بينما كان العالم يدخل الحجر الصحي عام 2020، كان مؤمن سويطات، المخرج والباحث الفلسطيني في مجال الموسيقى والفنون الموسيقية العالمية وتحديداً الفلسطينية، وزملاؤه، يعملون على إخراج فيلم عن حياة جوليانو مير خميس، ويتجوّلون في حيفا وقيسارية للتصوير، حين أُعلِنَ عن إغلاقٍ شامل يوقف كلّ مناحي الحياة بسبب فيروس كورونا.
"اتصلت بصاحب المحل طالباً منه أن يفتح المحل لي في ظل الحجر. تعاونه ساعدني جداً، إذ تركني طوال الفترة التي قضيتها في فلسطين، داخل محل الكاسيتات أسمع الموسيقى وأُؤرشفها"
قام زملاء سويطات الألمان بإيصاله إلى حاجز الجلمة، بينما عادوا أدراجهم للسّفر عبر مطار اللّد الدّولي، عائدين إلى بلادهم. لم يتمكن مؤمن بطبيعة الحال من العودة معهم إلى لندن، مكان إقامته، بسبب عدم حيازته أي جواز سفرٍ آخر سوى الفلسطيني الذي يمنعه من دخول مطار اللّد. في الوقت ذاته، تمّ إغلاق معبر الملك حسين مع الأردن، وإغلاق مطار الملكة علياء في عمّان، مما يعني بقاء سويطات محجوراً في الضفة الغربية، بين أزقّة مخيم جنين، كما في طفولته.
في حديث مع مؤمن حول بقائه في جنين، بسبب إغلاق مناحي الحياة كافة، قال لرصيف22: "لم أعرف في البداية ماذا سأفعل في ظلّ هذا الحجر الذي من غير المعروف متى سينتهي، فصرت أبحث في ذاكرتي عن ذكريات الطفولة بين أزقة المخيم، وتذكرت أنه مقابل بيت جدّي في المخيم، كان هناك محل لبيع الكاسيتات والأشرطة، مكوّن من ثلاثة محالّ كبار، وكنت أزورهم دوماً في طفولتي، وأسألهم عن أنواع الموسيقى المشغَّلة، وأسماء الفرق الموسيقية التي تغنّي. اتصلت بصاحب المحل طالباً منه أن يفتح المحل لي في ظل الحجر. تعاونه ساعدني جداً، إذ تركني طوال الأشهر الثمانية اللاحقة التي قضيتها في فلسطين، داخل محل الكاسيتات أسمع الموسيقى وأُؤرشفها. من ضمن الكاسيتات التي استمعت إليها، كانت كاسيتات فرقة وطن، وفرقة القصر، وفرقة عيلبون، وفرقة الجذور، وفرقة البراعم، والنسر الأسود... لم يكن هدفي من هذا البحث الاستماع إلى الأغاني الوطنيّة فحسب، بل البحث عن فرقة ما، ربما كانت تصنع الجاز في سبعينيات القرن الماضي، وثمانينياته".
رحلة إلى الماضي
يقول مؤمن عن رحلته في الاستماع إلى أكثر من أربعة آلاف كاسيت من زمن الانتفاضة الأولى، وما قبلها: "في أثناء الاستماع إلى هذا الكم الهائل من الكاسيتات، لم أكن قد وضعت خطةً للتعامل معها، وجدت تقريباً 500 كاسيت من الانتفاضة الأولى فقط. لم تكن هذه الكاسيتات مكررةً، إنما كاسيت واحد لكلّ نوع. لكن ما عرفته هو أني لا أوّد الخروج من المكان من دون شرائه كاملاً. من ضمن الأشرطة التي وجدتها كان كاسيت 'الانتفاضة' لرياض عوّاد".
من هو رياض عوّاد؟
في حديث مع الدكتورة حنان عوّاد، المستشارة السابقة للرئيس ياسر عرفات للشؤون الثٌّقافية وعضو المجلس الوطني، وشقيقة رياض عوّاد، صاحب كاسيت الانتفاضة، قالت: "كانت الانتفاضة في بدايتها، والشعب الفلسطيني بكل فئاته مشغولاً بالنضال بكل الوسائل المتاحة، وكان أخي رياض حينها ملتزماً بالفكر الثوري، ويتابع بكل اهتمامٍ ما يجري في الشارع، ويثور أمام الأخبار حين يرى الدم الفلسطيني مهدوراً، فيجلس مع نفسه ساعاتٍ طويلةً، ويبدأ بكتابة نصوص حول المقاومة، وكلما كتب نصّاً أطلعني عليه. كانت المحال التجارية تغلق أبوابها في الساعة الثانية عشرة ظهراً، حسب برنامج الانتفاضة، وكان أخي يملك محلاً خاصّاً للأدوات الموسيقية، بالإضافة إلى الأدوات الكهربائية والإلكترونية، وعند إغلاق المحال كان يعود إلى البيت للعمل على تأليف كلمات الألبوم والألحان إذ كان هذا الأمر شغله الشاغل".
"وجدت تقريباً 500 كاسيت من الانتفاضة الأولى فقط. لم تكن هذه الكاسيتات مكررةً، إنما كاسيت واحد لكلّ نوع. لكن ما عرفته هو أني لا أوّد الخروج من المكان من دون شرائه كاملاً. من ضمن الأشرطة التي وجدتها كان كاسيت 'الانتفاضة' لرياض عوّاد"
في تلك الفترة، كان كلّ من يمر بجانب بيتهم يسمع الألحان الثائرة، وكلما أنهى رياض عوّاد عملاً موسيقياً، أقبل عليه أصحاب المحال الموسيقيّة للاستماع إليه، يأخذون الأغنية وينشرونها في محالّهم في القدس ثم امتدت لاحقاً إلى بقية المدن الفلسطينية، وكلما عبر شخص شارع صلاح الدين في مدينة القدس، يسمع أغاني عوّاد مع مكبرات الصوت يرافقها تفاعلٌ كبير من الشباب في الشوارع.
"في أحد أيام الانتفاضة، بينما كانت الموسيقى تخرج من محل رياض عوّاد في شارع صلاح الدين، والمواجهات أمام المحل تزداد اشتعالاً، التفّ جنود جيش الاحتلال من الشارع الآخر، وقاموا باعتقال عوّاد، وصادروا جميع الكاسيتات في المحل. لاحقاً حين تم الإفراج عنه، تابع عمله في مجال الموسيقى مُصدِراً شريطاً آخر عن الانتفاضة، وظلّ ملاحَقاً طوال تلك الفترة، بسبب نشاطه السياسي.
عن هذا تضيف حنان: "قام رياض بعد إطلاق سراحه بتأسيس العديد من المراكز الفنية في مدن فلسطينية عدة، وقام بتدريس الشباب الموسيقى وأهميتها في النضال الوطني، وأمام كلّ الظروف، تابع رياض بكل ثقله وإمكاناته، ليكون 'شريط الانتفاضة' أوّل شريطٍ يصدر في الانتفاضة. ونحن كعائلته، وقفنا معه مشجعين وداعمين ننتظر منه تقديم كلّ جديد في المجال الفني، وقد سانده والدي بشراء الأدوات التي يحتاجها لمساندته في عمله الفني. عُقدت له مهرجانات عدة في الجامعات الفلسطينية، وفي جامعة بيرزيت، وانتشرت أغانيه في جميع المواقع الفلسطينية، وقامت الصحف بتغطية نشاطاته".
حقائب السّفر في غرفة التحقيق
بالعودة إلى مؤمن سويطات، يحكي لنا حول تجربته في نقل الكاسيتات والأشرطة التي اشتراها من الضفة الغربيّة لإعادة إنتاجها، عبر جسر الملك حسين، ومطار الملكة علياء الدّولي، إلى لندن، حيث يقيم. فيقول: "بسبب قضائي وقتاً طويلاً في لندن، ومن خلال عملي وعلاقاتي الواسعة مع العديد من الفنانين العرب المقيمين في المدينة، مثل: فرقة 47 سول، وشادية منصور مغنية الراب الفلسطينية، ولقائي مع هؤلاء الفنانين تقريباً بشكلٍ أسبوعي، ومعارفي الواسعة في المجال الفني والمسرحي هناك من مختلف الجنسيات، كنت قد شكّلت فكرةً حول موضوع إعادة إنتاج الأشرطة والكاسيتات القديمة وتوزيعها".
"في أحد أيام الانتفاضة، بينما كانت الموسيقى تخرج من محل رياض عوّاد في شارع صلاح الدين، والمواجهات أمام المحل تزداد اشتعالاً، التفّ جنود جيش الاحتلال من الشارع الآخر، وقاموا باعتقاله، وصادروا جميع الكاسيتات"
ولهذا، وخلال إقامته في فلسطين، قام سويطات بشراء كافّة الكاسيتات والأشرطة التي وجدها من أجل العمل على أرشفة هذه الموسيقى، وإعادة إنتاجها وتوزيعها. بعد ثمانية أشهر من البقاء في فلسطين، عاد سويطات إلى لندن من خلال طائرة إجلاء من مطار الملكة علياء، وعن هذا يقول: "قمت بجمع كافّة الكاسيتات والأشرطة في حقائب السفر، وبلغ مجموعها خمس حقائب، ما أثار لدى جنود الاحتلال على معبر الملك حسين الكثير من الأسئلة، ليس ذلك فحسب، بل في مطار الملكة علياء كنت أقف في وسط المطار بينما ما يقارب من ستة رجال أمن يحيطون بي والحقائب مفرغة من محتوياتها على الأرض متسائلين عن السبب الذي يجعلني أحمل خمس حقائب سفر مليئة بالكاسيتات والأشرطة من دون أي ملابس أو أغراض خاصّة أخرى".
عن أهمية إعادة إصدار الكاسيت في هذه الفترة تحديداً، قالت حنان عوّاد: "لقد جاءت فكرة إعادة إصدار الكاسيت من جديد، في ظلّ فترة حرجة ومتوترة في التاريخ الفلسطيني، وتتشابه نوعاً ما مع فترة الانتفاضة التي تم العمل أصلاً خلالها على إصداره سابقاً، في رسالة مهمّة حول الحفاظ على الإرث الثّقافي والوطني الفلسطيني، وعلى الحفاظ على الصوت الفلسطيني الثائر كما قال رياض في كلماته: "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة/ لا صوت يعلو فوق صوت فلسطين".
استعادة صوت الانتفاضة
عند عودة مؤمن سويطات إلى لندن بصحبة حقائب الكاسيتات، بدأ فوراً رحلة البحث عن داعم أو مموّل في مجال الفن من أجل إعادة نشر بعض الأشرطة والكاسيتات التي حصل عليها. توجّه بدايةً إلى "سرحة"، وهي مجموعة فنية تضم فنانين وكتّاباً فلسطينيين وغير فلسطينيين في لندن، طالباً منهم مساعدته في العثور على مموّل لمشروعه. وبالفعل تمكّن سويطات والمجموعة من الحصول على دعم يكفي للأرشفة فحسب، ومن خلال هذا الدعم تمكّن سوطات من شراء أجهزة متخصّصة بترجمة الأشرطة من أشرطة وكاسيتات إلى نسخ ديجيتال، وأجهزة صوت متخصصة للستوديو من أجل الاستماع إلى الموسيقى بجودة عالية.
"أكثر ما انتبهت له في أثناء العمل، هو كونها المرة الأولى التي أستمع فيها خلال أشهر متتالية فقط إلى موسيقى فلسطينية من أيام الانتفاضة الأولى. كنت أمشي في شوارع لندن وفي رأسي مشاهد من الانتفاضة، فأول ذاكرة لي كصبي عاش في المخيم كانت ذاكرة اعتقال جارنا، أو استشهاد أحد الجيران، واعتقالي في الشارع بينما كنت طفلاً"
عن هذا يضيف: "أكثر ما انتبهت له في أثناء العمل، هو كونها المرة الأولى التي أستمع فيها خلال أشهر متتالية فقط إلى موسيقى فلسطينية من أيام الانتفاضة الأولى. كنت أمشي في شوارع لندن وفي رأسي مشاهد من الانتفاضة، فأول ذاكرة لي كصبي عاش في المخيم كانت ذاكرة اعتقال جارنا، أو استشهاد أحد الجيران، واعتقالي في الشارع بينما كنت طفلاً، وأسلحة وجيبات وحظر تجول وطائرات ودمار... هذه الصور من الانتفاضة لم تكن تراودني سابقاً في لندن، بما في هذه الصور من تأكيد على علاقة الموسيقى بالذاكرة".
في إجابة على السؤال حول ملاءمة الكاسيتات التي سيُعاد إنتاجها مع البيئة التي سيُوّزع فيها العمل، قال سويطات: "أخذنا نفكّر هنا، مجموعة 'سرحة' وأنا، في أي كاسيت نريد إعادة إنتاجه، والذي من الممكن أن يهمّ أيضاً رواد المدينة التي نسكنها، لندن، كي يحقق نجاحاً، بالإضافة إلى أنه أيضاً على موسيقى الكاسيت أن تثير اهتمام المجتمع الفلسطيني والعربي بشكلٍ عام. هذه الدراسة وهذا البحث استغرقا وقتاً طويلاً... لذلك شدّ 'كاسيت الانتفاضة' اهتمامنا. فمن ناحية الكلمات هي وطنية-ثورية، أمّا الموسيقى فهي عبارة عن دمج بين الجاز والديسكو، أي الرقص. والجاز موسيقى عالمية مهمة جداً في السوق العالمي الموسيقي".
إضافة جديدة إلى الأرشيف الفلسطيني
يقول مؤمن سويطات حول الإضافة المهمّة لإعادة إنتاج الموسيقى الفلسطينية: "هذا المشروع أضاف إليّ على الصعيد الشخصي العديد من الأمور، أهمها الاستماع إلى آلاف الأغاني الفلسطينية القديمة والموسيقى التي كانت تُنتَج في وقت سابق، والأهم كيفية البدء في 'ستارت أب'".
يرى سويطات هذا المشروع مهماً جداً لأسباب عديدة، أهمها المرتبط بواقع فلسطين كشعب وبلاد تعرضت للعديد من الاستعمارات في تاريخها، وحاجتنا إلى مكتبة أو مركز أو مشروع يحفظ لنا تاريخ الموسيقى الفلسطينية، مضيفاً: "لأننا لو لم نفعل نحن ذلك، فستضيع منا حقبة كاملة، كما ضاعت من أيدي من سبقونا. بالإضافة إلى أننا نحتاج إلى من يدعم ويحتوي هذه المشاريع، ويضع لها مكاناً ملموساً في فلسطين، نستطيع الذهاب إليه والاستماع إلى أرشيفنا ومشاهدة أفلامنا ومسرحياتنا مسجّلةً فيه، كي لا يكون علينا البحث في متاحف المستعمرين عن موسيقانا وأدبنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.