شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
من الورقي إلى الإلكتروني... رحلة غرق 700 كتاب تحت مطر عمان

من الورقي إلى الإلكتروني... رحلة غرق 700 كتاب تحت مطر عمان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 4 فبراير 202211:10 ص

بشكل عام، لا أحبّ الهدايا المتعلقة بالورود والأشجار. ليس لأنني لا أحبّ رؤيتها، لكن لأن اقتناءها لا يدهشني. أحزن كثيراً لرؤية هدية على شكل باقة ورد، على الرغم من حبي الشديد للهدايا، ففرحتي بها تضاهي فرحة طفل صغير. لكن الوردة كهدية، لا تعني لي سوى أنها هدر، لا داعي له، لحياةٍ كانت موجودةً على الأرض. أما النباتات والأشجار، فأحزن أيضاً حين تصلني كهدية، لمعرفتي المسبقة بالنتيجة! الموت لكائن حي في منزل إنسانة لا صبر لها على الالتزام بالعناية بها. أحب أن أُمتّع نظري بالأخضر وأشم رائحته فحسب، من دون أن أقتلعه أو أقتنيه.

تغيّر شعوري قليلاً تجاه الورد المقطوف حين انتقلت مؤخراً من عمّان إلى تونس، حيث أمشي في الشوارع وعلى ضفاف بحيرتها وكورنيشها وأستمتع بمنظر بائعات الفل والياسمين وبائعيهما، وبات يدهشني حب التونسيين لشرائهما، إذ يلبسونهما عقوداً على أعناقهم، ويتباهون بالمشموم التونسي على شعرهم، ويشترون الورود بسبب ومن دون سبب. كانت تدهشني فرحتهم المتجددة بالورود العطرة، لكن شعوري لم يتبّدل كثيراً ليدفعني لشرائها.

للمرة الأولى في حياتي، تسكن مكتبتي في منزل، وأنا في منزلٍ آخر، بل في قارة أخرى، فبقيت "هي" في عمّان، فيما أخذتني رحلة العبور من مغامرة إلى أخرى للعيش في تونس.

وعلى الرغم من مشاعري هذه، لم أكن سابقاً ممن يحزنون على الشجر المهدور من أجل صناعة الورق؛ بل كنت أحب الورق. أحب أن أشتريه على شكل دفاتر وكتب، وأشمّ رائحته وأتلمس سطحه وأستمتع بالكتابة عليه. أزور المكتبات ومعارض الكتب في كل بلد أسافر إليه، وأصرف مبالغ كبيرةً، وأحرص على أن تظل مكتبتي متجددةً، ومليئةً بالكتب.

مكتبتي... التي ما زلت أحبها حتى اليوم، على الرغم من انفصالي عنها عاطفياً، وشفائي منها، كانت أحد مصادر سعادتي وفخري الأساسية، والثابت الوحيد في حياتي، تتنقل معي أنّى ذهبت، من دون تعب من مشقة لملمة الكتب في صناديق، ومن ثم إعادة ترتيبها. انتقلت معي إلى خمسة منازل قبل أن تستقر، مؤخراً ومجدداً، في منزل عائلتي. وللمرة الأولى في حياتي، تسكن مكتبتي في منزل، وأنا في منزلٍ آخر، بل في قارة أخرى، فبقيت "هي" في عمّان، فيما أخذتني رحلة العبور من مغامرة إلى أخرى للعيش في تونس.

كانت حتى العام 2014 تضم ما يصل إلى ألفَي كتاب، منها ما هو نادر، ومنها ما يحمل إهداءات كتّابي المفضلين، ومنها ما يضم خطوطاً وأفكاراً دوّنتها على صفحات الكتب، لتظل شاهدةً على الاختلاف الذي يشهده عقلي عاماً بعد عام. أعود إليها وأقرأها لأثبت لنفسي أنني ما زلت حيّةً، أتطور ولا أخشى أن أستبدل أفكاري بأفكار أخرى جديدة.

في بداية العام 2014، اشتريت كتاباً إلكترونياً، بعد أن قرأت الكثير عن أهمية التحوّل إلى القراءة الإلكترونية، لحماية الشجر والأرض واستمرارية البشر عليها. كان اقتنائي "الكتاب" يمهد لخسارات قاسية سأظل أتذكرها بكل أسف وأسى. حاولت كثيراً أن أعتاد على "الكتاب"، وما أن أبدأ بالقراءة عليه، وأجدني مشدودةً إلى ما أقرأ، أركض نحو المكتبة لأقوم باقتناء الكتاب ورقياً، ومواصلة القراءة كما اعتدت وكما أحب. أصبح استخدامي للجهاز الإلكتروني وسيلةً لتوفير المال. أبحث عن الكتاب عبر الإنترنت، ثم أقوم بتنزيله وأبدأ بقراءته. إذا أعجبني أشتريه، وإن لم أجد فيه أهميةً تُذكر، أحتفظ بأموالي لنفسي، وأواصل أو لا أواصل قراءته إلكترونياً، وعددت أن امتلاكي هذا الجهاز صفقة رابحة ولا بد.

كانت تضم مكتبتي كتباً نادرةً من مقتنيات والدي، ضممتها إلى مكتبتي حين أعلنت والدتي أنها لا تريد المزيد من الكتب في المنزل، وكانت تضم كتباً فيها قيمة معنوية ورمزية أهم بكثير من قيمتها المادية، ضاع الكثير منها، تحديداً 700 كتاب، تحت الماء

مكتبتي، التي كانت ترحل معي من مكان إلى مكان، عادت معي في الربع الأخير من العام 2013 إلى منزل عائلتي، حين عدت للسكن معهم بشكل مؤقت في الشقة الصغيرة الملحقة بشقتهم. منزلٌ صغير، حميمٌ وجميل، أواصل فيه بناء أحلامي. يقع منزلنا في أحد أحياء عمّان الغربية العادية جداً، ولا يتميز شارعنا الصغير عن أي شارعٍ آخر من شوارع أحياء المدينة؛ فيه الحفر نفسها التي نقع أو تقع سياراتنا فيها، ومصارف المياه نفسها التي تفيض كل شتاء، ولا يمكنني أبداً أن أتغنى وأنا في طريقي عودتي اليومية من العمل إلى المنزل، بقصيدة درويش "الطريق إلى البيت أجمل من البيت"، بتضخيم الـ"ج" ومطّ الـ"ي". ولكن المنزل الذي لا يقع في حي مميز، كان يقع في بقعة مميزة في قلبي، ولا ينقصه من الحب والدفء سوى أن تدخله الشمس المختفية فوق الأرض. إلا أن فكرة العيش في شقة تحت الأرض، في ذلك الوقت، كانت مناسِبةً تماماً لمزاجي العام.

حين اشتريت الكتاب الإلكتروني، كنت ما زلت أحاول التأقلم مع المتغيرات الكثيرة في حياتي. كان شراء الكتاب يمثّل حالتي إلى حد كبير، ومحاولةً للتغيير وكسر التقاليد (التي أحبها والتي لا أحبها)، وإيجاد ملاجئ جديدة أذهب إليها. كان الكتاب الإلكتروني يشبه رغبتي في التغيير وخوفي منه، كما لو أنني أضع قَدماً في الشمس، والأخرى في الظل، وأود لو تبقى معي الشمس وظلها في الوقت نفسه. هي رغبتي الدائمة في الشيء ونقيضه في وقت واحد؛ كانت تعبيراً عن التخبط الذي ينتابني، والذي شكّل جزءاً كبيراً مما أنا عليه اليوم.

في أحد أيام شتاء العام 2014، ولمن لا يعرف شتاء عمّان، فهو شتاء حنونٌ يقصّ برده عظام الجسم، ويجمّد خلايا الدماغ، ويعمل نسيم هوائه على شلّ قسمات الوجه من أي حركة، ولا تتوانى أن تتجمد فيه الأحلام والكوابيس. وعلى الرغم من أن شتاء عمّان مظلم وبارد وطويل، إلا أن المطر فيه قليل، لكن قليله كثير، إذ يكفي أن تمطر الدنيا ساعةً متواصلةً، حتى تغرق شوارع المدينة بأرصفتها وأنفاقها... وأحياناً كثيرة بيوتها.

في كل الأحوال، في ذلك الشتاء من ذلك العام تحديداً، تبادل الأردنيون الكثير من النكات والصور للبلد الغارق تحت الماء، صورٌ لسيارات تحوّلت إلى قوارب، وأشخاصٌ يسبحون في أنفاق المدينة، وقد تمّ التلاعب بالصور لتضاف إليها صورٌ لحيتان تسبح معهم... تبادلت أنا أيضاً هذه الصور والنكات، وضحكت عليها قبل أن أبكي، وأنا أحاول جهدي ألا أغرق في محاولة الوصول إلى منزلي المؤقت. ثم حدث ما لم أكن أتوقّع…

وصلت، ولم أغرق، لكن منزلي كان غارقاً بمزيج من ماء المطر ومجاري الشارع التي فاضت. كان الماء يدخل ويخرج من كل مكان، من باب البيت وشبابيكه، وحتى من بالوعة الحمام. وكانت تمتزج دموعي وأنا أرى الرف الأخير والذي يعلوه في مكتبتي، غارقَين تماماً في الماء، ومما زاد من حزني، أن أرى هدايا عيد ميلاد طفلي، الذي احتفل بعيده السادس قبل يوم واحد من الحادثة، تغرق أيضاً في الماء الموحل.

شعرت بغصة لا مثيل لها. أتذكر يومها أنني التقطت صورةً للمكتبة، ونشرتها مع تعليق وحيد: "مسبة... بمحلها تسبيح". موجة الغضب والحزن التي انتابتني كانت كبيرةً. كبيرة لدرجة أنها أخرجت كل أوجاعي وغضبي تجاه ما حدث، وما كان يحدث معي، دفعةً واحدة. وهذا هو الشيء المضحك في الألم القديم؛ أنه ينتظر ظهور وجع قلبٍ جديد، ليسيطر علينا مجدداً، ويمتزج مع الحدث الجديد ليتحالفا معاً ضدك، ويصير الكون كله في تلك اللحظة، ضدك أيضاً. وهذه مبالغات دماغ الموجوع؛ يبث إشاراته إلى حواس الجسد والروح كلها، ويأمرها بالهجوم الفوري ودفعةً واحدة.

صرت أعد الكتب التلفانة، وفكّرت في أنني لو قمت ببيعها بدينار واحد، لجمعت ثروةً صغيرةً أعيش عليها شهراً بأكمله. صرت أتفقد الكتب النادرة والمجلدات الثمينة، والكتب التي استعرتها من أصدقاء، وبخلت بإعادتها لهم، وكلما وجدت كتاباً تحت الماء، تزداد الغصة. كانت تضم مكتبتي كتباً نادرةً من مقتنيات والدي، ضممتها إلى مكتبتي حين أعلنت والدتي أنها لا تريد المزيد من الكتب في المنزل، وكانت تضم كتباً فيها قيمة معنوية ورمزية أهم بكثير من قيمتها المادية، ضاع الكثير منها، تحديداً 700 كتاب، تحت الماء.

أبحث ساعاتٍ وساعات على الإنترنت حتى أجد الكتاب الذي أريده مجاناً، من دون أي شعور بالذنب، وألجأ إلى شرائه إلكترونياً، فقط حين تفشل المحاولات.

حاولت إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الكتب، لكن بعد أشهر عدة، ومع كل الحلول التي وجدتها على الإنترنت، كان العفن والرائحة الكريهة والورق المصبوغ بالماء الملوث، أسياد الموقف... إني أغرق أغرق أغرق. حينها قررت أنني لن أحزن مرةً أخرى بسبب كتاب، ولن أصرف قرشاً إضافياً على ورق، وبدأت رحلتي الرقمية؛ رحلة هواجسها بحماية خصوصيتي توازي تعلّقي بسهولة الحياة معها.

تخليت عن دفتر ملاحظاتي، واستبدلته بهاتفي وحاسوبي، وتخليت عن شراء الكتب، واستبقيت كتابي الإلكتروني. أبحث ساعاتٍ وساعات على الإنترنت حتى أجد الكتاب الذي أريده مجاناً، من دون أي شعور بالذنب، وألجأ إلى شرائه إلكترونياً، فقط حين تفشل المحاولات.

قبل أسابيع، التقيت بأحد الكتّاب صدفةً في المقهى، وكنت أحدثه عن روايته التي أقرأها. وفي منتصف الحديث، سألني إن كنت أقرأها ورقياً أو إلكترونياً. وبكل الارتباك الذي يسببه الخجل من النفس، اعترفت بأنني أقرأها إلكترونياً. شعوري بالخجل من أنني "سرقت" الكتاب المتاح إلكترونياً من دون حسيب ولا رقيب، وتالياً سرقت جهد الكاتب، دفعني للبحث عن النسخة المدفوعة من الكتاب الإلكتروني لشرائه. لم أجده وانتهي سريعاً شعوري بالذنب والخجل، وحلّ محله شعوري بالحزن لضعف المكتبة الإلكترونية باللغة العربية.

لكن ما حدث أعادني مرة أخرى إلى التفكير بالشيء المضحك في الألم القديم، وكيف يتربص بنا ليتحالف ضدنا، وبالطبع ما حدث ليس ألماً ولا حتى يقترب من الألم، ولكن لسبب مجهول ومضحك أوصلني إلى مناطق في ذاكرتي حرصت ببراعة على إخفائها وعدم تفكيكها، ولم أحاول البحث عن أسبابها بقصد، ومن دون أن أعرف لماذا، ولعلني لا أريد أن أدرك الـ"لماذا" هذه.

أعود اليوم للكتابة بعد انقطاع سنوات. انقطاعٌ لا أستطيع تفسيره، ولا أعلم إن كنت سأستمر في الكتابة، الممارسة الأحب إلى قلبي. لكنني كتبت لأذكّر نفسي بكل المخاضات والتناقضات التي تجاوزتها منذ حادثة الغرق، وحتى اليوم. وأعترف بكل كتاب إلكتروني استمتعت به لأنني تحررت من ثقل التعلق بالأشياء، لأمارس حريتي كما أحب

ولكني أعود اليوم للكتابة بعد انقطاع سنوات. انقطاعٌ لا أستطيع تفسيره، ولا أعلم إن كنت سأستمر في الكتابة، الممارسة الأحب إلى قلبي. لكنني كتبت لأذكّر نفسي بكل المخاضات والتناقضات التي تجاوزتها منذ حادثة الغرق، وحتى اليوم. وأعترف بكل كتاب إلكتروني استمتعت به لأنني تحررت من ثقل التعلق بالأشياء، لأمارس حريتي كما أحب، إذ تصبح الحقيقة خياراً شخصياً يساهم في المضي قدماً، والاستمرار في محاسبة النفس، ومواجهتها تتحول من سوط لجلد الذات إلى مرآة للوقوع في حبها.

عندما أنظر إلى حياتي، أشعر أحياناً بالانزعاج، وربما بالغضب من التفكير في بعض الأشياء التي قلتها وفعلتها، ومن بعض قرارات اتّخذتها بكامل حريتي. لا أعلم إن كنت أتمنى تغييرها خوفاً من تغيير مجرى حياتي اليوم، لكن هذه المشاعر تظل مثل بوصلة تحدد اتجاهاتي، مثل الـ(GPS) الأخلاقي الذي يتيح لي معرفة أن الاتجاه الذي اخترته كان عادلاً ومتسقاً مع مبادئي، وفرصة تغييرٍ مستمرةً للطريقة التي أريد أن أرى نفسي فيها، قبل أن يراني الآخر، وأن أكون مختلفةً كما أريد.

أن نكون صادقين ومتصالحين مع أنفسنا، ما هي إلا معادلة بسيطة؛ إما أن نعيش في إطار المبادئ التي نؤمن بها وتشكّل كل ما نحن عليه، أو أن نعيش خارجها.


*ملاحظة: بعد أن أكملت الكتابة، أرسلت النص إلى صديقتي لأسألها ما إذا كان يستحق النشر، فطلبت مني أن أرسل إليها جملةً تعريفيةً قصيرةً لتضعها إلى جانب اسمي؛ لم أجد ما أُعرّف نفسي به. أنا امرأة حلمت بأن تكون صحافيةً، فكتبت قليلاً، وأحبّت الموسيقى فنظّمت بعض المهرجانات والأمسيات الموسيقية، وإنسانة خافت على حقوقها وحريتها فاشتغلت في الدفاع عنها والمطالبة بها، وأردنية لكن جذورها الكردية علّمتها الانتماء إلى الإنسان وقضاياه قبل الانتماء إلى الأرض، وما يزال حلمها حيّاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image