علا في السّنوات الأخيرة صوت الموسيقى "البديلة" العربية بشكل ملحوظ، وباتت تلقى رواجاً أكبر وأوسع لدى الشباب في العالم العربي وفي شتاتهم. الموسيقى، التي جاءت بديلةً للموسيقى التجاريّة السائدة المسمّية بـ"الماينستريم"، أصبحت اليوم منتشرة أكثر من أيّ وقت مضى في أوساط الشباب العربي.
يمكننا الخوض في نقاش حول دلالات المسمّيات، وماذا نعني عندما نقول "موسيقى بديلة" – بديلة عن ماذا؟ وما هو تعريفها بالضبط في السياق العربي؟ لكن يمكننا الانطلاق من تعريفها بالموسيقى غير التجاريّة، الهادفة، التي تتميّز باستقلاليّة فنانيها عن شركات الإنتاج الموسيقي الكبيرة. كما يمكن تمييزها بأنّها تقدّم أغنية مختلفة عن الأغنية العربيّة الكلاسيكيّة.
في السنوات الأخيرة، سطع نجم الكثير من المغنيين/ات السوريين/ات في مشهد الموسيقى البديلة السوري بخاصّة والعربي بعامّة، معظمهم باتوا يتواجدون اليوم خارج سوريا. منهم ثلاث فرق موسيقيّة من الجولان السوري المحتل، وهي: فرقة "توت أرض" وفرقة "هوا دافي" وفرقة "نص تفّاحة".
لماذا تلقى الموسيقى البديلة رواجاً وتمثيلاً كبيراً في مجتمع صغيرٍ كالمجتمع السوري المتبقّي في الجولان؟
المثير لدى الحديث عن هذه الفرق الثلاث، التي حظيت باهتمام ومشاهدات كبيرة نسبياً على المستويين العربي والسوري، أنّ جميعها فرق محليّة تأسّست في الجولان وتنشط من الأراضي المحتلّة.
وعلى الرّغم من التعداد السكّاني القليل للسوريين المتبقّيين تحت الاحتلال الإسرائيلي اليوم (25 ألفاً، مقابل نصف مليون جولاني مهجّر خارج الجولان) فقد نجح الجولان بتقديم أضافة لا بأس بها إلى مشهد الموسيقى البديلة السوري والعربي. وبمفارقة كبيرة، أصبح الهامش الذي خلقه إرباك الهويّة الجولانيّة مساحة للإبداع. هذه الهويّة، التي لم تعد بيضاء أو سوداء بالنسبة للجيل الجديد، كونه سوريّ بالأصل لكن يعيش في جغرافيا محتلّة ووسط ثقافة فلسطينيّة، أصبحت أرض خصبة للتنوّع الموسيقي واللعب مع التراث ومع المسلمات الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة التي عاشها الجولان لعقود طويلة.
صوت معاصر للثورة
استطاعت كلّ فرقة أن تشكّل أسلوبها المختلف. ففرقة "توت أرض"، مثلاً، تخلط أساليب كالبلوز والريغاي والسايك-روك والموسيقى الصحراويّة الشمال أفريقيّة، بموسيقى الديسكو والدبكة العربيّة، مضيفةً في بعض الأحيان نغمات من الموسيقى العربيّة الكلاسيكيّة. يستعمل الأخوان رامي وحسن نخلة اللهجة الجولانيّة المحليّة كتابتهم لنصوص الأغاني التي تقدّمها فرقة "توت أرض". تجرّ اللهجة علاقة حاضرة بشكل ملحوظ مع الطبيعة، فنسمعها في الكثير من الأغاني. الأرض حاضرة في اسم الفرقة، كذلك، وهو ما يميّز الجغرافية الجولانيّة التي يبني معها الجولانيّون علاقةً يوميّة من خلال زيارة أرضها وزرعها وحصد محاصيلها من التفاح والكرز. نجد في موسيقى "توت أرض" أيضاً الكثير من الإيجابيّة، على خلاف بعض الموسيقى البديلة العربيّة، الحزينة والتي تعبّر عن الأوضاع النفسيّة والسياسيّة للشباب العربي اليوم. إلا أنّ موسيقى "توت أرض" دائماً ما تُعطي جرعة إيجابيّة جميلة؛ تعبّر فيها عن أفكار تتعلّق بهدم الحدود المتخيّلة في بلاد الشام، وتتطرّق إلى السياسة من النظرة الإنسانيّة الخالصة، بعيداً عن قيود الأيديولوجيّات.
على وثيقة "ليسيه باسيه" مكتوب في خانة القومية: "غير مُعرّف" (لن تعرّفنا إسرائيل كسوريين، فهذا يثبت سورية الجولان، إذ نحن مواطنون سوريّون بدون أي إثبات قانوني لذلك، وبسبب رفض الجولانيين للجنسية الإسرائيليّة، أمسينا "غير معرّفين")
أما فرقة "هوا دافي"، فتدمج هي أيضاً، كما الموسيقى العربيّة البديلة عامة، بين أساليب موسيقيّة عديدة كالجاز والروك والموسيقى الكلاسيكيّة والغجرية. فنجد الجيتار الإلكتروني والباص والدرامز والسكسفون إلى جانب العود. وبينما تذكّرنا "توت أرض" بموسيقى الطوارق والريغي الجامايكي، تذكّرنا "هوا دافي" ببينك فلويد (إذا كان روجر ووترس امرأة) وبالبروغريسيف روك إذا أضيف إليه بعض الجاز والعود.
تستعمل "هوا دافي" أيضاً اللهجة المحليّة الجولانيّة في معظم أغانيها، الشيء الذي يميّزها في المشهد العربيّ البديل. أما بخصوص المضمون، فألبوماتها تتكلّم بشكل مباشر عن قصّة الجولان والأراضي المحتلّة كما يراها أعضاء الفرقة (اسم الألبوم الأخير هو "قصّتنا" وعلى غلافه يظهر تصميم لفتاة تغطّي رأس على خلفيّة مشهد التهجير الجماعي من مخيّم اليرموك في سوريا). تُطرح هذه القصّة بشكل غير مباشر وغير مألوف كما في الأغاني الملتزمة التقليديّة، بل بشكل تعبيريّ جميل يتجلّى في اللحن والكلمة معاً. موسيقى "هوا دافي" تتواصل مع الجانب الحزين والهادئ فينا. فهي تحاكي الأرق والأمل اللذان يثيرهما الحب والسياسة والثورة التي نعيشها.
أمّا فرقة "نص تفاحة"، فلعلّها حظيت بشهرة أقلّ عربياً مقارنة ببقيّة الفرق، على الرغم من كونها معروفة سورياً. توقّفت عن إصدار الأغاني منذ عام 2014. لكنّها، مثل أكثريّة المبادرات المدنيّة التي انطلقت مع الثورة السوريّة وتوقّفت في السنوات الأخيرة، تجربة تستحق المعاينة والنظر. "نص تفاحة" تتفاعل في جميع أغانيها مع أحداث ومضامين تتعلّق بالثورة السورية بشكل حصريّ. وتتميّز أغانيها بالمزج بين اللهجة الجولانيّة المحلية واللهجة المدنيّة السوريّة، فهي لم تهدف إلى الانتشار محليّاً بل سورياً.
عَ الهوية أني مش موجود... بلا جنسية ولا عندي حدود وإذا بتسألني بقلك بعزف عالعود/ بالموسيقى أني عصفور طيّار"
يمكن تقسيم أغاني "نص تفاحة" إلى مجموعتين، الأولى مليئة بالرّوح الثوريّة، تدعم الثورة وتشجّع الثوار في الشوارع السوريّة، كأغنية "محل زغير ومسكّر" الداعمة للإضراب والعصيان المدني عام 2012، والثانية تحتوي على أغاني حزينة ورثائيّة، تعبّر عن ألم الحرب والمجازر والخسارات التي أُنزلت بالثورة وأهلها، كأغنية "ولادة". أسلوب "نص تفاحة" يذكّرنا بالروك السوري في أواخر التسعينات وأوائل سنوات الألفيّة الثالثة. تقدّم خليطاً من الموسيقى العربيّة والسوريّة وبعض أساليب الروك البديل. وعلى الرغم من كون فرقة "نص تفاحة" هي الوحيدة ذات الصلة الحصرية والمباشرة مع الثورة السورية، فعلينا الإشارة هنا إلى أن الفرق الثلاث تأسست ونشطت بعد حدث الثورة السورية، بتواصل مباشر معها ومع أفكارها وروحها، سيّما في بدايتها. هدف هذا التواصل إلى تقديم شيء لأبناء الثورة، فتصبح الموسيقى بذلك تعبيراً عن جوهرية سوريا في الهوية الجولانيّة الفنيّة.
على الرّغم من التعداد السكّاني القليل للسوريين المتبقّيين تحت الاحتلال الإسرائيلي اليوم، فقد نجح الجولان بتقديم أضافة لا بأس بها إلى مشهد الموسيقى البديلة السوري والعربي. وبمفارقة كبيرة، أصبح الهامش الذي خلقه إرباك الهويّة الجولانيّة مساحة للإبداع
إطالة عمر التراث
تتميّز الموسيقى البديلة العربيّة، بعامّة، بتقديم محتوى تراثي أو تقليدي بحلّة جديدة. قد نسمع صوت أم كلثوم ممزوجاً بإيقاعات إلكترونية، أو إعادة توزيع لبعض الأغاني الشعبية، أو مزج لآلات غربيّة وعربيّة تقليديّة. وفي هذا الفعل، إحياء صريح للتّراث، ومحاولة لتقديمه بحلّة جديدة قد تكون مقبولة أكثر على الأجيال الصغيرة، وبالتالي الحفاظ عليه و"الإطالة من عمره".
من المنطقيّ أن يختار الفنّان تراثاً يرى فيه بأنّه يستحق الحفظ والاستمرار. الموسيقى البديلة في الجولان فعلت ذلك أيضاً؛ أغنية "حبيتك" لفرقة "توت أرض"، على سبيل المثال، هي من أغاني الحب الشعبية الشهيرة في جنوب سوريا عامةً وفي السويداء وقرى جبل الشيخ خاصةً. ألّفها شاعر من شعراء الجبل الذين يكتبون باللغة المحكيّة وبالأسلوب الارتجاليّ. قد يتعرّف إليها كلّ من يحضر سهرات الأعراس أو سهرات العرق والعود مع الأصدقاء. في نسخة توت أرض، أضيفت إلى الأغنية روح متجدّدة وعصريّة.
أمّا فرقة "هوا دافي"، فاختارت أغنية "أناديكم" للفنان الملتزم أحمد قعبور، وقامت بتقديمها بحلّة جديدة. ولعلّ اختيار الأغاني ليس عشوائياً، فالفرقة ترى بشكل واضح في "أناديكم" أغنية مهمّة ذات رسالة ترتبط بالواقع الحالي المتجدّد والمتغيّر. ولذلك يتم إعطاؤها قالب جديد، متجدّد ومتغيّر، شبيه بإيقاع الريغي الجامايكي، يتصدّره غناء نسائيّ. أتذكّر الحفلة الأولى التي حضرتها لهوا دافي، كانت قدّمت فيها هذه الأغنية، فتحمّس بعض الشباب واعتلوا الأكتاف ورفعوا علم الثورة السورية.
أمّا فرقة "نص تفاحة"، فقد حوّلت كلمات إحدى المراثي الأشهر في قرى شمال الجولان المحتل إلى أغنية ترثي شهداء سوريا جميعاً، بالاشتراك مع المغنية سهير شقير. هكذا، قدّمت الفرقة مادة تراثيّة بحلّة جديدة تعبّر عن السوريّين اليوم، في اللحظة التي خانتنا فيها جميع الكلمات، وأُفقِدنا حتى القدرة على التعبير عن حزننا لهوله. "سوريا الحب الحلم المالو حدودي" هي أغنية مستوحاة من رثاء ابن قرية مجدل شمس المجاهد أسعد كنج أبو صالح قائد منطقة إقليم البلّان في الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين، ومُهداة إلى شهداء سوريا وثورتها، ثورة الحريّة التي جاءت بعد الأولى التي كانت ثورة من أجل الإستقلال.
الحياة على الهامش
لماذا تلقى الموسيقى البديلة رواجاً وتمثيلاً كبيراً في مجتمع صغيرٍ كالمجتمع السوري المتبقّي في الجولان؟ لماذا البديلة عوضاً عن التقليديّة؟
لا شكّ أنّ الموسيقى التقليديّة والتراثيّة موجودة في الجولان أيضاً، لكنّها موجودة بشكل طبيعيّ، بينما للموسيقى البديلة عوامل وأسباب ظهور اجتماعيّة وسياسيّة أعمق. من بين هذه الأسباب هو الهامش الهويّاتي الذي يميّز المجتمع الجولاني.
ففي هذا الهامش الكثير من الحريّة. عندما يكبر الشرخ بينك وبين المسلّمات، هنالك في الفوضى، لك أن تكون ما تريد. لكَ أن تخلط الدبكة مع الديسكو. إن اعتبرنا الموسيقى التقليديّة هي إحدى هذه المسلّمات
ماذا أقصد بالهامش؟ أقصد الهوية المركّبة والتعريف الذاتي الضائع. الجولانيون ليسوا فلسطينيين، لكنهم يعيشون جغرافياً ويفعلون سياسياً كالفلسطينيّين. هم سوريّون، لكن معظمهم لم يرى سوريا في حياته. شعار "لنا وطن لم نعش فيه ولكن عاش بنا"، الذي أصبح كليشيه، دقيقٌ جداً في هذه الحالة. بعد اندلاع الثورة السورية وتفاعل المجتمع الجولاني معها، وتأثيرها العميق على الهويّة والأفكار الوطنيّة والسياسة وعلى التطلعات والآمال للجولانيين، أصبح هذا "الهامش" أكثر اتساعاً، فكبر الشرخ بين الجولاني الشاب وبين المسلّمات التي كانت دائماً حاضرة في المجتمع منذ الاحتلال، كالوطن والمقاومة والعودة.
الجولانيون ليسوا فلسطينيين، لكنهم يعيشون جغرافياً ويفعلون سياسياً كالفلسطينيّين.
في هذا الهامش ضياع كبير، ضياع يخيفني شخصياً في بعض الأحيان، ولكن الحقيقة أكثر تعقيداً من خوفي: ففي هذا الهامش الكثير من الحريّة. عندما يكبر الشرخ بينك وبين المسلّمات، هنالك في الفوضى، لك أن تكون ما تريد. لكَ أن تخلط الدبكة مع الديسكو. إن اعتبرنا الموسيقى التقليديّة هي إحدى هذه المسلّمات. المسلّمات التي تلقى نفوراً كبيراً عند شباب الرّبيع العربي. فقد بات من الواضح أنّنا بحاجة ماسّة للتغيير الجذري، بعد أن تبيّن أن المشاكل التي تفجّرت في وجوهنا جذريّة. من المثير النظر في التأثير الكبير الذي أحدثته الثورة السورية وأحداث الربيع العربي في المجتمع الجولاني الصغير، فالجولان المحتل قبل 2011 مختلف جداً، بينما نجد تفاعلاً أقلّ حدّة وأقلّ تأثيراً وظهوراً في باقي الأراضي المحتلة (في فلسطين التاريخيّة).
عن الحياة على الهامش، وعن الحريّة التي فيها، غنّت فرقة توت أرض أغنية "ليسيه باسيه" (2017).
وليسيه باسيه بالفرنسية تعني "وثيقة سفر"؛ وهو اصطلاح دولي يشير إلى وثائق سفر تعطى لمن ليس لديهم جنسيّة أي بلد ولا جواز سفر. هذه الوثيقة تصدرها سلطات الاحتلال لسكّان شرقيّ القدس الفلسطينيين وللسوريين في الجولان المحتل بشكل حصريّ.
في هذه الوثيقة مكتوب في خانة القومية: "غير مُعرّف" (لن تعرّفنا إسرائيل كسوريين، فهذا يثبت سورية الجولان، إذ نحن مواطنون سوريّون بدون أي إثبات قانوني لذلك، وبسبب رفض الجولانيين للجنسية الإسرائيليّة، أمسينا "غير معرّفين"). هذا هو الهامش بالضّبط. وهذه الأغنية هي احتفاء بذلك: "عَ الهوية أني مش موجود... بلا جنسية ولا عندي حدود وإذا بتسألني بقلك بعزف عالعود/ بالموسيقى أني عصفور طيّار".
الموسيقى هي التي تحرّرنا بعيداً عن الحدود الاصطناعية وحواجز الاحتلال، فيها نستطيع أن نكون ما نريد. "ببدّل ريشي وبغيّر أوتار... عربي إفريقي، عود وجيتار" – نكون ما نريد، نخلط العربي بالإفريقي والعود بالجيتار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع