شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
حيرة اللاوعي بين الإحساس بالفردية و

حيرة اللاوعي بين الإحساس بالفردية و"الخضوع" لله

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 24 فبراير 202212:57 م

كان عمره 6 سنوات حين رأى حلماً... رأى الله يطير على السجادة السحرية.

كان يشبه "أبا الغضب"، الشخصية الشريرة في في مسلسل كارتون "مازنجر"، ومن حوله يطير جبريل وإسرافيل ومحمد، كانوا جميعاً أشراراً. استيقظ صديقي "مرعوباً" فاطمئن أن والدته إلى جانبه، والتصق في حضنها خوفاً. لم يكشف لأحد عن الحلم أبداً، خوفاً من ردة الفعل، وظل خائفاً من "عقاب الله"، لأنه رأى الله على هيئة "أبي الغضب".

"عقدتا" الطاعة والخضوع

يشدد كارل يونغ، المحلل النفسي، على ضرورة تمتع الإنسان ببعض "التحفظ الذهني" حيال كل شيء، حتى في مواجهة الأوامر الإلهية، للحفاظ على حريته.

أثناء دراسته، حول التأثير النفسي والسلوكي للثقافات الدينية، الإسلامية والمسيحية واليهودية، لاحظ مايكل فانوي آدمز، المحلل النفسي اليونغي تشابهاً فجميعهم بنظره يخضعون لعقدة الطاعة والامتثال، أو للخضوع والاستسلام. من هذا الفهم الخاص للأديان السماوية، يجد آدمز أن مغزى ومضمون الإسلام هو استيعاب الوحي اليهودي والمسيحي، لأن القرآن هو آخر وحي وآخر كلمة في موضوع عبادة الله، ولأن محمداً هو آخر الأنبياء. وعلى الجميع أن يسلّم بذلك.

ولكن آدمز يذهب في تحليله لأبعد من ذلك فيفترض أن الإسلام يعني الخضوع، وأن تكون مسلماً بحكم التعريف يعني الخضوع لله "ولله الأمر من قبل ومن بعد". ومن هذا المنطق، اعتقد آدمز أنّ المسلمين لديهم "عقدة الخضوع" أما المسيحيون واليهود، فبرأيه لديهم "عقدة الطاعة". وهاتان العقدتان، برأيه، تشكلان "المركب الثقافي" للشرق الأوسط ، وهو المركب الفريد الذي حاول في ورقته البحثية فك رموزها، وكشف سلطتها على الإدراك في سعيه إلى الحرية والاستقلال الفردي، وذلك عبر تحليله لأحلام نزار. تبقى كل الآراء الواردة في وقته خاصة برؤيته، من منظور محدود هو علم النفس المتأثر بنظريات علم النفس التحليلي الذي أسس له عالم النفس السويسري كارل يونغ (تـ.1961). 

الحلم المزعج والحلم المرعب

الرسول محمد هو صورة مصغرة لرؤيتنا كمسلمين لذاتنا، وموقفه مع الله نتمثله جميعاً، وهو موقف يشدد بعض المتطرفين ورجال الدين على حصره في حالة الخضوع والاستسلام، يفتقر للحوار النقدي، ولكن هل هناك حقيقة مقنعة في هذه الصورة؟ أم أنها فرضية يسعى المتشددون لترسيخها على حساب غيرها؟

كان عمره 6 سنوات حين رأى حلماً، رأى الله يطير على السجادة السحرية... عن حيرة الاختيار بين الفردية والخضوع لله

بحسب الورقة البحثية. من هذا المنطلق، يواجه مسلمون معاصرون مشكلة تتعلق بالإحساس بالتميز الفردي، لأنه ينافي "عقدة الخضوع"، وهو ما يوازي خطيئة الشرك بالله. ينتفل آدمز إلى شرح قصته مع نزار، وهو اسم وهمي يطلقه على شاب مسلم  (32 عاماً) مقيم في أمريكا، كان يعمل لفترة في إحدى وكالات إغاثة الفلسطينيين في غزة، وعاش في القدس لمدة عامين.

كان يأتيه حلمان مثيران حكاهما للمعالج النفسي الذي كان يعالجه. في حلمه الأول، كان نزار يسير في مدينة صور القديمة في لبنان، وهناك صور لأطلال قديمة، ويوجد مسبح طويل جداً مصنوع من رخام وحجر، لا ماء فيه، وعلى جانبيه تماثيل للآلهة.

" فكرة التواضع أو القنوت أو الاستسلام قد لا تكون فضيلة، بل قد تصل إلى حد الرذيلة"

كان نزار يسير في المسبح، والتماثيل تنظر وراءه ناحية الشمس، وعلى الرغم من أنه كان يولي ظهره باتجاه الشمس، إلا أنه كان بإمكانه رؤيتها مشرقة، والسماء صافية، والتماثيل تنظر إليها.

يقول إنه انبهر من قدرته على رؤية الشمس بظهره، وانبهر أيضاً لأن جميع "الأصنام" كانت تنظر إلى الشمس.

حين حكى نزار الحلم للمعالج النفسي، فشل في فهمه؛ بحسب آدمز، لأنه لم يأخذ "المركب الثقافي للشرق الأوسط" cultural complexes، خاصة عقدتي الطاعة obedient والخضوع submissive في الاعتبار.

قد تكون الآثار أو "الأصنام" القديمة في حلم نزار إشارة أو تلميح إلى هذا الوعد النبوي بالدمار للمخطئين والمشركين.

في حلم نزار، لا يوجد ماء في المسبح (مع العلم أنّ العديد من المعالجين النفسيين يفسرون حمامات السباحة في الأحلام على أنها اللاوعي unconscious) كما أن نزار لا يسبح فيه، أي أنه يسير فيما كان مبتلاً قبل ذلك،  لكنه الآن "جاف وواع".

وعلى كل جانب من جوانب حمام السباحة، توجد تماثيل الآلهة، وفي الإسلام عبادة الأصنام شرك بالله، لكن رغم ذلك لا يستجيب لها نزار، كما لو أنه يعتبرها أمثلة على ذنوب عبادة "الأصنام" و"الشرك بالله".

يلاحظ نزار ببساطة، أن التماثيل تنظر خلفه إلى الشمس، ويفسر آدمز ذلك مستلهماً رؤية يونغ: "الشمس هي صورة لروح النهار والوعي، والخلف الذي لا نراه، هو الغيب أو منطقة اللاوعي، وعلى الرغم من أن الشمس خلف نزار، إلا أنه بإمكانه رؤيتها وكأنه يمتلك عينين في مؤخرة رأسه".

يؤكد الحلم أيضاً على الفرق بين الإدراك والرؤية أو البصيرة، فنزار لديه قدرة خاصة على رؤية منطقة "الغيب" (اللاوعي)، بجانب إدراك الشمس hindsight، وبصيرة أو روح النهار daylight psyche. أي أنه يمتلك إدراكاً قوياً.

وفقا ليونغ، الوظيفة الأساسية لمعظم الأحلام هي وظيفة تعويضية. ما تعوضه الأحلام في هذه الحالة هو المواقف المتطرفة والمختلة والمؤذية والمتحيزة للأنا.  المعضلة التي كان يواجهها نزار، هي كيفية الموازنة بين تواضعه لله، وبين قدرة وعيه الكبيرة.

من منظور يونغي، يشير حلم نزار وحلم صديقي صاحب حلم "الله أبي الغضب"، إلى أن موقف (الأنا أو الإيغو) لديهما ذليل ومستسلم بشكل متطرف.

عرف نزار وصديقي أنهما يمتلكان وعياً استثنائياً، لكنهما لم يتمكنا من الاعتراف بهذه القدرة أو هذا الوعي، لأنها اعتقدا أنّ القيام بذلك من منظور "اللاوعي الثقافي الإسلامي" مساو لخطيئة الشرك.

على عكس ما يقدّم في الثقافة العامة، الحوار والتفاوض مع الله ليس ممكناً فحسب بل مسموحاً به، ووضع أسسها النبي محمد كما أنّه لا يتعارض مع التواضع والاستسلام الذي يدعو له الدين 

الخضوع رذيلة

كانت المشكلة التي يواجهها نزار وصديقي، هي قلقهما من ارتكاب الخطيئة بالإعلاء من الإيغو الخاص بهما (إحساسهما الفردي بذاتيهما)، ورفضهما الاستسلام والخضوع من ناحية أخرى.

وفي هذا السياق عوض حلم نزار "عقدة التواضع" لديه، ومكّنه في النهاية من الاعتراف بأهليته الاستثنائية التي يمتلكها للوعي، أما في حلم صديقي فقد مكّنه من التعبير عما يجول في خاطره، ولا يقدر على البوح به؛ الله يشبه أبا الغضب.

أثناء حكيه للحلم، أشار نزار إلى أنه من الضروري "أن نتواضع أو نتذلل أمام النعمة والعطية التي نجسدها". لكن آدمز معالجه النفسي اليونغي، اقترح أن فكرة التواضع أو القنوت أو الاستسلام قد لا تكون فضيلة، بل قد تصل إلى حد الرذيلة. في الجلسة التالية، اعترف نزار، بأنه "هناك صوت داخلي يخبره أن لديه شيء مميز، وكان يرفض الاستماع إليه حتى هذه اللحظة".

قصة حياة نزار، كانت كفاحاً أو صراعاً من أجل أن يكون عادياً، كابتاً تميزه الفردي. يقول نزار: "ليس من العار أن تكون استثنائياً أو غير عادي"، إنه الآن "انتقل من النضال لأن يكون عادياً إلى محاولة قبول بصيرته وقدرته الاستثنائية على الوعي"، بحسب الورقة البحثية.

من أسعد ذكريات نزار، عودته من المدرسة وهو طفل، وقضاء الوقت بصحبة والده الذي كان يحكي له قصصاً من القرآن. كان يعلمه أن هذه القصص تمنحه الإيمان وقت الاختبارات الصعبة التي تضعه فيها الحياة، مثل الألم والمعاناة أو العجز، وتعينه على الخروج أقوى وأكثر كرامة و"إنسانية". كان نزار يصف والده بـ"المتواضع للغاية"، وقال إنه كان يتجنب كل ما من شأنه أن يزيد من شعوره بذاته.

في حلمه الثاني، كان نزار يجلس إلى جوار والده، وهناك أربعة طيور، ذُبحت وقُطعت إلى أشلاء، وفجأة عادت الطيور من الموت إلى الحياة. ثم أتت حمامة ووقفت على يديه، ثم رأى الشمس كما لو أنها أمام وجهه مباشرة. ثم صرخ "ياله من ضوء! إنها واقعية للغاية"، ثم استيقظ من حدة الضوء وجماله.

ذكرني ذلك بقصة إبراهيم، كما رواها القرآن: "وإذ قال إبراهيم ربِّ أرِني كيف تحيي الموتى، قال أوَلَم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئنَّ قلبي، قال فخُذْ أربعة من الطَّير فصرهن إليك ثم اجعلْ على كلِّ جبلٍ منهن جزءاً، ثم ادعهن يأتينك سعياً، واعلمْ أن الله عزيزٌ حكيم".

في الحلم، والد نزار إلى جواره (مركب والده الخاضع إلى جوار الإيغو الخاص به، والذي بدأ يفيق ويثمّن قدرته على الوعي).

الحلم يدور حول صراعه مع حالة التميز الفردي التي يستحقها، ويمنعه عنها كونه يسعى لأن يكون مسلماً خاضعاً، بحسب آدمز.

موت الطيور وبعثها من جديد، يدور حول احتمالية أن يكون المستحيل ممكناً، وأن تظهر الشمس أمامه، بعدما كانت خلفه يشير إلى أنه ينتقل من الوعي إلى الاستنارة، بحسب تفسير آدمز.

بدأ نزار يفهم، أنه أسير لـ"مركب الخضوع" لدى والده. وبقي الآن عليه أن يتحرر.

رحلة المعراج

في كتابه "ذكريات، أحلام، تأملات" يروي يونغ حلماً، يدور في الفلك ذاته، اللاوعي الثقافي الإسلامي.

في الحلم دخل يونغ ووالده منزلاً به غرفة تشبه قاعة السلطان "جلال الدين أكبر"، أحد سلاطين المغول. ثم شرع والده في الصلاة على الطريقة الإسلامية.

يقول يونغ: "جثا على ركبتيه، ولمست جبهته الأرض، ثم قلدتُه، وسجدتُ مثله، وحينها كانت تغمرني مشاعر قوية، لكن لسببٍ ما لم أستطع أن ألمس الأرض بجبهتي، ربما كان يفصلني عنها مليمتر واحد".

اعتقد يونغ، أنه كان عليه الاستسلام للمصير وأراد أن يلامس الأرض بجبهته، ولكن شيئاً ما منعه من إتمام ذلك، وأبقاه على بعد مليمتر واحد عن الأرض.

شيء ما داخله كان يقول: "كل شيء على ما يرام، ولكن ليس تماماً".

أما نزار فقد كان صعباً عليه أن ينخرط في حوار وتفاوض ونقد مع اللاوعي الخاص به في البداية، لكونه حريص على أن يكون مسلماً خاضعاً أو مستسلماً، رغم كونه مثل يونغ، كان قادراً عقلياً على "التحفظ الذهني" أو  الاحتفاظ بـ"مليمتر واحد بعيداً عن الأرض". لكن ليس الأمر بالصعوبة التي تخيلها.

في قصة الإسراء والمعراج، صعد محمد إلى السماء، وفُرضت عليه الصلاة، وفي طريق عودته قابله موسى، وسأله عن عدد فروض الصلاة التي فرضت على المسلمين، فأجابه بأنها خمسون، فطلب موسى من محمد أن يسأل الله أن يخففها، ثم عاد محمد عدة مرات إلى الل، وفي كل مرة يخففها الله، حتى وصلت إلى 5 فروض فقط كل يوم.

توضح الرحلة، أن الحوار والتفاوض مع الله، ليس ممكناً فحسب بل مسموحاً به، ووضع أسسها النبي محمد. في هذه الحالة، لا يصر الله على الخضوع والاستسلام المطلق. باختصار، لا يرفض الله التحاور والإقناع، وعقدة الامتثال والخضوع قد شكّلها رجال دين مؤثرون.

يقول آدمز: "كان نزار يدرك تماماً العقبات التي يضعها الإسلاميون الأصوليون وأفكارهم الرجعية، في سبيل الحول دون تلك الفكرة، فكرة التحاور والنقد والتفاوض مع الله".

قد يكون في الاعتراف بالفردية محبة لله وإيمانٌ خالص يفوق ما يدّعيه ويختبره "الخاضعون". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image