شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
بدأتُ باللعب مع طفلي، ولم أتوقف بعد رحيله

بدأتُ باللعب مع طفلي، ولم أتوقف بعد رحيله

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 20 يناير 202202:09 م

لا يستسيغُ الصغار دون سن الخامسةِ، الجلوس والاستماع إلى دروسٍ تعليميةٍ مُباشرة، فأوقاتهم مليئة بالصخبِ، واللعبِ، والحركاتِ البريئة، والجميلة. وبطرقهم الخاصة والمُدهشة يكتشفون الحياةَ من حولِهم. كذا الأمر مع أولادي، وخاصةً آخر العنقود، نوّار.

كنتُ أجلس وحدي، أُتابعُ شغفَ طفلي الصغير نوّار، وهو يلعبُ بألعابهِ في ركنِ الصالة القريب من الشبّاك، والذي يُمثّلُ عالمه الخاص، والمُبهج. فكرّتُ في نفسي: كيف أدخل عالمه الطفولي، وأشاركه اللعب، من دون أن يشعرَ بالضيقِ والملل؟

بخطواتٍ مُرتبكة في البداية، دنوت منه. توقّف عن اللعب، وامتلأت نظراته بالدهشة والترقب! "سألعب اليوم معك، ما رأيك يا نوّار؟".

نهض مسروراً، وأمسك يدي، وأمسكت يده، وبدأنا ندور بحركاتٍ هي أقرب إلى الرقص منها إلى الدوران. كانت أنامله الناعمة تشدّني بقوة إلى عالمه الجميل. شعرت بفرحه يكبر، وأنا بجانبه. "سنغنّي ونرقص ونلعب معاً"، قلتُ له.

تبددت كلّ مخاوفي حين بدأ يردد بصوتٍ مسموع:

يا بط... يا بط اسبح بالشط

قل للسمكة تأبى الشبكة

ميلي عنها... تَنجي منها

يا بط... يا بط

اسبح بالشط.

ضممته إلى صدري، وقبّلته بشغف. حفظ نوّار هذا المقطع من أغنيّةٍ عراقيّة للأطفال، على الرغم من أنّه وُلِدَ وكبر في سوريا، ولم يرَ العراق بعد. كان بالنسبة إلي مبعث فرح للدخول إلى عالم التعليم الطفولي المبكر. سألته بمحبةٍ كبيرة في مرّات أخرى: "هل تحبُّ الرسم إلى جانب الغناء؟"

ضممته إلى صدري، وقبّلته بشغف. حفظ نوّار هذا المقطع من أغنيّةٍ عراقيّة للأطفال، على الرغم من أنّه وُلِدَ وكبر في سوريا، ولم يرَ العراق بعد. كان بالنسبة إلي مبعث فرح للدخول إلى عالم التعليم الطفولي المبكر. سألته بمحبةٍ كبيرة في مرّات أخرى: "هل تحبُّ الرسم إلى جانب الغناء؟".

"نعم يا ماما، أحبُّ الرسم كثيراً، ولي رسومات عديدة أحتفظ بها في دفتر خاص جلبهُ لي أخي بشار، حين كنتِ في العراق"، أجابني بفرحٍ لا يوصف.

"طيب حبيبي، سأجلب لك الآن ورقةً وقلماً، وارسمْ ما يدورُ في ذهنك، وسأحتفظ بهذه الورقة عندي".

أعمل مع مقتنياته، وأقلّب رسوماته، كي لا أنسى الفواجع في بلدٍ خطف مني طفلي الجميل نوّار من دون رحمة.

بدأ يفكر في الرسم، وأنا أفكر في كيفية البدء في تعليمه كتابة الحروف عن طريقِ الرسم. وبعد لحظاتٍ تأملية، قال: "أحبُّ أن أرسم القطة، فأنا أحبُّ القطط كثيراً".

"إذاً سنتعلم كلّ يوم رسم جزءٍ من جسد القطة. سنبدأ أولاً برسم العينِ..."، وقبل أن أُنهي كلامي، كان نوّار قد بدأ برسم عين القطة، فقلت له مباشرةً، عين القطة تشبه حرف الهاء في اللغة العربية، وبدأت بدوري أرسم الحرف في الهواء أمامه. أعجبته الفكرة. قال ارسميها في أسفل الورقة، وبدأ يكرر رسم حرف الهاء حتى أتقنه. والآن، سنتعلم رسم ذنب القطة. إنه سهل وبسيط، ورسمت بجانب حرف الهاء حرف الراء.

ابتسم هذه المرّة بفرح أكبر، وبدأ يرسم الحرف. "حقاً إنه حرف سهل يا ماما". فقلت له مازحةً: "هل تعرف يا نوّار لو وضعنا زيتونةً على ذنب القطة، سنحصل على حرف الزين. اتسعت حدقتا عينيه وهو يقول: "زيتونة!".

"سنستبدلها بالنقطة. انظر هكذا..."، ورسمت الحرف على الورقة. وبسرور رسمَ الحرف والحروف السابقة حتى امتلأت الورقة بحروف الهاء والراء والزين.

"سنكمل غداً رسم بقية أجزاء جسم القطة، وبعد أن تكتمل الصورة سنلوّنها معاً".

وفي اليوم الثاني، بدأنا برسم فم القطة. "هل تعرف يا نوار أنّ أسنان القطة تشبه حرف السين؟". شاهدتُ فرحاً ودهشةً في عينيه. "فمها يا أمي يشبه الدائرة"، قال لي، وهو ينتظر ردود فعلي. بدّدتُ دهشته حين طلبت منه أن ينظر إلى ما رسمته للتوِ. هكذا تبدو أسنانها داخل الفم، وطلبتُ منه إعادة الرسم، وترتيب الأسنان بشكلٍ منتظم.

كان نوّار على يقين بأنّ فم القطة يشبه الدائرة. رسمَ حرف السين مرات عدة، حتى امتلأت دائرته بالحروف، فضحك: "ماما ستعضّني القطة بأسنانها الكثيرة". أجبته مازحةً: "ضعْ أسناناً أخرى تحتها، كي تستطيع عضّك بسهولة". رسم صفّاً من الأسنان أسفل الأولى. كان الفم مضحكاً، ولا يشبه الفم في شيء، ولكنه بدا سعيداً برسم الأسنان، أي رسم حرف السين.

"والآن يا نوّار، ارسمْ أسناناً خارج الفم، وضع عليها ثلاث نقاط. لو وضعت ثلاث نقاط على حرف السين، ستحصل على حرف الشين. هذا سهل جداً". وبالفعل رسم حرف الشين بكلّ يُسر.

"وماذا سنرسم أيضاً؟"، سأل بفرحٍ طفولي كبير.

"هل تعرف يا نوار أن القطة تحتاج دائماً إلى صحنِ طعامٍ نظيف خاص بها، كي تأكل منه، وهي مرتاحة. سنرسم الصحن، ونضعه أمام القطة. انظر جيداً…". رسمت صحناً أشبه بحرف الباء، "والآن جاء دورك لترسمَ مثلهُ ثم ترسم صحناً آخر وتضع بدل النقطة الواحدة نقطتين، ولكن فوق الصحن". نظر إليّ مستفسراً: "نقطتين! لماذا يا أمي؟". "نقطة واحدة تحت الصحن، هو حرف الباء، ونقطتان داخل الصحن تمثّل حرف التاء". رسمَ الحرفين بسهولة، وهو يردد: "باء... باء/ تاء... تاء". "هل رأيت يا نوّار كم هو سهلٌ رسمُ الحروف؟!".

كانت طريقة رسم الحروف على جسد القطة تشدّهُ نحو مواصلة اكتشاف المزيد من الحروف. وفي اليوم التالي، وضعنا ثلاث نقاط في الصحن لنحصل على حرف الثاء. وهكذا توالت الأيام، ونوّار يرسم كلّ يوم حرفين أو أكثر، وأحياناً يبدأ بعملية دمج الحروف، ويتعلم كيف ينطقها، وكيف يركّبها بكلمات ذات معنى. هكذا انتهينا من رسم القطة وتلوينها، وتعلّم نوّار كتابة الحروف، ونطقها بشكلٍ سليم. بعد إتقانه الحروف، انتقلنا إلى رسم الأرقام من دون أن يشعر نوّار بالضجرِ، أو الملل.

كان الرسم لعباً تعليمياً مليئاً بالدهشة والغبطة والمرح، عرف آخر عنقودي من خلاله أنّ في اللغة العربيّة ثمانيةً وعشرين حرفاً، وتعلّم أيضاً كتابة علامة الشدّة، والضمّة، ثم تنوين الضم، والفتحة، وتنوين الفتح، والكسرة، وتنوين الكسر، ثم الفواصل والأقواس.

"في موعدٍ قريب سنبدأ برسمِ حروف اللغة الإنكليزية والأرقام كذلك. ما رأيكَ يا حبيبي؟".

رحلَ نوّار في التاسع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2005، بحادث دهسٍ من سيارةٍ عسكريّة دخلت حيّ ركن الدين المسالم في مدينة دمشق، وذلك لشراءِ خبزٍ من "أفران ابن العميد الشهيرة"، لضابطٍ لا يشعر بالمسؤوليّة، يُرسل سيارات نقل جنود عسكريّة إلى أحياء مدنيّة

رحلَ نوّار في التاسع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2005، بحادث دهسٍ من سيارةٍ عسكريّة دخلت حيّ ركن الدين المسالم في مدينة دمشق، وذلك لشراءِ خبزٍ من "أفران ابن العميد الشهيرة"، لضابطٍ لا يشعر بالمسؤوليّة، يُرسل سيارات نقل جنود عسكريّة إلى أحياء مدنيّة.

حصل الدهس في أثناء محاولة نوّار عبور الشارع لأخذ كرة صديقه التي تدحرجت. وغادر السائق الحياة أيضاً، بعد أن أصابته سكتة قلبية من الخوف والفزع، بعد أن حمل "نوّار"، وتوجه به إلى مستشفى ابن النفيس القريب من الأفران المذكورة.

رحلا معاً، ولكن ألعاب نوّار ورسوماته ما زالت محفوظةً عندي، وفي ذاكرتي تعيدُ في كلّ مرة ترتيب أفكاري. أعمل مع مقتنياته، وأقلّب رسوماته، كي لا أنسى الفواجع في بلدٍ خطف مني طفلي الجميل نوّار من دون رحمة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image