كان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ثيودور روزفلت، يقرأ رواية الأدغال The Jungle، للكاتب الأمريكي أبتون سنكلير، وهي رواية صدرت عام 1905، وتتحدث عن البشاعة التي يرتكبها أصحاب مصانع اللحوم في ولاية شيكاغو، ويقال إنه كلما كان روزفلت يقرأ بضع صفحات من تلك الرواية، يقوم إلى الحمام ليتقيأ، بل إنه كان يقذف بطبق طعامه من اللحوم، من النافذة، لكثرة ما جاء في الرواية من تصوير دقيق للتعامل غير الصحي داخل تلك المصانع.
مع انتهائه من قراءة الرواية، قرر روزفلت تشكيل لجنة تحقيق حول تلك المعامل، فجاءت التحقيقات لتؤكد أن ما صوّره الكاتب الأمريكي في الرواية، ما هو إلا جزء يسير مما يحصل، ولهذا خصص جزءاً من وقته، على الرغم من الصراع الدولي آنذاك، لمتابعة واقع تلك المعامل، وذلك كله بتأثير من الرواية.
هكذا يمكن للنصوص الروائية أن تلعب أدواراً، وتغيّر أفكاراً لدى صنّاع القرار، مثل تأثّر الزعيم الكوبي، فيديل كاسترو، بأعمال الروائي الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز، أو مثلما ساهمت رواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم في تشكيل فكر جمال عبد الناصر، وفي تكوينه.
يركّز عالم السياسة على الصراع والمصالح واستخدام الوسائل الممكنة للحفاظ على ميكانيزمات السلطة بأي شكلٍ من الأشكال، منذ البدايات الأولى لظهور الدولة، سواء أكانت على شكل "اللفياثان"، كما وصفها توماس هوبز، أو السلطة بشكلها الحديث في عصر الحداثة وما بعدها، كما يصفها ميشال فوكو، أو السلطة التي تحولت أنماطها من عقد اجتماعي قديم، إلى فكرة سائلة يصعب حصرها في نمط معيّن، كما يذهب زيغمونت باومان. وتبقى حاضرةً مقولة ماكس فيبر التي يذهب فيها إلى أن السياسة تمثّل مجموع السلوكات والسيرورات والتفاعلات الإنسانية التي تعبّر عن محاولات سيطرة الإنسان على الإنسان، والتي يجب أن تحتكر قوة الإكراه، عبر الوسائل المختلفة لسياسة الكيان الفاعل، داخلياً وخارجياً، وأدواته المختلفة، بما فيها العمل الدبلوماسي.
عالَم الأدب وعالَم السياسة
يقف الأدب وفنونه في عالم الحرف والخيال وسريان المشاعر، عبر أنماط الكتابة الجمالية التي تمثّل شكلاً من أشكال التعبير، سواءً أكانت شعراً، أو مسرحاً، أو روايةً، أو نصوصاً أدبيةً، وهي عادةً ما تزدهر ويشار إليها بالبنان، حينما تقوم نصوص هذا العالم الروحي بمعاقبة عالم الماديات السياسي، أو نقده.
لكن كما يقول الروائي الشهير جورج أورويل: "في عصرنا لا يوجد شيء اسمه: بعيداً عن السياسة. كل القضايا هي قضايا سياسية"، أو كما يقول الروائي السويسري غوتفريد كيلر: "كل شيء سياسة". لهذا، فمن الوهم الاعتقاد بأن النصوص الإبداعية والروائية تقع في عالم، بينما تقع السياسة في عالم آخر، أو أنه من الصعب أن يلتقي هذان العالَمان في المجرى نفسه.
فالسياسة تنتحر عندما تفقد كل خصائصها الإنسانية، وعندما تفتقد الكلمة دورها في التأثير على الرأي العام. وفي المقابل، عندما يبتعد الأدب عن السياسة، يصبح مجرد ترفٍ فكري لا قيمة، ولا تأثيراً اجتماعياً له، بل مجرد تعابير خيالية تخص المدينة الفاضلة، ولا تمتّ إلى الواقع بصلة، أو مجرد مادة للترفيه وتمضية الوقت.
"يمكن للنصوص الروائية أن تلعب أدواراً، وتغيّر أفكاراً لدى صنّاع القرار، مثل تأثّر الزعيم الكوبي، فيديل كاسترو، بأعمال الروائي الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز، أو مثلما ساهمت رواية ‘عودة الروح’ لتوفيق الحكيم في تشكيل فكر جمال عبد الناصر"
قد تغيّر المزاوجة بين الطرفين مساراتٍ إستراتيجيةً في حياة الشعوب والمجتمعات، بل تعجز أحياناً السياسة بكل أدواتها العسكرية، أو الدبلوماسية، عن أن تقوم وحدها بتلك المهمة.
في روايتها المشهورة "كوخ العم توم"، قامت الكاتبة الأمريكية هارييت بيتشر ستو، بتجسيد معاناة أصحاب البشرة السوداء في المجتمع الأمريكي، ويُحكى أنها ساهمت في صناعة إعلان "تحرير العبيد" عام 1862، بعد أن قرأها الرئيس أبراهام لينكولن، ولكن كثيرين يرون هذا الربط مجرد مبالغة.
العلاقة بين الأدب والدبلوماسية علاقة متجذرة وقديمة. في الدبلوماسية الثقافية، تُرى إمكانية تجذّر العلاقات الجيدة عبر الأدوات الثقافية الناعمة، أي من خلال الفن واللغة والتعليم. وهذه الفكرة تتجدد أمامي، وأنا أقلّب صفحات كتاب نجيد فتحي صفوة، بعنوان "الأدب والدبلوماسية في حياة نجدة فتحي صفوة"، وفيه يتحدث عن تراث الدبلوماسي العراقي الراحل، من أعمال أدبية ذات أبعاد سياسية ودبلوماسية، تحكي حكاياتٍ أبطالها دبلوماسيون، وكأن المهمة التي كان يقوم بها لا تنجح من دون الاستعانة بالأدب، والحضور الإبداعي للنص.
قادة وزعماء كثيرون أدخلوا أنفسهم في عالم الرواية، مثل الرواية التي كتبها الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، بالاشتراك مع الروائي الشعبي جيمس باترسون، والتي حملت عنوان "الرئيس المفقود". كما كتب ونستون تشرتشل "سافرولا"، وجمال عبد الناصر رواية "في سبيل الحرية"، غير المكتملة، والقذافي "القرية القرية... الأرض الأرض"، وصدام حسين "زبيبة والملك".
نتحدث عن سلاح ثقافي معطَّل في سياسات الدول الخارجية ضمن الدبلوماسية الثقافية. استطاع غابرييل غارسيا ماركيز تغيير صورة بلده كولومبيا، في المحافل الدبلوماسية والإعلام الخارجي، من بلد المافيات والجرائم والمخدرات، ورفع اسمها في دول أمريكا اللاتينية، وخصوصاً عندما يجسد ثقافة بلده، حتى وان اختلف مع نظامه السياسي.
بين السياسة والإبداع
وتكشف النصوص الأدبية والروائية في معظم الأحيان، عن العلاقة بين السياسة وبين عالم الكتابة الإبداعية، وصولاً إلى أنماط الرواية التي باتت تمثّل مشهداً للتبادل الثقافي والتفاوض اللغوي والمجتمعي، ودراسة الأدب كأداة للدبلوماسية الثقافية، لتبادل الأفكار والمعلومات والقيم والأنظمة والتقاليد والمعتقدات، وبنيّة تعزيز التفاهم المتبادل بين المجتمعات.
ولعلّ قصة العراق في المزج بين الأدب والسياسة، قصة قديمة، تعود إلى "ملحمة جلجامش"، وهي أقدم نوع من أدب الملاحم البطولي في تاريخ جميع الحضارات، كما أنها أطول وأكمل ملحمة عرفها التاريخ في النصوص الأدبية القديمة، وصلت إلينا.
"مهمة الدبلوماسي اليوم لم تعد كسب العقول عن طريق المؤسسات التقليدية، بل عن طريق الفن والموسيقى والرواية وكل أنواع العمل الإبداعي، لكي يصنع مقبوليةً تساهم في تحسين صورة بلده الذي يمثّله، أو فهم صورة الآخر"
روى لي أحد الزملاء الدبلوماسيين أن مجلس الأمن الدولي أصدر القرار 2379، وطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تشكيل فريق تحقيق لدعم جهود العراق في محاسبة تنظيم داعش، عبر جمع الأدلة على ارتكاباته، وحفظها، وتخزينها. التقى الأمين العام بأحد أعضاء الفريق، وهو يحمل بيده رواية "حدائق الرئيس"، للروائي العراقي الدكتور محسن الرملي المقيم في مدريد، وعندما سأله عن سبب حمله لتلك الرواية المترجمة إلى الإسبانية، وهو يزور العراق للمرة الأولى، أجابه: إنها كاشفة عن عادات المجتمع العراقي، وتفاصيله الدقيقة.
على الرغم من أن الرواية تتحدث عن أحداث الحرب العراقية-الإيرانية، وما بعدها، لكنها تكشف مثلاً عن عادة زواج الأرملة بعد مقتل زوجها من أخ المتوفى، لكي يحافظ على عائلته وأولاده، حتى لو كان متزوجاً، وهذا ينفع في التحقيقات المتعلقة بالأحوال الشخصية. صنع محسن الرملي دبلوماسيته الخاصة لنقل الثقافة والموروث العراقيين عبر روايته، إلى عالمٍ يبعد عن بلدنا محيطاتٍ وأميالاً.
تظهر أهمية الرواية في العمل الدبلوماسي، بكونها كاشفةً عن وجوه مهمّة لطبيعة التفاعلات الاجتماعية التي في أكثر الأحيان لا ينجح في وصفها التقرير الرسمي الذي يعدّه الدبلوماسي. الروائيون بمثابة سفراء لبلادهم في مختلف الدول، لا سيما مَن تترجَم أعمالهم إلى أكثر من لغة، وأصبحت دور النشر بمثابة سفارات، ومعارض الكتب الدولية بمثابة مؤتمرات قمم دولية، للتعريف بثقافات المجتمعات المختلفة عبر أسلوبٍ جذّاب يندرج ضمن ما يُسمّى بـ"القوة الناعمة".
وبات الكثير من الدول التي لديها مشكلات في علاقاتها الدولية، وخصوصاً في دبلوماسيتها العامة، تلجأ إلى معارض الكتب ودور النشر والترجمة. ويمكن للمختصين والمتابعين رؤية تطور الدبلوماسية الصينية في هذا المجال، إذ عقدت اتفاقات شراكة مع أكثر من دار نشر عربية لترجمة الأعمال الصينية، وخصوصاً تلك المتعلقة بمشروع الحزام والطريق، والثقافة الصينية. وكذلك، قدّمت الدبلوماسية التركية كتاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، "عالم أكثر عدلاً"، إلى أكثر من لغة، وأصبحت الدول تتسابق على استخدام منصّات ضيوف الشرف في العديد من معارض الكتب الدولية الكبرى، لممارسة التأثير الدبلوماسي والثقافي.
ساهم الروائي العراقي أحمد سعداوي، عبر روايته الشهيرة "فرانكشتاين في بغداد"، التي تُرجمت إلى 19 لغةً عالميةً، وستحوّلها شركة بريطانية إلى عمل سينمائي سيكون أول فيلم أجنبي قائم على عملٍ لروائي عراقي، في نقل صورة عن واقع المجتمع العراقي من معاناة ومأساة. كذلك الحال مع الروائي علي بدر الذي تُرجمت رواياته إلى 15 لغةً أجنبيةً. هما مثالان على كتّاب وروائيين عراقيين قدّموا كسفراء نصّ، ثقافة بلاد ما بين النهرين إلى العالم.
هناك ثمانية دبلوماسيين فازوا بجائزة نوبل في الأدب، هم غابرييلا ميسترال، وسان جون بيرس، وجورج سيفيريس، وإيفو أندريتش، وميغيل أنغيل أستورياس، وبابلو نيرودا، وشيزلا ميواش، وأوكتافيو باث. كما أصبح بعض الروائيين سفراء، كما حصل مع الروائي العالمي تولستوي، الذي درس اللغات الشرقية العربية والتركية.
ويكاد بعض المختصين يجزم بأن أحد أهم أسباب فشل السياسات الخارجية لدولهم، عدم فهم الهوية الثقافية للدول والشعوب المستهدَفة من تلك السياسات، وتقاليدها وعاداتها وسلوكياتها.
مهمة الدبلوماسي اليوم لم تعد كسب العقول عن طريق المؤسسات التقليدية، بل عن طريق الفن والموسيقى والرواية وكل أنواع العمل الإبداعي، لكي يصنع مقبوليةً تساهم في تحسين صورة بلده الذي يمثّله، أو فهم صورة الآخر.
يتفق عالم الأدب وعالم الدبلوماسية في الاعتماد على قوة الكلمة في تشكيل العالم، وتصوّره، ورسم سماته، وربما حتى تغيير الطريقة التي يرى بها الناس العالم. ولهذا تلعب النصوص الأدبية دوراً مهماً في الممارسة الدبلوماسية، إذ يستخدم الدبلوماسيون المحترفون مجموعةً واسعةً من النصوص الأدبية التي كانت حاسمةً في التواصل بين الثقافات المختلفة.
ولكل ذلك، يجب أن يحظى سفراء النصّ، بمزيد من الاهتمام والدعم. وهنالك تجارب كثيرة يمكن الاقتداء بها، كتجربة قيام وزارة الخارجية الألمانية بالإشراف على نشر الثقافة الألمانية في الخارج، لأنها ثروة مهمة للتعبير عن ثقافة الدولة وصورتها في العالم، عن طريق الأدب، وهو اللغة العالمية التي يعرفها الجميع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت