحة هناك قد بلغت غايتها وامتنع الحياء بتاتاً، والمدهش أن ذلك لم يكن يسترعي من المارة لفتة استنكار أو امتعاض"!
نساء المغرب العربي
لما وصل الرحالة محمد ثابت دولة المغرب، رأى نساءها أفتح لوناً من المصريات، والسبب في رأيه أن شعبها "دخلهم الدم الأوروبي يوم كانت إسبانيا متصلة بإفريقيا". أما في تونس فقد راقه "مسير السيدات في أُزُرهن البيضاء الناصعة من الحرير الموشى، وكأنهن الملائكة يسرن على بُعد".
وفي الجزائر انحدرت قدماه ـ على حد وصفه ـ إلى ناحية من تلك الأزقة المتعرجة، وإذا به "وسط مجموعة من بيوت يجلس على أبوابها نساء، هن خليط من الوطنيات والفرنسيات في شكل ينافي الآداب، يتعرضن للمارة ويحاولن ضمهم إلى صدورهن أو تقبيلهم (...) يتمايلن ويتهادين ويُشرن إلى أماكن مُنكرة من أجسادهن العارية (...) وقد عن لي أن آخذ بعض صورهن الفوتوغرافية خلسة، وما كدن يبصرن بي حتى ثارت ثائرتهن وتجمعن حولي وأفسدن الفيلم"!
نساء آسيا
اختلفت رؤية محمد ثابت لقارة آسيا عن غيرها مما ذكر في كتابه، فندر في هذا الفصل إفراد المساحة للحديث عن النساء بقدر ما أسهب في الحديث عن العادات، فمن تلك النوادر، ما قاله عن سوريا بأن الإنسان "لا يكاد يفرق المرأة من الرجل في الهندام، فهو سروال ضخم وقميص، ثم حزام عريض، وتلف المرأة حول الرأس عصابة سوداء. وهن سافرات، ويُكثرن من التزين بالجواهر والحُليّ".
ورأى ثابت أن نساء تركيا رغم سفورهن "بعيدات عن الخلاعة والإسراف في التزين"، أما نساء العراق فلفت نظره "شعورهن المرسلة الغزيرة التي تزيدهن جمالاً، ويقولون إن الحنّاء التي يغسلون بها الرأس عن الاستحمام هي سبب ذلك".
وعلى عكس العراقيات رأى محمد ثابت أن نساء إيران "يَسرن نصف محجبات (...) وجمالهن فائق لولا طول الأنوف وتحديبها، وهن أكثر حرية من نساء العراق". ونساء أفغانستان كما رآهن "محجبات لدرجة مبالغ فيها".
بيد أن ثابت لم يجد وقتاً في الهند لتفحص النساء، بقدر كما استرعته العادات الغريبة هناك، وحين يذكر نساء الهند، يقول: "خليط عجيب لا أول له ولا آخر، بوجوههن الممطوطة، وأجسامهن الهازلة وألوانهن السمراء القاتمة".
الجنس الأصفر المغولي
خصص محمد ثابت في هذا الفصل دولتين فقط هما اليابان والصين، فقال عن نساء الأولى، إنهن ملفوفات في "حرائر مهفهفة وألوان فنية ساحرة، وتحاول كل سيدة ألا تلبس من لون سبقتها إليه غيرها"، ورغم ذلك لم يرهن جميلات، فيقول: "ورشاقة الفتيات بالغة، رغم ما يعوزهن من جمال، إذ لا تزيد نسبة الجميلات على خُمس فتيات اليابان جميعاً في سن النضارة، وهي ما بين الثالثة عشرة والتاسعة عشرة، وبعدها يبدو عليهن الهِرم عاجلا كالمصريات".
ويرجع ثابت السبب في "الهرم السريع لفتيات اليابان" إلى البلاد التي يقصر فيها أمد الشفق، فبحسب نظريته "لوحظ أن جمال السيدات يظل طويلاً كلما طال زمن الشفق".
أما نساء الصين، فلم يزدن جمالاً عن قريناتهن اليابانيات، حيث رآهن ثابت ذوات "عيون منتفخة، وخدود ناتئة، وأنوف فطساء، وأفكاك بارزة، وقامات قصيرة (...) وسراويل قصيرة تُظهر جمال الأقدام الصغيرة المشوهة"!
نساء القارة السمراء
حديث محمد ثابت عن نساء القارة السمراء، هو جزء من مشاهدات سابقة في كتابه "جولة في ربوع إفريقيا"، وفي كليهما أفرد مساحة كبيرة للحديث عن الجغرافيا والعادات الخاصة بالزواج، وحين يجد الفرصة للحديث عن المرأة في كتابه "نساء العالم كما رأيتهن" يبدي اندهاشاً من العادات، كما ذكر عن نساء السودان أنهن يحمين البكارة من العبث "بأن يُخاط الفرج وهي طفلة، وعند الزواج تُقدم الزوجة أول هدية للزوج من سكين ليفض الرجل بها بكارتها!"، وعلى شاكلتها روى ثابت العديد من العادات الغريبة في دول إفريقية عدة مرفقاً إياها بصور معبرة.
محمد ثابت ورحلاته كما رآها النقاد
ما رصده ثابت في كتابه أبعد ما يكون عن أدب الرحلة من جهة، ومن جهة أخرى ينم عن تسليع للمرأة، التي أغفل أن لها كياناً وعقلاً أجدر بعقد المقارنات، وليس وصف المحاسن، وذم ما يراه من مساوئ شكلية.
يُعاب على محمد ثابت في رحلاته أيضا أنه لم يصف رحلاته بدقة تشعر قراءه بأنها تلازمه في حركاته وسكناته، ذلك العيب اضطر الجغرافي المصري محمد عوض محمد أن يفرد له مقالة كاملة في "مجلة الرسالة" في شهر نيسان/أبريل عام 1933، قال فيها: "ضاع حديث الرحلة بين الفصول الجغرافية كما تضيع قطع الذهب وسط أكوام من التراب فكنت أجده لأقل المناسبات يترك موضوع الرحلة تماماً، ويأخذ في كتابة فصل جغرافي في شيء من الإسهاب".
أما عن نظرة محمد ثابت للمرأة في كتابه، فاعتبرته الناقدة الأدبية فريدة النقاش رؤية تخص ثابت وحده وقلة من الكتاب في ذلك الوقت، إذ ترى أن "نظرة الكتّاب للمرأة منذ مطلع القرن العشرين نستطيع وصفها بالإيجابية، وليس فيها ما يحط من شأنها إلا لدى قلة قليلة".
ومن هذا المنطلق، ترى فريدة النقاش أن ما قاله محمد ثابت لا يعبر إلا عن نفسه فقط، وليس عن زمنه ككل، وفقاً لما أوردته في حديثها لنا.
وتقول الدكتورة عزة هيكل، عميدة كلية اللغة والإعلام بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا، وأستاذة الأدب المقارن، في معرض حديثها لنا إن كتّاب الأربعينيات الذي جايلهم محمد ثابت، حصروا المرأة في الدور الذي كانت تؤديه في الواقع، حيث الحبيبة أو العشيقة أو الأم، ذلك أن غالبية نساء هذا العصر كن كذلك فعلاً.
وتؤكد عزة هيكل أن رغم ذلك الرصد، لم نجد كاتباً يحط من شأن المرأة، منذ رواية "زينب" التي تعد أولى بذور ذلك الفن الأدبي، وكذلك ما كتبه توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، حيث تعاملوا جميعاً مع المرأة بالشكل الأنثوي فقط، ومجرد رصد لواقع ليس فيه حالات نسائية يكسرن القواعد أو تخرج للعمل وما إلى ذلك، لكنها أبداً لم تجعل منها سلعة، تقيَّم بحسب الجمال الشكلي فقط!
وتضيف عزة هيكل، أن كل ذلك تغير في النصف الثاني من القرن العشرين، وتحديداً عقب ثورة يوليو 1952، منوهة بأنه "مع تغير المجتمع وتطور المجال العام، رأينا المرأة في الأعمال الأدبية متحررة، كما في أعمال لطيفة الزيات وإحسان عبد القدوس، وغيرهما من الكتاب".
وبسؤالها عن الرحالة محمد ثابت وأدب الرحلة بوجه عام في مصر، أكدت عزة هيكل، أن مصر لم تبرع في هذا اللون الأدبي، رغم أن العرب كانوا أبرع الناس فيه قديماً، لكنه أخذ في التطور عند الغرب، ولم يجد التطور ذاته في الدول العربية، ومن ثم تأتي كتابات محمد ثابت بها قصور لا يناسب هذا المجال، ومن جاء بعده مثل أنيس منصور الذي حاول الكتابة في أدب الرحلة، فكانت النتيجة أقرب إلى الصحافة وليس الأدب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 6 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت