بعيدة عن عدسات الكاميرات ووسائل الإعلام لكنها قريبة من الجمال. هكذا قد تلخص مدينة بْنِي مَلاَّلْ المغربية التي تقع وسط المغرب، والتي تعرف عند عموم المغاربة بأنها أرض الزيتون والماء والخضرة والجبال التي يكسوها البياض.
مدينة الشموخ
تبعد عاصمة إقليم بني ملال، خنيفرة، عن العاصمة الرباط ب 300 كيلومتر. ما إن ندخل المدينة حتى تستقبلنا الطبيعة الخلابة والمناظر الطبيعية ومروج واسعة من هنا وجبال شامخة تخفي أمجاد وتاريخ منطقة بني ملال والأطلس المتوسط عموماً، حيث الشموخ والمقاومة وصمود الأهالي للاستعمار الفرنسي. يستقبلنا الأهالي بكرم الضيافة وبالكرم المعروف عن سكّان المنطقة. وأينما أدرنا وجوهنا فهناك بيت أو مقهى أو محل يستضيفنا بوجه بشوش وكرم كبير.
بني ملال ليست ككل المدن فهي، في وجهة نظر المؤرخين والباحثين في التاريخ، مدينة تشهد على قدم حقب قديمة، ويعتبرون أنها من أقدم الأماكن التي عمرها الإنسان في المغرب. دليلهم في ذلك راجع لانتشار الكهوف التي يبدو أنها من صنع الإنسان، وليس نتيجة عوامل طبيعية، بالنظر إلى مواقع هاته الكهوف وأشكالها وهندستها.
تتواتر الأساطير عن تسمية "عين أسردون" باسمها الأمازيغي البغل. لكنها تقدم قصّة لمن نجحوا في إيجاد عين ترعى بني مدينة بني ملال المغربية
لا تكتمل زيارة مدينة بني ملال دون المرور على أزقتها القديمة وصهاريج مياهها العذبة التي تؤثث فضاءات المدينة، ولا يحلو الجلوس ببني ملال دون القيام بجولة نحو شلالات وقصر عين أسردون، حيث تقع عين طبيعية في المنطقة السهلية التابعة ترابياً لمدينة بني ملال.
في عين أسردون توجد المياه العذبة والشلالات التي تشكل منظراً خلاباً يسرّ الناظرين، تحيط بالشلالات أشجار من كلّ جانب حتى يوحى إلى الزوار أن المكان جنة فوق الأرض، والأجمل وسط كل هذا هو الجوّ المنعش في الصيف والمعتدل في الشتاء والخلاب في فصلي الربيع والخريف، ولكل فصل طقوسه وأجواؤه، ولكل طقس حكايات يرويها الأجداد ويتوارثها الأحفاد.
أسطورة عين أسردون
تتعدد الحكايات والأقوال المتوارثة عن أصل التسمية بعين أسردون، ولفظة أسردون كلمة أمازيغية تعني "البغل" أي عين البغل، وهو ما حثنا عنه في التراث غير المادي المحلي حول هذه التسمية التي قد تبدو غريبة من الوهلة الأولى. تعود جذور التسمية حسب رواية أولى إلى أن أحد الرعاة هو من اكتشف منبع عين أسردون، وبعد حدوث خلاف مع إحدى القبائل بشأن الرعي في العين، عمد وضع كمية هامة من الصوف بالمنبع الأصلي، مما جعل المياه، تحتبس وهذا ما أضرّ بالسكان، فاستغل الراعي الوضع ليقوم بمقايضتهم، حيث اشترط على القبيلة أن يمدّوه ببغل ليريهم منبع العين، وهو ما حصل بالفعل، فأصبحت تلك الواقعة سبباً في التسمية.
رواية أخرى غير بعيدة عن الأولى تقول إن رجلاً كان يغسل الصوف بمعية زوجته على ضفة نهر وادي العبيد، عندما اكتشفا أن جزءاً مهما من الصوف ضاع منهما بسبب قوة التيار المائي، ليكتشف الراعي بعدها منبع عين أسردون بغية الحصول على المال من أهل القبيلة، وهو ما حصل حيث قدمت له بغلاً (أسردون) محملاً بالمال. وهناك من يتجاوز ذلك للقول إنه حصل على ذهب من القبيلة، مقابل إعادة المياه إلى مجاريها، فسميت هكذا "عين أسردون".
تقول رواية شفهية أخرى أن امرأة أمازيغية كانت تسقي الماء من فتحة بمجرى مائي باطني بالجبال تحت سطح الأرض، فسقطت الآلة التي كانت تستعمل سابقاً في جلب الماء من السواقي والمعروفة باسم "الكُلَّة"، فأخذها التيار المائي الذي كان مرتفعاً تحت الأرض، حتى وصلت إلى أحد البساتين بالسهل القريب من المجرى المائي.
وتضيف الرواية أن صاحب البستان كان صديقاً لزوج تلك المرأة، وعند إحدى زيارات الزوج لصاحب البستان طلب منه أن يسقيه ماءً، فقدم له الماء في الإناء الذي وصل عبر المجرى، فعرف الزوج أن الإناء يعود لزوجته، وعند رجوعه إلى المنزل مساءً طلب من زوجته توضيحات عن وصول الإناء إلى منزل صديقه، فأخبرته بالقصة كاملة، فتيقّن أن ذلك الماء الذي لم يكن يعرف في السابق مكان مجراه الأخير أنه يروي بساتين بني ملال. فأوقف تدفق مياه المجرى المائي بالحجارة ليخبر سكان بني ملال، ويطلب منهم مقابل إعادة العين إلى مجراها الطبيعي ملءَ حمولة بغل بأشياء طلبها، فلبّوا طلبه، فأعاد إليهم ماء العين. وفعل ذلك مرة أخرى فعاهدوه إن أعاد فتحها ثانية لبّوا طلبه، ففعل وقصدهم لتلقي ما واعدوه به فقتلوه.
عين يحرسها قصر "ملّال"
في قمة الهضبة قصر يطلّ علينا سمي بقصر عين أسردون أو ما يعرف بقصر ملاّل، الذي يعتبر رمزاً للمدينة ومنارتها المضيئة، وقد بنته قبائل بني ملال، أو ما كان يعرف في التراث القديم عند أمازيغ المنطقة بـ"آيت ملال"، إذ قامت بتشييده في فترة تاريخية معينة على قمة من الجبال المحيطة بالعين لحراسة المنطقة، وكذا تأمين المجرى المائي، ويرجع سبب بنائه إلى صراع قديم نشب بين سكان قبائل بني ملال العربية بالسهل، وبعض مكونات قبيلة آيت شخمان الأمازيغية حول من يتحكم في هذا المنبع.
تقول روايةٌ إن هذا القصر التاريخي يعود لأحد رجالات المنطقة القدامى. كان الرجل يتخذ من القصر مسجداً أو زاوية للتعبد، وكذلك مركزاً بمراقبة المنطقة والممرات القريبة، بحكم الموقع الاستراتيجي المطلّ على السفح وعلى الممرات وجنبات المدينة. ويتألف قصر ملال من أربعة أبراج تم تشييدها فوق هضبة.
بني ملّال المغربية مدينة تعتبر جنة للباحثين عن الراحة والخلوة في حضن الطبيعة، وتعود أصولها إلى أزمنة قديمة
يعتبر قصر عين أسردون من أهم الأبراج التي شيدت واستعملت كحصن وقاعدة عسكرية دفاعية لحماية سواقي "عين أسردون" من الاحتكار ومن محاولات إيقاف مجرى العين، وكذا من المحاولات الرامية إلى تلويث العين التي تستعمل للسقي والشرب، خصوصاً خلال فترات الاضطرابات والصراعات القبلية التي اشتدت في تلك الفترة. وغالباً ما يكون سبب تلك الصراعات القبلية حول السقي واستعمال الماء وتوزيعه وحيازته بين القبائل. وكانت مياه عين أسردون تخضع لنظام تقسيم واستغلال منظّم ومحكم من طرف القبائل التي تستغل الماء للسقي وجلب الماء وفق تقسيم متوافق عليه بين قبائل أولاد اسعيد، وأولاد حمدان، وأولاد عياد، وامغيلة.
وقد ظل قصر ملال أو قصر عين أسردون معلمة تأبى النسيان وتصارع التآكل. فعلى الرغم من مرور أزيد من سبعة قرون على تشييد “قصر ملال”، فلا زال يشكل معلمة شامخة تصارع لأجل البقاء، لتحكي تاريخ وأمجاد القصر الذي روي عنه الكثير، واستعمل لحماية السواقي والسهول وسكان المنطقة، وكان حارس العين التي لا تنام.
وجدانياً وتاريخياً وبشكل حميمي، ارتبط هذا المنتجع، الذي تم تصنيفه تراثاً وطنياً عام 1947، بذاكرة وعراقة تاريخ مدينة بني ملال وحياة ساكنيها.
سفر في الذات
ليست عين أسردون، بالنسبة للباحثين عن الإبداع والصمت والتأمل، مجرد منتزه عادي. كما أنها ليست مكاناً ارتبط تاريخياً بأساطير تتناقلها الأجيال، بل هي جنة يهربون إليها للإبداع والبحث عن الصفاء والتجلي في عوالم الطبيعة تحت غصن شجرة معمرة أو بجانب مسرب مياه عذبة أو في ركن بعيد عن أي عنصر من عناصر الطبيعة الخلابة حيث الصفاء والنقاء والسمو. عين أسردون فضاء سياحي فريد، جذبت حدائقه أهل الفن والشعر والزجل والموسيقى المغربية الأمازيغية المعروفة عند أهل الاطلس.
قال الحاج حمادي ملوك في وصف عين أسردون في قصيدة زجليّة:
"عين أسردون الباهية شرَّبْنِي من ماك *** من تحت الجبال جارية سبحان من صفاك
خلقك الله الودود وزيّنك بالورود *** الله الكريم الموجود لبني ملاّل ملاك أهداك".
كلمات لحنها الشاعر المرحوم معتام شرود، ولقنها للتلاميذ لحناً غنائياً جميلاً في المدرسة الابتدائية في نهاية خمسينيات القرن الماضي.
وهي عند الصائمين صيفاً ملاذ من حرّ الشمس الملتهبة في شوارع بني ملال، وهروب من ضجيج الشوارع والأسواق، وهي كذلك ركون إلى زاوية باردة بمائها المنساب وهوائها الطاهر النقي حيث السكون والخلوة، وحيث يحلو التعبد والصلاة وقضاء طقوس الصائمين من إفطار وصلاة وغيرها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...