أزوان، أو الموسيقى الحسّانية، حالة جمالية إبداعية صحراوية بهية وثرية، سكنت محبتها منذ قرون شغاف قلوب سكان موريتانيا، وأصواتٍ موريتانيةً فخمةً ونقيةً، مثل الفنانة الراحلة ديمي منت آبه، أو الفنان الراحل الخليفة ولد أيده، أو الفنان سدوم ولد أيده، والنعمة منت أشويخ، وغيرهم. وعزَفَت الأسماء المكرّسة على آلات مثل التِّيدِنِيتْ، والآردين، والجيتار، لتمثّل هذه الموسيقى صورةً عن حياة الكثير من سكان موريتانيا بفضائها الرحب، مترافقةً ببوح في الكلمات يُظهر مكنونات أفئدة العشاق وأهل الذوق في هذه الأرض، حيث يرتبط عشاق الموسيقى بشغف، بأصوات الفنانين وعزف العازفين، ويُحلُّون بها أوقاتهم، وينعشون بها أفراحهم، سواء في المدينة، أو في البادية، وعلى الهضاب والواحات، أو على كثبان الرمال الذهبية، وتحت ظل الخيام، أو في المنازل العصرية، وتصحبهم في أسفارهم الطويلة، وفي غربتهم، وتشكّل ذائقتَهم، وتغمر وجدانهم بالمعاني السامية، وتهذّب نفوسهم. فما هي حكاية هذه الموسيقى؟
روافد متعدّدة
تتعدّد روافد هذه الموسيقى كتعدد حكايات تشكّل هذا الشعب الفسيفسائي، وأصوله ومشاربه، وحكاية الموسيقى الحسّانية وتطورها إشكالية جدلية ككل نقاش للهوية في موريتانيا، وعن ذلك قال الفنان والباحث في تاريخ الموسيقي الموريتانية، لكبيد ولد أحمد زيدان، لرصيف22: "هناك ما يشبه عقدة النقص عند بعض الموريتانيين من الباحثين، ومن "إيگاون" خاصةً، بخصوص العروبة، ويحاولون إثبات عروبتهم، ولو بالتزوير، ونحن لا نحتاج إلى ذلك، فنحن عرب، وهجرات العرب المتعددة معروفة، ولا نحتاج إلى تزوير تاريخنا، وخاصةً الموسيقي منه، فلا نحتاج إلى أن تكون موسيقانا قادمة من الأندلس، أو العراق، لنكون عرباً، إذ يردد بعض المؤرخين والفنانين أن الموسيقى الموريتانية أصلها عربي، وقادمة من الأندلس، ويربطون بينها وبين زرياب وإسحاق الموصلي، وهذا غير صحيح".
وأكد المتحدث:" ما عندنا من موسيقى لا يعرفه زرياب، ولا يشبه موسيقاه، ولا يعزفه، وليس من ضمن مقاماته، وصحيح أن زرياب جاء إلى الأندلس وجلب إليها العود العربي، وهو ما كان عنده مع الموصلي، لكن لا يمكن أن يكون قد عزف على العود، فتحول إلى آلة التِّيدِنِيتْ، حين انتقل إلى الأندلس، وقد يكون العود قد وصل إلى الأندلس، لكنه لم يصلنا".
يجزم الباحث في الموسيقى بأن هناك مدرستين موسيقيتين في موريتانيا، يقول: "هناك مدرسة صنهاجية، وأخرى إفريقية. حين وصلت قبائل بني حسّان العربية، وخاصةً قبيلة أولاد أمبارك، حدث تغيّر في هذه الموسيقى، وأضيف إليها الرافد العربي، الذي اتخذ مما سبقه من آلات ومقامات قاعدةً لبناء موسيقى حسّانية، وهي الموسيقى الحالية، وتشكلت الموسيقى الحالية هنا في هذه الأرض، وليس خارجها".
موسيقى القبائل
ارتبطت الموسيقى الكلاسيكية الموريتانية، وتأسيسها، وتطورها، بالقبائل الموريتانية، فالفنانون وموسيقاهم كانوا جزءاً مهماً من تاريخ تلك القبائل، ووسيطاً لتخليد ملاحمهم، إذ تقدّم هذه الموسيقى قصصاً تاريخيةً حول المجتمع والأرض، ويقول ولد أحمد زيدان: "تُعدّ بداية الموسيقى الحسّانية حين نقل هنون لعبيدي قبيلة أولاد أمبارك إلى "منطقة الحوظ"، شرق موريتانيا حالياً، وكان ذلك عام 1712، فحين تم الرحيل إلى منطقة الحوظ، بدأت إرهاصات الموسيقى الحسّانية، لتضاف إلى الإفريقية والصنهاجية، وكانت أول أسرة تمتهن الغناء الحسّاني، هي أسرة أهل آگْمتّار، وانبثقت عنها أسر فنية كثيرة، وانضمت أيضاً أسرتان أخريان، هما أهل آوليل ولحساسنة، ومنهم سدوم ولد إنجرتو، وهو معروف في التاريخ الموسيقى الحسّاني، وانبثقت عنهما أيضاً عبر الزمن أسر فنية أخرى، وهي أسر عديدة في كل بقاع موريتانيا".
لمجالس أزوان، أو الطرب، آدابها وقواعدها ويعدّ الفنانون أو "إيگاون" أنها تحافظ على التقاليد المجتمعية، وأزوان هو المصطلح العام الذي يُطلق على الموسيقى الحسّانية
ويوضح أن مجتمع "إيگاون"، مجتمع متعدد الأصول، لكن تجمع أسره ممارسة مهنة الفن وتقاليد خاصة، وقد توفرت عند أولاد أمبارك بيئة مناسبة للموسيقى، ودعم بها "إيگاون".
وتوسع مجتمع إيگاون عبر الزمن، ودعمته قبائل أخرى، إذ كانت تلك القبائل مكاناً مهماً لرعاية الفن وأهله، وأعطتهم قيمةً كبيرةً.
التِّيدِنِيتْ والمقامات
بُنيت الموسيقى الحسّانية على المقامات الإفريقية والصنهاجية، وعزفها "إيگاون" على آلات تلك الموسيقى التي سبقتهم، وتُعدّ آلة التِّيدِنِيتْ من أهم الآلات في الموسيقى الحسّانية، أو موسيقى التِّيدِنِيتْ، وتحتوى الموسيقى الحسّانية على آلاتٍ وترية، وآلاتٍ نفخية هوائية، وآلات إيقاعية.
لكن التِّيدِنِيتْ هي أهمها، وهي آلة وترية خاصة بالرجال. وحسب دراسة للباحث محمد ولد أحظانا، بعنوان "الموسيقى الحسّانية (موسيقى التِّيدِنِيتْ): ملامح البنية والدلالة والوظيفة"، فأصل التسمية صنهاجي، وهي من مقطعين ونسبة. المقطع الأول «تذْ»: (آلة) إئذِهْ: العزف، أو الضرب. والصلة «انْ» للنسبة. فهي إن ترجمناها إلى العربية: (آلة العزف).
ويقول لكبيد ولد أحمد زيدان: "التِّيدِنِيتْ كلمة بربرية، وهي ما عزف عليه إيگاون موسيقاهم، وسبقت قدوم العرب، وقبل استخدامهم لها كانت فيها ثلاثة أوتار، وذلك عند صنهاجة، وعند الأفارقة، وقد وضع لها إيگاون وتراً رابعاً حين دخلوا عالمها، وقد وضعه أهل آگْمتّار، أما الوتر الخامس فقد وضعه شيخنا ولد أباشه في العصر الحديث، ولدينا أشوار في التِّيدِنِيتْ (الشَّوْرْ: في "التيدينيت" هو المعزوفة الثابتة التي ابتكرها أحد الفنانين في قديم الزمان)، غير معروفة التسميات، مثل تنجوگة، ومغجوگة، وأگمط، وأگلب، وهي أشوار للصنهاجة، هذا بالإضافة إلى نيامي، وسيكلارا وموسى السبع، ومكة موسى، وهم أشوار إفريقية، وطبعاً أحدثت أشوار خاصة بالعرب، وهي الغالبية".
هناك مدرسة صنهاجية وأخرى إفريقية. حين وصلت قبائل بني حسّان العربية، تغيّرت هذه الموسيقى، وأضيف إليها الرافد العربي الذي اتّخذ مما سبقه قاعدةً لبناء موسيقى حسّانية موريتانية
أما آلة "آردين"، فقال إنه "يمكن وصفها بكونها آلة موريتانية وبيظانية بحتة، وقد صُنعت بعد التِّيدِنِيتْ، وصنعها "إيگاون" العرب، وكل ما يُعزف عليها هو من إبداع "إيگاون". و"آردين" هي آلة وترية خاصة بالنساء، وأصل التسمية صنهاجي، وهي (أر أثين): ومعناها بالعربية معزف الجارية". ويضيف الباحث أن آردين بطبيعة أوتاره "قادر على عزف الكثير من المقامات، وفي الغالب يعزف بحور الموسيقى الأربعة: كرْ، وفاغُو، وسنيمة، ولبتيت. أو الخمسة، حسب بعض المدارس الموسيقية: كر وفاغو ولكحال ولِبياظْ ولبتيت".
© LINC
ويقول الباحث ولد أحظانا في دراسته: "إن الثراء الكبير في النغمات الموسيقية، وتداخل المقامات السباعية والخماسية في موسيقى التِّيدِنِيتْ، يعود إلى مساهمة إنشاد الشعر الشعبي والفصيح، بحيث أصبحت الآلة مفتوحةً على الأوزان الشعرية، وأصوات الإنسان".
ويؤكد قائلاً: "من الأدلة الشاخصة على ذلك، أن موسيقى الطوارق بالتيدنيت "تيهِرْدِنتْ"، لم تعرف هذا التطوير النغمي، لأنها صوحبت بحكايات نثرية، وإيقاعات قصيرة، ولم يصحبها إنشاد شعري طويل النفس". لذلك كان بارزاً إسهام القبائل الحسّانية في إثراء التيدنيت.
ثورة الغيتار
تُعدّ آلة الغيتار من أهم الآلات في الموسيقى الموريتانية الحديثة، وأحدث دخولها إلى الموسيقى الحسّانية ثورةً، وكانت بداية ذلك الولوج مع سنوات الاستقلال الأولى، وقال ولد أحمد زيدان: "بالنسبة إلى القيثار، فقدمت إلى موريتانيا في السنوات الأولى للاستقلال 1965 أو 1966. وهناك حكايتان حول أول من جلبها. تقول الأولى إنه على الأرجح قد أتى بها الفنان سيداتي ولد آبه، وإنه اشتراها من الخارج، من دون أن تكون لديه دراية بعزفها، بل أعجبته أوتارها وهيئتها، وهناك حكاية ثانية تقول إن الأستاذ أبوه ولد بوب جدو أول من اشتراها، وحين أحضر الغيتار لم يعزف عليها إيكاون، فالفنان سيداتي لم يستطع فك طريقة عزفها، فقام شقيقه الفنان الشيخ ولد آبه، وأهّلها، وعزف عليها أشواراً عديدة، مثل شور النظيف، وعزف في كل بحورها، وبعد ذلك قام سيداتي وعزفها أيضاً، وفي بداية السبعينيات دخل على الخط محمد الشيخ ولد السيد، وفُتحت له أبوابها وحول فيها عالم التِّيدِنِيتْ، وأصبحت قابلةً لأن يُعزف عليها ما يُعزف في التِّيدِنِيتْ، أما سيداتي والشيخ فقد صنعا فيها عالماً خاصاً بهما وكان ثرياً".
"مجتمع إيگاون مجتمع متعدد الأصول، لكن تجمع أسره ممارسة مهنة الفن، وتقاليد خاصة". تقاليد الموسيقى وسحرها في المجتمع الموريتاني
وأضاف المتحدث: "في منتصف التسعينيات، قام لوليد ولد سيدي ولد دندني، بنقلة نوعية سمّاها بالربع، وحالياً نعدّ أن الغيتار آلة تم تعريبها، أو قمنا ببيظنتها مثلما حدث مع التِّيدِنِيتْ".
وحسب الفنانة فرحة منت بوب جدو، التي تحدثت إلى رصيف22، فقد "أحدث دخول آلة الغيتار في الموسيقى المحلية ثورةً، أوّلاً على التِّيدِنِيتْ وآردين، إذ إن آلة الجيتار لها صوت يطغى على الاَلات المحلية الكلاسيكية، وحين دخل الجيتار الذي يحتاج إلى مكبر صوت يجعله آلةً قويةً. وبعد أن كان الحفل يقام بالآردين و التِّيدِنِيتْ، ولا شيء يعلو عليهما، أتى الجيتار، وقضى عليهما تقريباً، وهذا ما أدى إلى قلة العازفين الذين يتقنون العزف على التِّيدِنِيتْ والآردين اليوم، وأصبحنا نرى حفلاً لا توجد فيه التِّيدِنِيتْ. وأسهمت آلة الجيتار في جعل الموسيقى أكثر سرعةً، وراقصةً أكثر، بدل الموسيقى الكلاسيكية التي يعتمد فيها الأمر على جودة الكلمات، والعزف الهادئ، والتركيز على سماع الوتر، وحنجرة المطرب".
أداب مجالس أزوان
لمجالس أزوان، أو الطرب، آدابها وقواعدها، ويعدّ الفنانون أو "إيگاون" أنها تحافظ على التقاليد المجتمعية، وأزوان هو المصطلح العام الذي يُطلق على الموسيقى الحسّانية.
"من آداب مجالس أزوان، عدم التسرع. مثلاً تسير الموسيقى مع إيقاع صنع أتاي (الشاي)، وحسب ترتيب أتاي، مثلا عند الكأس الأول يكون هناك كرّ، ويستمر المقام حتى يشرب الكأس، ويستمر الأمر على هذا المنوال حتى تزار في تؤدة كل مقامات الموسيقى"، تقول منت بوب جدو، وتضيف: "لا يجب أن يُسكب الكأس الأخير إلا حين يصل العازف والمغنّي إلى المقام الأخير، وهو حال الفنان الذي يجب أن يراعي صانع الشاي لكي يحدث التناغم، وكذلك ألا يقال فيها ما يفرّق الجماعات".
ويقول ولد أحمد زيدان: "كان عند إيگاون أيام أولاد أمبارك، شورا اسمه "الزايق"، يعزف في "لبياظ"، حين يدخل شخص قام بفعل غير لائق، وحين يعزف يعرف الشخص أنه غير مرحّب به، فيأخذ نعليه، ويغادر، ولا يعود، ويعرف أنه منبوذ، فقد نبذته الموسيقى، وهو نوع من الضبط الأخلاقي يتم بالإشارة فحسب".
هكذا، فإن الموسيقى الحسّانية تتجاوز العزف والكلمات إلى نمط حياة راسخ في الثقافة الموريتانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه