شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
بيتر بان في حيفا

بيتر بان في حيفا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 24 يناير 202201:41 م

انتقلت للعيش في حيفا مؤخّراً، وها أنا، في المدينة الحلم، التي لطالما عددتها المكان الآمن الذي سيحتضن جميع طموحاتي وتغيّراتي، وسيساعدني على النّضوج أكثر، وعلى التحوّل من فتاة حذرة إلى امرأة قويّة وحذرة.

انتقلت للعيش في حيفا مؤخّراً، وها أنا، في المدينة الحلم، التي لطالما عددتها المكان الآمن الذي سيحتضن جميع طموحاتي وتغيّراتي.

هناك، في تلك المدينة التي كانت بعيدةً عنّي على الرغم من أنني أدرس في جامعتها على سفح جبلها، والتي كانت ما تزال حلماً وأنا فيها، والتي أخافتني وتحدّتني بغير المألوف، والمختلف عنّي. هناك في تلك المدينة، رأيت قوس قزح يستقيم، وأوراق الأشجار كريستاليّةً لمّاعةً، والقطط أكثر لطفاً، والنّاس أكثر ضحكاً وبشاشةً، والنوافذ أكثر جرأةً، والحبّ أكثر شجاعةً... رأيت البحر مرفأً لي، والشوارع.

تلك الشوارع الطويلة والأزقّة الواسعة، رأيتها بيتاً لي. لي أنا، أنا التي يبدو أنّني أحبّ "شخصنة" العام، وأحبّ أن أستخدم ياء الملكية كثيراً، وأن أجعل من كلّ شيء -بدافع رومانسيٍّ- ملكي أنا... لي، بحري، أشجاري، نباتاتي، شوارعي، أضوائي، قططي، ضحكاتي، أناسي… جميعهم لي، وفي الواقع، لا علاقة لأيٍّ منهم بي. ولا أعلم حتّى إن كانوا يرغبون في ذلك. كيف لي أن أعرف في ماذا تفكّر كلّ هذه الأشياء، وهي لا تتكلّم؟ تتحرّك فحسب.

يمكن للحركة أن تكون زائفةً، ويمكن لقفزة قطّة أن تكون ردّة فعل لشعورها بالخوف، بينما تحاول هي بهدوءٍ تامّ أن تقنعني بأنّها قصدت إفزاعي أنا. كيف نثق بحركة الأشياء، بعد أن ندرك أنّ الكثيرين يدرسون حركاتهم قبل تأديتها؟ هل نستسلم لعدم الثّقة ذاك، الذي بات يحرّك ويجمّد الأشياء من دون إرادتنا، حتى أصبحت لا وعياً يلتصق بذرّات الغبار في الهواء؟

في حيفا، المدينة الأم، البيت الحلم، الكثير من الحقائق تبحث عن أفواه، الكثير من الكذبات البيضاء تفتّش عن لون، والكثير الكثير من قطرات المطر تنتظر غيماً يجمعها ولا يمطرها إلّا في موسمها، فوق حقلها هي. من سيلملم هذا الشّتات، ويمنحه حقّ العودة من دون أن يخونها في معاهدات سرّيّة وراء الكواليس... والكؤوس؟

في حيفا، المدينة الأم، البيت الحلم، الكثير من الحقائق تبحث عن أفواه، الكثير من الكذبات البيضاء تفتّش عن لون، والكثير من قطرات المطر تنتظر غيماً يجمعها ولا يمطرها إلّا في موسمها، فوق حقلها هي. من سيلملم هذا الشّتات، ويمنحه حقّ العودة من دون أن يخونها في معاهدات سرّيّة وراء الكواليس... والكؤوس؟

مدينة الفنّ، يكتبها فنّانوها من ألف سطرٍ ملتوٍ، ويرسمونها لوحاتٍ تغضّ البصر عمّا يعشّش بين الصّخور، ويغنّونها قصّةً لا تبوح بما يخبّئه البحر ويغفو فوق أرصفة الحارات القديمة وتحت طاولات المقاهي بجانب الكلاب المروّضة جيّداً، لتبقى ساكنةً، كإنسانٍ رزينٍ يحرص على البقاء مستيقظاً حتّى الصباح، يترقّب أن ينجب عقله فكرةً أو يتعلّق بجسدٍ ما، وأن تسقط نجمة فيتمنّى أمنيةً من قدرٍ لا يؤمن بوجوده.

مدينة الجمال الدافئة، تفرط في تحويل الماء إلى خمر، وفي تحويل الشّمس إلى نجمة صغيرة، والشّاب إلى طفل يأبى أن يكبر. هنا، في مدينتي البعيدة عنّي والقريبة جدّاً، كثيرة هي القطط التي تستلقي في ساحات المباني العالية في انتظار المزيد من الطعام، بملامح لا تفهم لها حالاً؛ أسعيدون هم أم تعساء؟ في قريتي، اعتدت أن أراقب القطط تصطاد الفئران. أيُعقل أنّ مدينتي لا فئران فيها؟ أحزِنوا فهاجروا إلى مكان أكثر تحدّياً؟ هل اشتاقوا إلى القطط الرشيقة الرّياضيّة... وإلى أن يكونوا في حالةٍ من الهلع؟

في مدينتي الضائعة، والغالية، التي ما زلت أنتظر لقاءها مجدّداً بلهفة العائدة إلى وطنٍ حرّ (ما علينا من مفهوم الحرّيّة الذي يتّسع وينكمش ويتبدّل ويتغيّر)، لا بفضول المستكشفة، وأمل المهاجرة، وتعاسة اللاجئة. في مدينتي هذه (ياء الملكية مهمّة جدّاً هنا)، كثيرةٌ هي الوجوه... أمّا الأقنعة، فأكثر. هناك... فيها، تتعلّم العيون أن تشعر بالأمان وبعدمه في آن واحد، إلى أن تئد نفسها. أوديبوس، يتجوّل كثيراً فيها. هو يعلم، أنّ حيفا ستعرف يوماً ما، ما لا تعرفه اليوم عن نفسها. سترى في جمالها عيباً، وفي عيبها جمالاً، وفي صمتها صراخاً، وفي صراخها صمتاً متحجّراً ثقيلاً يخاف أن يُكسَر. ستعرف أنّ للنّضوج ثمناً، وللا نضوج أثمان لن تدفعها سوى تلك الهالة المرئيّة الصلبة التي يلفّها بعض السّادة حول أنفسهم. الهالة البرّاقة كنجمةٍ تسقط فيعلو مكانها أملٌ خفيٌّ بغدٍ... ألطف.

في مدينتي الضائعة، والغالية، التي ما زلت أنتظر لقاءها مجدّداً بلهفة العائدة إلى وطنٍ حرّ (ما علينا من مفهوم الحرّيّة الذي يتّسع وينكمش ويتبدّل ويتغيّر)، لا بفضول المستكشفة، وأمل المهاجرة، وتعاسة اللاجئة. في مدينتي هذه (ياء الملكية مهمّة جدّاً هنا)، كثيرةٌ هي الوجوه... أمّا الأقنعة، فأكثر

هناك، في بحر مدينتي، ومدينتي البحر، مليارات الأمواج تلتقي كلّ يوم، تتّحد أطرافها في لوحةٍ ساحرة لا تحتاج إلى ريشة، بل إلى قلب. وعلى برّها، آلاف قصص الحبّ تتشابك، وتشتعل وتخبو، وتمتدّ وتقصر، وتسمو وتهبط. وفي حاناتها، مئات المنتظرين الذين يحلمون بسعادةٍ أعظم وطرقٍ أقصر. مدينتي، مدينتي تلك، هذه، حيث جالست بيتر بان، واحتسيت معه القهوة، وشرّحنا اللغة، وضبطنا الوقت قنبلةً تهدّد... نا. مدينتي... تلك... هذه... التي أكتبها وأنا فيها أمام نافذة واسعة مفتوحة تطلّ على مينائها الأعرج، في بيتٍ ليس بيتي، في مدينةٍ ليست مدينتي، تخونني.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard