أدخل الفسحة المخصّصة للقداسة بخشوع، وأرتدي ثوب هذا الهدوء الظاهريّ الذي يتربّص خلفه الكثير من الاستسلام والخوف، وطيف يأس تحوّل مسكني في الأشهر الماضية.
أستعد لتمضية أمسية ساكنة، تحضن أوتارها لحظات انكساري العابرة، والعاصمة في الخارج تنام على صدى الهجرة والموت البطيء. الذكريات تحوّلت أرجوحة التسلية الوحيدة التي لم تهجرنا بعد، لم تملّ بعد من حروبنا الصغيرة.
جاز وحرية
لا شيء يحضّرني لموشّح "حبي زرني ما تيسر" المطعّم بأنغام الجاز التائهة في رواق الحريّة. ولا أحد يحضّرني لهذا الانفجار الداخلي الجميل الذي سيولد في داخلي ما إن تصطدم روحي بالخلق والإبداع، وعناصر مخمليّة وأنيقة أخرى بتنا نتعامل معها وكأنها كماليّات في بلد يموت أفراد شعبه يومياً وهم أحياء.
والأنغام، بعد هنيهات ستتحوّل مشهيّات أقرب إلى "السومون" الفاخر، في وقت بالكاد نستطيع أن نتحاور مع منقوشة الزعتر لنخبرها عن جوعنا المزمن لحياة لم يبق منها أكثر من اسمها. لا شيء في الهدوء النسبي في كنيسة مار الياس القائمة في منطقة القنطاري البيروتيّة، التي اتخذها الرؤساء بشارة الخوري وكميل شمعون وإميل إده "موطنهم" ذات يوم بعيد، ينذرني بأن الخلق سينتشلني من بحيرة الموت التي بتنا جميعاً سجناء فيها، وبأنني سأبكي من الفرح لأنني استعدت أحاسيسي بعدما كنت قد وضعتها بترتيب في عليّة مخيّلتي التي عنونتها: "هيديك الحياة".
دقائق قليلة قبل الحفل الذي تنظّمه "Beirut And Beyond" التي تكرّس جهودها لتشجيع موسيقى المنطقة العربية المستقلة منذ العام 2013.
لا شيء في الهدوء النسبي في كنيسة مار الياس القائمة في منطقة القنطاري البيروتيّة، ينذرني بأن الخلق سينتشلني من بحيرة الموت التي بتنا جميعاً سجناء فيها، وبأنني سأبكي من الفرح لأنني استعدت أحاسيسي بعدما كنت قد وضعتها بترتيب في عليّة مخيّلتي التي عنونتها: "هيديك الحياة"
الفرسان الأربعة
ليال شاكر، طارق يمني، مكرم أبو الحسن وخالد ياسين، "يدوزنون" على الآلات الموسيقيّة التي تعكس بعض ما حصل في الطريق، والكثير مما كان سيحصل لولا ومضات الجبن الهاربة. تتوقف أصابع ليال عن الرقص مع أوتار آلة الكمان المؤتمنة على أسرارها والشاهدة على نزواتها، ما إن تلمحني.
ضحكة كبيرة تزيّن وجهها. نتبادل القبلات الطائرة "احتراماً" لفيروس عرّانا من وقارنا الظاهري. إنها المرة الأولى التي نقف فيها وجهاً لوجه بالرغم من تواصلنا افتراضياً منذ أكثر من عام. تخبرني عادةً عن يوميّاتها في نيويورك، هي التي يروق لها ركوب الدرّاجة الهوائيّة في شوارع هذه المدينة التي يهرب كثر من جموحها الذي يجاور الجنون، ليعودوا إليها بعد فترة طالبين السماح.
أختار المقعد الذي يستقر في تلك الزاوية، هناك، حيث النور خجول. "خيّ، لن يراني أحد"، ولن يمسّيهم الموت الذي بتّ أرتديه ثوب أيامي، و"مسّيك بالخير يالّلي ما حدن مسّاك".
والناس يدخلون تباعاً في الفسحة المخصصة للقداسة. يرسلون القبلات الطائرة بدورهم لليال بثوبها الرومنطيقي الطويل، وتسريحة شعرها التي تغمز إلى بطلات الروايات التي كتبها التاريخ. وطارق يمني، مكرم أبو الحسن وخالد ياسين يدوزنون على الآلات، ويضعون اللمسات الأخيرة على الأنغام التي سيصفق لها الحضور مطولاً، شاكرين هؤلاء الذين أعادوا إلينا القليل من الفرح. القليل من الحياة.
حفلة حميميّة نظراً للفيروس القاتل الذي عرّانا من وقارنا الظاهري، وصوت ليال صغير وناعم وهي ترحّب بنا: "بيروت، It’s Been a while"، كلمات كتبتها على حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، والحفلة بالنسبة للفرسان الأربعة أقرب إلى العودة إلى الوطن، والأنغام مجنونة، تنساب بمخمليّة كاذبة، تخفي خطورتها خلف ستار الأناقة المهذبة.
بالنسبة لهؤلاء الفرسان الأربعة الحفلة كانت أقرب إلى العودة إلى الوطن. وبالنسبة لي كانت أشبه بالعودة إلى الحياة بعد انقطاع وعزلة
البرنامج ينطوي على مؤلفات الموسيقيين الشخصيّة وبعض من مقطوعاتهم التي لم تطرح في الأسواق بعد، والساحر طارق يمني يغوي البيانو ويمزّق روحي بنسخته الشخصية من موشّح "حبي زرني ما تيسر"، هو الذي تعشقه نيويورك، وخالد ياسين يحوّل الإيقاع أجساداً غضّة ترقص هرباً من الخوف، ومكرم أبو الحسن ينتقل في حياته اليوميّة بين الجاز والروك والأنغام الكلاسيكيّة والأخرى العربيّة بسهولة مقلقة، وها هي آلة الباص العملاقة تلتوي بين يديه بألم شهيّ.
وليال تتحاور مع آلة الكمان بلغة سريّة لا يتقنها سوى المجانين، وتضحك في اليوم التالي عندما نتحدث عبر الهاتف، قائلة إنها "أول ما خلصت الحفلة ركضت لعند شمس"، ابنها الذي يريد أن يشاركنا الحديث، فتجيبه: "شو شمّوس ماما؟ شو حبيبي؟".
بالنسبة لهؤلاء الفرسان الأربعة الحفلة كانت أقرب إلى العودة إلى الوطن. وبالنسبة لي كانت أشبه بالعودة إلى الحياة بعد انقطاع وعزلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
حوّا -
منذ يومشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ يوميناي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياموحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامصادم وبكل وقاحة ووحشية. ورسالة الانتحار مشبوهة جدا جدا. عقاب بلا ذنب وذنب بلا فعل ولا ملاحقة الا...
mahmoud fahmy -
منذ أسبوعكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم